25-أكتوبر-2019

"المشط" أداة لمزج الصوف و"الشعر" ومن ثم تمريرها على المزراب الذي يحوّلها إلى ورقات خفيفة من الصوف

 

في الطريق إلى "الصخيرات"، يتقلّص حضور الدولة كلّما دنوت من بابها وتتكاثف السباسب على جنبات الطريق، طريق تزينها سيّارات رباعية الدفع بعضها أبيض وبعضها أسود والآخر رمادي بلون الحياة فيها. بعد مسير في طريق "إيطاليا" وانعطاف على اليمين، يطالعك مقهى تحاوطه السيّارات رباعية الدفع، فيبدو المشهد أقرب إلى عنق يزيّنه عقد، تترك المقهى وتعانق من جديد الفراغ ذات اليمين وذات الشمال قبل أن تقع عينيك على مدرسة " أولاد مرزوق".

على بعد خطوات قليلة من المدرسة، جامع وضريح الولي الصالح "سيدي مرزوق" وبعض منازل متناثرة كحبات رمل في مهبّ ريح، هنا في الصخيرات، التابعة لمحافظة القصرين، تحديدًا في "دوّار أولاد مرزوق" يكفي أن تشيح بنظرك قليلًا، وراء امتداد من شجر الزيتون لترى الحدود الجزائرية.

 بعد مسير في طريق "إيطاليا" وانعطاف على اليمين يطالعك مقهى تحاوطه السيّارات رباعية الدفع (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

هنا في "أولاد مرزوق"، "دوّار أولاد عبيد" الواقع في بئر العاتر التابعة للجزائر، أقرب إليها من معتمدية ماجل بلعباس التي تعود إليها بالنظر، هنا وجود الدولة يتجلّى في مدرسة، وفي دوريات أمنية ترابط في التفرعات المؤدّية إلى الحدّ حيث  يلاحق أبناء المنطقة "رزقًا" موسومًا بالخطر.

وأنت تلج إلى المنطقة من باب فعل في إطار افتتاح فضاء ثقافي متنقل هو الأوّل من نوعه في تونس، أراد به باعثه بلال العلوي أن يكون في منطقة حدودية، ترتسم أمامك الممرّات لتحملك في كلّ مرّة إلى حكايات عن العادات والتقاليد وعن التهريب.

اقرأ/ي أيضًا: حصائر السمار في نابل.. حرفة تواجه الاندثار رغم رواج المنتوج

خلف الخيام.. روايات

قبالة ضريح "سيدي مرزوق" خيام بألوان الحياة انتثبت في المكان لتؤوي ورشات موجّهة للأطفال فيها الرسم والسينما والعرائس والموسيقى. وغير بعيد عنها خيام قدّت من صوف، خيام كانت فيما مضى ملاذًا ومسكنًا للبعض.

"منجل" و"جاروشة" و"محشّة" و"مذرة"، أدوات فلاحية تطالعك عند أوّل خيمة تعترضك لتروي لك قصص نساء أفنين عمرًا في الفلاحة في هذه الأرض، إذ تحدّث الخالة مبروكة "ألترا تونس" عن طقوس الحصاد وعن الأغاني التي تصدح بها النسوة وهن يجتمعن على قطاف السنابل.

هنا في "أولاد مرزوق" وجود الدولة يتجلّى في مدرسة، وفي دوريات أمنية ترابط في التفرعات المؤدّية إلى الحدّ حيث  يلاحق أبناء المنطقة "رزقًا" موسومًا بالخطر

ومن القطاف إلى تجفيف السنابل فرميها في فوهة الرحى التي تنتصب على جلد خروف،  لتصير حبات القمح أو الشعير دقيقًا تُصنع منه "البسيسة" و"الزميطة" و"الكسكسي" و"المحمصة" وأشياء أخرى، وغير بعيد عن الرحى غربال تهزه النسوة بين أياديهن لتتهاوى ذرات الحبوب الرقيقة وتعلق به السميكة.

من القطاف إلى تجفيف السنابل فرميها في فوهة الرحى التي تنتصب على جلد خروف،  لتصير حبات القمح أو الشعير دقيقًا (يسرى الشيخاوي/ألترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: "رجال الكبّار" في تونس.. رحلة الآلام لقطف ثمار النبتة الجبلية

وعلى طاولة زيّنها "حرام"، بعض من "الرب" و"الدهان" و"الحليب". وأما عن "الرب"، فتقول الخالة مبروكة إنّه يصنع من تمر "العليق" إذ يتم نزع النوى عنه وتجفيفه ثم طهيه ومن ثم تصفيته وخلطه بـ"الدهان" وهو زبدة الماشية المحفوظة في قوارير لمدّة طويلة ثم يقدّم للأكل في فطور الصباح.

وعن عادة حلب الماشية تحدّثنا أيضًا، عن هز الشكوة بعد ملئها بحليب درّته ضرع معز أو بقرة، لفصل السائل عن كريّات الزبدة، وهي عادة تؤكّد محدّثتنا أنها مازلت حاضرة في "دوار أولاد مرزوق".

وغير بعيد عن الخيمة الأولى، خيمة تزينها جزة صوف وخيوط منه، ومغزل ومشط ومزراب، تحدّثنا عنها عضو جمعية طوق الياسمين صالحة المرزوقي إذ تقول إن "المشط" أداة لمزج الصوف و"الشعر" ومن ثم تمريرها على المزراب الذي يحوّلها إلى ورقات خفيفة من الصوف يعانقها المغزل فتتحوّل إلى خيوط صوف تصنع منها الأنسجة من "مرقوم" و"عبانة"، و "البرنوس" و"القشابية"، و"الغراير" التي تستعمل في حفظ القمح إلى جانب صناعة الأحزمة التي ترتديها النسوة مع اللباس التقليدي.

"يڨطع السلعة" و"شنية الأسوام ظهرة"، "السوڨ مبمبي أو لا ؟" مفردات من معجم التهريب

وصالحة المرزوقي تقني سام في النسيج ومهتمة بمجال النسيج، وتسعى دائمًا إلى إبراز تراث المنطقة في التظاهرات الثقافية، وتحوّل تجربتها الذاتية في مشاهدة جدّتها وهي تهيئ الصوف ليصير جاهزًا للنسج إلى معرض يطّلع عليه المهتمون.

وفي باب الصخيرات، ممر آخر يأخذنا إلى التهريب الذي نحت على عتبة الباب، فالحديث عن المناطق الواقعة على الجدود التونسية الجزائرية دائمًا ما يقترن بالتهريب، لكن هذه المرة لم يكون الحديث عن مسالك التهريب وطرق التهريب بل عن معجم التهريب الذي استقيناه من بعض سكان المنطقة.

وراء الكلمات حكايات..

طريق "إيطاليا"، سيتردّد اسم هذا الطريق على مسمعك كثيرًا فغالبًا ما تعبر منه السيارات رباعية الدفع، وسمي بهذا الاسم لأن الإيطاليين بنوه لتسهيل تنقلاتهم بالقرب من شركة سيرغاز لنقل الغاز الطبيعي، دار الحجر والقنزوع والأحرش وأم الأقصاب وعرق الثور والناظور، هي أيضًا تسميات لنقاط التقاء ألفها من امتهنوا التهريب وألفتهم.

وأنت تخوض نقاشًا عن التهريب قد تتناثر على مسمعك بعض الكلمات التي تبدو غريبة على آذانك على غرار "الرباحة" و"الشوالات" و"البطحة"، أما الكلمة الأولى فتعني تلك الشباك التي يلفون بها الأوعية البلاستيكية المعدّة لتهريب الوقود وأما الثانية يعني كمية الملابس أو الأجهزة الالكترونية، فيما تدلّ الثالثة على المكان الذي تُنزّل فيه السلع المهربة.

أنت تخوض نقاشًا عن التهريب قد تتناثر على مسمعك بعض الكلمات التي تبدو غريبة (الشادلي عرايبية)

"يڨطع السلعة" و"شنية الأسوام ظهرة"، "السوڨ مبمبي أو لا ؟" مفردات من معجم التهريب تدل الأولى على أن اتجاه التهريب من الجزائر إلى تونس وأما الثانية فسؤال عن الأسعار والثالثة سؤال عما إذا كانت في حالة نزول أم لا.

وأما إذا سمعت كلمات من قبيل "تروا " أو"ثلاثة آلاف" أو"زلاط" أو" قروية" أو"صاروخ" أو"جاوبونية" فاعلم أنّ الأمر يتعلّق بتسميات السيارات رباعية الدفع.

ومعجم التهريب ثري بكلمات أخرى على غرار "مشقف" و"كشّاف" و"بيلوط"، أما الأولى فكناية عن السيارة رباعية الدفع التي تحمل أوعية فارغة أما الثانية فتسمية الشخص الذي يستكشف الطريق قبل مرور سيارات التهريب عبره، وأما الثالثة فهي كناية عن الشخص الذي يجلس بجانب سائق السيارة.

فيما تخرج كلمة "بهيم" عن سياقها ولا تعني الحمار بل ذلك الوتد الحديدي الذي يتم وضعه في السيارة من الخلف ليُهرّب عليه الحديد، وأما "الزوايل" فتحيل إلى الحمير التي تستعمل في التهريب في حال استعصت عمليات التهريب عبر السيارات، حمير يملأ أصحابها أنوفها زيتًا لكي تعزف عن النهيق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خالد بن جبارة.. صانع صناديق يستنطق المسامير والخشب

الاستغوار: رياضة ترفيهية أم رحلة استكشافيّة داخل الكهوف؟