15-أكتوبر-2019

تحمل رحلة قطف "الكبّار" مخاطر جمّة في غابات تونس وجبالها (رمزي العياري/ألترا تونس)

 

 

من بين شقوق الصخور وكلس الرّوابي في الأحراش البعيدة، في سفوح الجبال وعلى أخاديد الأودية ومجاري الأمطار بالشمال الغربي للبلاد ووسطها وجنوبها، ينمو نبات "الكبّار" (القبّار أو الشفلح) بخجله المعهود وانتشاره الفوضوي الجميل. يحبّذ الوحدة والوعر من الأرض، ينمو حيث لا تنمو باقي النباتات، ويقاوم المناخ القاسي بإصرار غريب على الاخضرار.

نبتة شوكية قديمة قدم الزمن، تمرّ حذوها فتباغتك رائحة أوراقها فوّاحة زكية، أما غلّتها أو كمثرها فلا تنتبه إليها إلا بعد تدقيق النظر بين طيّات الأوراق، فهي تتخفّى في وجل بين الأشواك فتصعب على الأصابع القاطفة الوصول للحبات الخضراء ذات الذيل الطويل.

"رجال الكبّار" هم من أبناء الريف وأغلبهم من الرعاة ينطلقون باكرًا نحو أهدافهم وذلك قبل أن تشتدّ قسوة شمس الخريف، لتبدأ عملية قطف الحبّات الخضراء والتي لا تقدم عليها إلا الأيادي الخشنة 

اقرأ/ي أيضًا: ما وراء عصيدة الزقوقو.. رحلة الإنتاج الشاقة

"للكبّار" موسمه الذي يحلّ خريفًا، من سبتمبر/أيلول إلى بدايات نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام حيث تتعلّق همّة قاطفي حبات الكبّار بالغابات والأودية القريبة منهم، ينطلقون يوميًا نحو أذى شوك نبتتهم المتخفية في الأراضي الوعرة لتكون المحصّلة اليومية في أوج الموسم بضع كيلوغرامات "لا تغني ولا تسمن من جوع" لكن الفقر وصعوبة الحياة تدفعهم نحو فعل دأب عليه الأجداد لقرون.

"رجال الكبّار" هم من أبناء الريف وأغلبهم من الرعاة ينطلقون باكرًا نحو أهدافهم وذلك قبل أن تشتدّ قسوة شمس الخريف، لتبدأ عملية قطف الحبّات الخضراء والتي لا تقدم عليها إلا الأيادي الخشنة لأن النبتة مكسوّة بالأشواك الصغيرة ذات الوخز المؤلم.

تجارة الكبّار قديمة قدم الإنسان على هذه الأرض، فبعد القطف ثمة من يبيع كسبه القليل في السوق الأسبوعية المحلية وثمة من يتنقّل إلى المدن الكبرى المجاورة ليبيعه لعائلات ثرية دأبت على اقتناء "الكبّار" في موسمه، وأيضًا لبعض للمطاعم السياحية وبأسواق بيع الخضر والغلال. وهناك من التجّار المختصّين من يقتني سنويًا سلال الكبار القادمة من الأرياف والغابات التونسية ليتولى بيعها لدى المصانع الصغيرة المختصّة في "المملّحات" و"المخلّلات".

تجارة الكبّار قديمة قدم الإنسان على هذه الأرض (Getty)

 

وتبدو الأرقام حول نبتة الكبّار على الجغرافيا تبدو عامة وغير دقيقة بل هي منعدمة في جوانب منها، كما تغيب أيضًا المؤشرات حول التجارة المتعلقة بمنتوج الكبّار وتروّج التونسية سنويًا حوالي مائتي طن من "الكبّار" يُصدّر منها بين أربعة وستة أطنان بين خام ومخللّ موجهة بالأساس للسوق الأوروبية أما الباقي تُروّج محليًا.

 وإلى جانب الاستعمالات الطبيّة للكبّار، فهو يستعمل بالأساس للطبخ، ذلك أنه في تونس، وعلى غرار باقي المجتمعات المتوسطية، لا تغيب شمس كمثري الكبار المملح اللذيذ عن المائدة، فبه تتبّل مختلف أنواع السلطة، كما يوضع في بعض أنواع "الطواجن"، والبيتزا عدا أنه مكوّن محبّذ في "البريك"، ولذلك يعرف شهر رمضان المعظم أوج استهلاك التونسيين لـ"الكبّار".

التقى "ألترا تونس"، في هذا التقرير، بعض رجال الكبّار بأرياف باجة بالشمال الغربي التونسي للحديث عن ألمهم الناصع النقي، أولئك الرجال المنذورين للألم والجهد والضنى بشرف يشبه شرف الغابة. هم رجال انتقتهم الأقدار للعيش على كفاف تمنحهم إياه الجبال، قصص منسية لا تقدر حتى على الاقتراب من هامش المجتمع، إنهم هامش الهامش.

الطاهر العمدوني: نحن نعيش تحت سماء النسيان.. وعمل الكبّار مشوب بالأخطار

عمّ الطاهر رجل جاوز الكهولة نحو الشيخوخة لكن تبدو عليه صلابة الحياة الريفية وبساطتها وتواضعها، وما إن علم بمحتوى لقائنا معه حتى بسط يده الخشنة جراء الأعمال الفلاحية المضنية، وكانت أصابعه مخرّبة جرّاء فعل أشواك نبتة الكبّار قائلًا "وليداتي الخبزة مرّة وخدمة الكبّار مرّة".

الطاهر العمدوني: عمل الكبّار مشوب بالأخطار سواء من جهة أشواكه التي لا ترحم الأيادي الممتدة أو الثعابين التي تسكن جذوع النبتة

وعن علاقته بجني الكبّار، حدثنا أن التحصيل قليل لأن الموسم قصير وقاطفي الكبّار أصبحوا كثّر في المنطقة على اعتبار أن أغلب الرعاة وعائلاتهم في جهة نفزة، بباجة، يجنون من هذه النبتة بمعدل عشرة دنانير يوميًا، قائلًا "نحن هنا نعيش تحت سماء النسيان منذ الاستعمار الفرنسي إلى اليوم، نقتات من الجبال والغابات حتى نعيل أنفسنا".

يمتدّ موسم قطف "الكبّار" من سبتمبر إلى بدايات نوفمبر من كل عام (رمزي العياري/ألترا تونس)

 

ويضيف عم الطاهر، في حديثه لـ"ألترا تونس" أن عمل الكبّار مشوب بالأخطار سواء من جهة أشواكه التي لا ترحم الأيادي الممتدة أو الثعابين التي تسكن جذوع النبتة التي تفاجئ القاطفين أحيانًا أو من جهة المسافات الطويلة التي تقطع داخل المناطق الغابية.

أما عن تسويقه، يروي محدثتنا أن السوق الأسبوعية هي التي تستوعب قطاف "الكبّار" موضحًا أن مجموعات من أهل الجهة تشتري المحصول وتعيد بيعه بالسوق المركزية بالعاصمة أو لدى المطاعم السياحية أو لدى العائلات الثرية التي تقتني "عولتها" السنوية من الحبات الخضراء.

اقرأ/ي أيضًا: "الذهب الأخضر" في تونس.. مصدر رزق وأسلوب حياة

التّيجاني الفرحاتي: جهد رجال الكبّار يستغلّه وسطاء ومحتكرون

قدّم نفسه أنه ابن الجبل "نا ولد الجبل"، وأنه يعيش من خيراته حسب المواسم من كبّار، وخرّوب، ونبق، ولنج، وزعرور، وزعتر، وإكليل، وشيح والخرشف الجالي. هو التيجاني الفرحاتي، قاطف للكبّار، أخبرنا أن موسم جني هذه النبتة هو الأشهر على الإطلاق، لذلك يتعدد القاطفون، مشيرًا إلى وجود أماكن للكبّار في الغابة لا يعرفها ولا يدركها إلا أبناء الجبل، وخاصة في المناطق الصخرية الوعرة والمحاذية للأودية.

التيجاني الفرحاني: عمل الكبّار شاق ومتعب إلى أبعد الحدود و عائداته المالية ضعيفة جدًا مع استغلال الوسطاء للفلّاح الغابي

 ويوضح التّيجاني، لـ"ألترا تونس"، أن عمل الكبّار شاق ومغامر ومتعب إلى أبعد الحدود، ولكنه أكد أن عائداته المالية "ضعيفة جدًا". وتحدّث، في هذا الإطار، عمّا اعتبره استغلال الفلاّح الغابي من قبل بعض الوسطاء الذين يأتون خصيصًا خلال موسم القطف إلى الأسواق الأسبوعية المحلية لحمل كل المنتوج وإعادة بيعه في المدن أو للمصانع، مع تقديم "سوى النزر القليل من المال للفلاح مقابل جهد الأيام على سفوح الجبال".

أحمد بن الهادي: الكبّار ثروة غابيّة مهملة وغير مراقبة

يروي أحمد بن الهادي، وهو شاب من مدينة مجاز الباب في ولاية باجة، أنه كان يرافق والده خلال موسم جني "الكبّار"، ويتحمّل وخز الأشواك من أجل الظفر بالحبّات الخضراء كما كان يتسلق الأخاديد الصخرية بطريق "طبابة" حيث "الكبّار المعلّق".

ويضيف، في حديثه لـ"ألترا تونس"، أنه ورث عن والده الراحل حب الغابة والجبل فتحوّل إلى تاجر "كبّار" يشتري السلال الصغيرة من عند "كبّارجية" الجهة ليقوم بتمليح المحصول ضمن مشروع صغير بدأه منذ ثلاث سنوات ليبيعه مجددًا بالوطن القبلي حيث تكثر مصانع التحويل الغذائي والمخللّاّت.

قطف الكبّار شاق ومتعب ويحمل مخاطر عديدة (رمزي العياري/ألترا تونس)

 

ويؤكد محدثنا أن قطاع "الكبّار" يتعرّض للإهمال من قبل الدولة مبيّنّا أن إدارة الغابات التابعة لوزارة الفلاحة لا تولى الأمر أي أهمية "فهي لا تحمي هذه الثروة الغابية ولا تراقب موسم الجني" وفق تأكيده، مضيفًا أن الغطاء النباتي للكبّار يتعرّض أحيانًا للتلف والإفساد من قبل قاطفي الكبّار خاصة عندما يضربونها بالعصي.

أحمد بن الهادي: إدارة الغابات التابعة لوزارة الفلاحة لا تحمي هذه الثروة الغابية ولا تراقب موسم الجني والقطاع مغمور بالفوضى

أما عن التجارة المتعلقة بهذا القطاع، يوضح أحمد أنها مغمورة بالفوضى عبر هيمنة الاحتكار، متذكرًا ألم والده عندما يقضي الأيام في الجني فتُثقب أصابعه وتُخدش يداه مقابل بضعة دنانير لا تلتقي مع الجهد أبدًا، وفق قوله.

وبعد الاستماع لـ"رجال الكبّار"، ينجلي بعض الغموض عن قطاع غابي مهمّ وعن فلاحة جبلية، متّسمة بالإهمال والعشوائية، يشتغل بها آلاف التونسيين. نحن نرى "الكبّار" معروضًا في الأسواق وفي العلب الفاخرة بالمغازات، ولكننا لا نعرف أنه حصيلة آلام وخدوش أيادي قاطفي هذه النبتة الجبلية بأقاصي البلاد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطبيعة تنتصر.. إعادة توطين "غزال الأطلس" في جبال سليانة بعد انقراض فاق القرن

بسبب الإرهاب.. سكان الحدود يهجرون مهنًا جبلية