29-نوفمبر-2020

الأسباب التي تجعل المتضرّر يفرّط أحيانًا في حقّه فلا يعتصم بالقضاء ولا يستأنس بحماية "الروب" الأسود (Getty)

 

مقال رأي

 

من آيات التمدّن وعلامات التحضّر أن يستجير المتضرّر بالقضاء طالبًا حقّه وكرامته دافعًا عن نفسه الضرر والأذى، فيتوخّى في ذلك التراتيب التي ضبطتها القوانين والتشريعات المنظمة لمسالك العدالة في مختلف درجاتها.

هذا المسار يظلّ في كلّ الأحوال أسلم وأكثر إنصافًا من ثنايا أخرى قائمة في الغالب على العنف والأخذ بالثأر والتحيّل وغيرها من الممارسات التي تشرّع لقانون الغاب أو "التسويات المريبة" القائمة على الضغط والتهديد والابتزاز والغشّ وتبادل المصالح على حساب النظام والحقّ العام.

لا شكّ أنّ بعض المراحل الانتقاليّة الكبرى تقتضي بالضرورة الاستئناس بالمنظمات الوطنية والحقوقية، يحدث هذا خاصّة بُعيد الثورات والحروب الأهليّة، فيكون دور تلك الأجهزة المساهمة في فضّ عدد من القضايا الموغلة في الاتساع والعمق والدقة والخطورة، لكنّ هذا المنحى استثنائيّ مهما علا شأنه التاريخي والاعتباري، فالمرفق القضائي هو الوجهة التي لا غنى عنها لأنه الأبقى والأوثق خاصّة في فترات الاستقرار المدني والسلم الاجتماعي.

في جوان 2020 تخطّت حالات العنف في الفضاء العام المعدّلات السابقة بنسبة 52 في المائة وفق تقرير صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

من البديهي إذًا أن يتّجه المواطن المتضرّر إلى المراكز الأمنيّة أو وكلاء الجمهورية ليتظلّم مهما كان خصمه، وبناء على ذلك فإنّ ارتفاع عدد القضايا المنشورة في المحاكم لا نراه راجعًا فقط إلى تزايد الجريمة في تونس إنّما نعتبره كذلك علامة صحيّة ومؤشرًا على التمدّن والتمسّك بالقضاء سبيلاً لا غنى عنه لاسترداد الحقوق.

لا أحد ينكر الكمّ الهائل من القضايا التي أقضّت مضجع القضاة وكدّت أيديهم وأذهانهم واستنزفت أوقاتهم وطاقاتهم، فعددهم لا يتخطى 2500 قاضيًا وعدد الملفات التي تكدست على مكاتبهم  تتجاوز في السنة الواحدة المليونين ونصف.

وما يجعل الأمر أشدّ تعقيدًا التزايد المفزع لعدد الجرائم، ففي شهر جوان/ يونيو 2020 تخطّت حالات العنف في الفضاء العام المعدّلات السابقة بنسبة 52 في المائة وفق تقرير صادر عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

هذه الأرقام تظلّ بالنسبة إلى المواطن الذي يعاين ألوان الجريمة ويعانيها كلّ يوم أدنى بكثير ممّا يحدث في الواقع، لا أبالغ إن قلت إنّ التونسيّ سائقًا أو مترجّلاً أو واقفًا أو جالسًا في مكتبه لو أبدى حرصًا على تتبع كلّ من يتسبب له في إحراج أو إساءة أو ضرر وهو في الحي أو الطريق أو في المؤسّسات العمومية، لعاد كلّ يوم إلى البيت وفي حقيبته عشر قضايًا على الأقلّ، وهو ما يبيح لنا التساؤل عن الأسباب التي تجعل المتضرّر يفرّط أحيانًا في حقّه فلا يعتصم بالقضاء ولا يستأنس بحماية "الروب" الأسود، يمكن إرجاء هذا الإحجام أو التردّد إلى أربعة أسباب على الأقل.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن جرائم العنف و"البراكاجات" في تونس؟

1 ـ تشعبٌ وطولٌ وتعقيدٌ 

يعدل العديد من المتضرّرين عن الاستنجاد بمرفق العدالة خشية "مضيعة الوقت ومتاهة الفكر"، بين أعوان الأمن وعدول الإشهاد وعدول التنفيذ والمحامين والشهود والكتبة والإداريين والقضاة ومحلات النسخ ومعالجة النصوص، أوراق ومطبوعات وملفات ونوافذ وأبواب وأروقة هنا وهناك تضيق فيها الصدور والأنفاس، فيسكن القلبَ والعقلَ يقينٌ بأنّ نظام التقاضي في تونس متشعّب طويل معقّد متداخل ملتوٍ مركّب، فالمتظلّم على هذا النحو لا يمكن أن يحلم ببلوغ مأربه إلّا إذا توفرت فيه سبع خصال على الأقل التفرّغ والصبر واليقظة والمعرفة وحسن التدبير والمال الوفير والمهارة في تدوين الأرقام وحفظ السجلات وتذكّر المواعيد، فرُبَّ غَفْلةٍ تُعقب فَوْتًا ورُبّ نسيانٍ يُخلّف خُسرانًا، في هذه الحالة يمكن القول "ما ضاع حقّ وراءه طالب طويل النفس شديد الإصرار أعصابُه منسوجة من خيوط الترقّب والانتظار".

نظام التقاضي في تونس متشعّب طويل معقّد متداخل ملتوٍ مركّب

يُجمع المتابعون لهذا الشأن من متقاضين ومحامين وإداريين أنّ القاضي بريء من بطء التصريح بالأحكام الذي يجعل بعض القضايا تعمّر أكثر من أصحابها فيتخطّى البتّ فيها العشر سنوات أحيانًا.

سلطة الإشراف تبدو واعية بهذه المعضلة التي أفقدت العديد من الأحكام نجاعتها وجدواها، وهو ما حثّ على الإنصات إلى المبادرات واتخاذ عدّة إجراءات، لكن الفائدة ظلّت محدودة غير ملموسة، فمشروع رقمنة العدالة وتوفير آلاف الحواسيب والآلات الطابعة والقرارات الإداريّة والماديّة والتنظيمية لم تكن كافية للحدّ من الإقامة المزمنة لملفات المتقاضين في أروقة المحاكم.

أحببنا أو كرهنا لا بدّ من الاعتراف بأنّ الانتشار الواسع للجريمة هو أصل البليّة، فالفساد الأخلاقي والمادي والسلوكي قد بلغ في تونس ذروة الانتشار والتفشي ومن بديهيات التعايش في البوادي والقرى والمدن قديمًا وحديثًا أن يكون الفساد استثناءً ويكون الصلاح هو السائد، الرأي عندي أنّ الزيادة في المراقبة الأمنيّة ومضاعفة عدد القضاة وتحسين البنية التحتية ومزيد تطوير العدالة المرقمنة هي حلول عملية لكنها ليست جوهرية، الحل ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار البعد الأخلاقي والتربوي فهذا الرادع لا يحتاج إلى طاقة ماديّة كبرى بقدر ما يحتاج إلى ترسيخ بنية قيميّة تدرب المواطن على التعايش السلمي الذي تدعمه ذهنيًّا ونفسيًا مشاعر المحبة والتواضع والتسامح والاحترام والإيثار وغيرها ممّا يحدّ من التعالي والأنانيّة والجشع وكلّ الغرائز والانفعالات التي تغذّي نزعات العنف والإيذاء.

الزيادة في المراقبة الأمنيّة ومضاعفة عدد القضاة وتحسين البنية التحتية ومزيد تطوير العدالة المرقمنة هي حلول عملية لكنها ليست جوهرية

اقرأ/ي أيضًا: آخرها جريمة منزل كامل.. انتشار الجريمة يربك الأمن المجتمعي

2 ـ حينما يكون الخصم حكمًا

يطلق العديد من التونسيين على الأمنيين والقضاة مصطلح "الحاكم"، وهو ما يُكسب هذه الفئة من الموظفين نفوذًا لا نستطيع أن نجزم إن كان راجعًا إلى الهيبة أو المنزلة الاعتبارية الرمزية أو الخوف. ويمكن القول إنّ فرضيّة الخوف خاصّة في الأنظمة الدكتاتورية هي الأرجح، هذا ما يجعل المتضرّر يعدل عن التظلّم متى وجد أنّ خصمه "الحاكم" أو أحد أقارب "الحاكم" أو أصدقائه أو أحبّته، وقد ترجم المتنبيّ الشاعر العباسي وجهًا من وجوه هذا الموقف قائلًا في عجز بيت من قصائده مخاطبًا سيف الدولة أمير حلب "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم".

رغم النعرات القطاعيّة التي ميزت جلّ المجالات المهنيّة فإنّ خسران القضايا ضدّ الأمنيين أو القضاة لا يرجع إلى التواطؤ بقدر ما يعود إلى عدم إيمان المتضرّر بعدالة قضيّته وافتقاره إلى روح الإصرار، فمن المؤكّد أنّ القضايا تستغرق وقتًا طويلاً لكنّ تعدّد درجات التقاضي تجعل المتضرّر قادرًا على ضمان حقّه، فالخسران لا يرجع إلى طبيعة الخصم شخصًا كان أو مؤسّسة أو جهازًا من أجهزة الدولة إنما يعود إلى أوهام تجعل المتقاضي يفرّط في حقّه ويحرص على إقناع نفسه بتباين المراكز وغياب التوازن بين المتقاضين، ففي زمن الحريّة يصبح الرأي العامّ في قضايا من هذا القبيل عاملًا منصفاً للمظلوم منبّهًا من خطورة الجور أو مجرّد المحاباة.

المتضرّر قد يعدل عن التظلّم متى وجد أنّ خصمه "الحاكم" أو أحد أقارب "الحاكم" أو أصدقائه أو أحبّته

3 ـ الحياء وطلب الستر

من أكثر الأسباب التي تجعل المتضرّر كاتمًا سرّه مخفيًا جراحه التمسّك بثقافة الستر والخوف من الفضيحة، ينطبق هذا خاصّة على جرائم التحرش، فنسبة 97 في المائة من الضحايا يمتنعن عن التبليغ بالجاني، وذلك وفق دراسة أعدّها مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة ونشرها في موفى سنة 2019.

لا نظنّ أنّ الحياء فقط هو الدافع إلى عدم اللجوء إلى القضاء إنّما المانع الأشدّ وفق ما أكّده العديد من الباحثين هو تحوّل المتظلم من مقام الضحيّة إلى موضع المتّهم.

ولحثّ الضحايا على ممارسة حقّهن في تتبع الجاني أو الجناة قامت جمعيات حقوقية ونسوية عديدة بحملة " أنا زاده" لإخراج المتحرّش بها من الشعور بالعزلة الدونية وتخليصها من الإحساس بالذنب ولتنبيهها بأنّ ما حدث لها أشبه ما يكون بما تواجهه جلّ النساء بصرف النظر عن ملامحهن وهيئاتهن وخطابهن ومراكزهن.

97 % من ضحايا التحرش يمتنعن عن التبليغ بالجاني، وفق دراسة أعدّها مركز البحوث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة ونشرها في موفى سنة 2019

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعرف عن التحرّش الجنسي في القانون التونسي؟

4 ـ التدخلات والتسويات

قبل بلوغ مراكز الشرطة أو الحرس وقبل الوصول إلى أبواب المحاكم يتدخّل العديد من الأطراف لفضّ الخلافات بين المتضرّرين والمعتدين بصرف النظر عن الخسائر، فينهض هؤلاء الوسطاء بأدوار الشهور والمحقّقين والقضاة والمنفذين للأحكام في آن، وهي مهمّة قد تمرّس عليها الكثيرون في القرى والأرياف وفي عدد من الأحياء القديمة، ولا يمكن أن تنجح الوساطة إلا إذا كان القائمون بها موضوع ثقة وهيبة واحترام، غير أنّ هذا اللون من التسويات لا يحدث إلا في الجرائم الصغرى والمتوسطة من قبيل الاعتداء بالعنف أو السرقة أو الإضرار بأملاك الغير أو غيرها من الاعتداءات التي يمكن معالجتها ماديّاً، أمّا جنايات القتل فيعز التدخّل فيها.

قبول التسويات مشروط كذلك بطبيعة الروابط التي تصل بين المتخاصمين كالعلاقات الأسرية والعائلية والجيرة والنسب وغيرها من أسباب القرب الدموي والاجتماعيّ والعاطفي.

التسويات تساهم في الحدّ من إجراءات التقاضي لكنها قد تتسبّب في تواصل الجرائم والاستخفاف بها 

تلك التسويات تبدو مساهمة في الحدّ من إجراءات التقاضي لكنها قد تتسبّب في تواصل الجرائم والاستخفاف بها حتّى تدرك مراتب خطيرة لا تنفع معها الوساطات وهو ما يمكن اعتباره عاملاً من عوامل انتشار الجريمة بين الأقارب من أزواج وإخوة وآباء وبنين.

يتّضح من خلال هذه الأسباب المذكورة وأخرى يمكن العودة إليها في مقام لاحق أنّ تعطّل القضايا والشكّ في حصول المتضرّر على حقّه والخشية من ردود الفعل الاجتماعية، هذه العوامل وغيرها لا ينبغي أن تجعل المواطن يتخلّى عن حقّه في التقاضي أمام محاكم مدنية تظلّ في كلّ الأحوال أرقى وأعدل من بقيّة السبل المعتمدة في الفصل بين المتخاصمين أفرادًا ومجموعات.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

معضلة طول آجال التقاضي في المحاكم التونسية (حوار مع القاضي عمر الوسلاتي)

حوار| يوسف بوزاخر: المجلس الأعلى للقضاء متمسك بصلاحياته أمام السلطة التنفيذية