12-أكتوبر-2019

ورث خالد بن جبارة مهنة صناعة الصناديق عن والده

 

من جزيرة جربة، من عمق عاداتها وتقاليدها، تتهادى حرفة تقليدية قديمة بين الماضي والحاضر ولا يخبو ألقها فهناك  من آلى على نفسه أن يحفظها من الزوال، هي صناعة الصناديق التقليدية من الخشب والمسامير التي أبى خالد بن جبارة إلا أن يبث فيها من روحه لتظلّ حيّة.

عندما تعوّد خالد بن جبارة على الخشب والدبابيس وصار خبيرًا بطريقة دقّها عهد إليه والده بصناعة أوّل صندوق

هي حرفة تعلّمها والده، منذ ما يزيد عن المائة سنة، عن الأتراك الذين كانوا يجلبون السلع إلى تونس إذ كانوا يحضرون معهم صناديق خشبية مزيّنة بالدبابيس استهوته وصارت مصدر رزق عائلة تضم عشرة أطفال في زمن كانت فيه الحياة بسيطة جدًّا. وفي حديثه عن هذه الحرفة التي ورثها عن والده، يقول خالد بن جبارة لـ"ألترا تونس" إنه تعلّمها حينما كان صبيًا يزور والده في ورشته ليمتهنها صحبته حينما انقطع عن الدراسة في السنة السادسة من التعليم الابتدائي.

اقرأ/ي أيضًا: بلقاسم الحدّاد.. عن شاب ارتمى في أحضان الحديد والنار

يعد الصندوق العربي أحد أهم التفاصيل التي لم تكن تغفلها العروس في الجنوب التونسي سابقًا

وعن خطواته الأولى، يشير إلى أنه يراقب والده حينما كان يخلق من الخشب والدبابيس صناديق جميلة، ويسعد حينما يكلّفه بمهمة ما كأن ينزع الدبابيس عن صندوق قديم ويعيد طلاءه أو يدق بعض الدبابيس حينما يشرع والده في تزيين واجهات الصندوق. وعندما تعوّد خالد بن جبارة على الخشب والدبابيس وصار خبيرًا بطريقة دقّها، عهد إليه والده بصناعة أوّل صندوق، صندوق كان من نصيب أخته ليعيد التاريخ نفسه فأول صندوق صنعه والده كان من نصيب أخته في زواجها، ولم تسعه الفرحة حينما تحصّل على أجرة قدرها خمسة دنانير كانت تعني الكثير في سنوات السبعينيات، وفق حديثه. وبوفاة والده عام خمسة وسبعين وتسعمائة وألف، كانت صناعة الصناديق الخشبية تركته التي ظلّت تعبق برائحة الحاج مصطفى بن جبارة، صاحب الصناديق التي جابت الجنوب التونسي.

زهاء الخمسة آلاف دبوس يدقّها خالد بن جبارة على واجهات الصناديق الخشبية بدقّة

والصندوق "العربي" أحد أهم التفاصيل التي لا تغفلها العروس في الجنوب التونسي منذ أعوام خلت، إذ كانت البيوت حينها تفتقر إلى الخزائن ليكون الصندوق حافظًا لملابس المرأة وحليّها وأدوات زينتها، لكن هذه العادة آلت إلى الاندثار شيئًا فشيئًا وأصبحت تستعمل في الديكور والزينة.

زهاء الخمسة آلاف دبوس يدقّها خالد بن جبارة على واجهات الصناديق الخشبية بدقّة

اقرأ/ي أيضًا: الطبيعة تنتصر.. إعادة توطين "غزال الأطلس" في جبال سليانة بعد انقراض فاق القرن

وفيما كانت العروس في السابق تشترط على زوجها اقتناء صندوق من مصطفى بن جبّارة، فإن الأمر اليوم لم يعد ذا أهمية كما في السابق ولكن ذلك لم يحل دون مزاولة خالد بن جبارة لهذه الحرفة وتطوريها إذ أصبح يصنع "مجالس" تقليدية بنفس الأسلوب ونفس الزينة. وحتى الخشب الذي تصنع منه هذه الصناديق تغيّر أيضًا، إذ كانت تُصنع من خشب السرول الذي تضوع منه رائحة طيبة ولا ينخره السوس مهما تعاقبت السنين، ولأن سعر هذا الخشب ارتفع بنسق لا يمكنه مجاراة المقدرة الشرائية للحرفاء فإن محدّثنا يلجأ اليوم إلى خشب البارود.

خالد بن جبارة حافظ أيضًا على الألوان التي وسمت صناديق والده ولم يغيّرها وهي الأخضر والأزرق والأحمر

زهاء الخمسة آلاف دبوس يدقّها خالد بن جبارة على واجهات الصناديق الخشبية بدقّة، وهو أمر يتطلّب مجهودًا وإتقانًا حتّى أن الكثيرين حاولوا تعلّم هذه الحرفة لكنّهم لم يفلحوا في ذلك. ورغم مرور السنوات، ما يزال الابن يحافظ على طابع والده في صناعة الصناديق الخشبية ويحافظ على نفس النقوش في الزينة ولم يغيّر فيها شيئًا باستثناء التقليص من عدد الدبابيس بطلب من الحرفاء على اعتبار أن البعض قد يراها مزدحمة.

وعن تشكيل الصناديق، يقول محدّثنا إنّه في الوقت الراهن لا يمتلك ورشة ولا معدّات نجارة لذلك فهو يتعامل مع نجّار بات متمكّنًا من الأمر بفعل الدربة، ويعود هذا الخيار الذي انتهجه خالد بن جبارة إلى كون هذه الحرفة ليست مصدر رزقه الأساسي.

صار خالد بن جبارة يصنع صالونات بنفس أسلوب الصناديق

وهذه الصناعة التقليدية لم تكن تحظ بطلب كثير لكن الأمر تغير مع عودة الحنين إلى الماضي بصناعاته، ومحدّثنا يتسلّم الصناديق المصنوعة من الخشب الطبيعي ويلوّنها ويدق فيها الدبابيس متّبعًا نقش والده المحفور في ذاكرته. وفيما يتعلّق بألوان الصناديق، يقول خالد بن جبارة إنه حافظ أيضًا على الألوان التي وسمت صناديق والده ولم يغيّرها وهي الأخضر والأزرق والأحمر، مشيرًا إلى أنّه يركن أكثر إلى اللون الأخضر، "أو ليست تونس الخضراء"، وفق تعبيره.

واليوم، لم يكتف محدّثنا بصناعة الصناديق التقليدية وإنّما صار يصنع صالونات بنفس الأسلوب والألوان ويشارك في معارض للصناعات التقليدية وسط إقبال على منتوجه العابق برائحة الماضي، وهو حريص على أن تظل هذه الحرفة حيّة من أجل والده ولكن ذلك لا ينفي أنها تدرّ عليه بعض الأموال الإضافية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

احذروا خطّ يدكم... فقد يفضحكم!

الاستغوار: رياضة ترفيهية أم رحلة استكشافيّة داخل الكهوف؟