من منّا لا يتذكر القصص المأساوية التي حصلت لبعض الرعاة في الجبال المتاخمة للحدود الجزائرية، آخرها الحادثة التي جدّت الشهر الماضي، حين عمدت مجموعة إرهابية إلى الاعتداء على الشهيد محمد القريري البالغ من العمر 30 سنة، بالمنطقة العسكرية المغلقة بجبل الشعانبي، وقطع جزء من أنفه بعد اتهامه بالتخابر مع الجيش.
الأحداث الإرهابية التي استهدفت رعاة الأغنام جعلت من البعض يتقيد فقط بالتنقل في المساحات القريبة من ضيعاتهم ليواجهوا مشكل شح الأعشاب وقلّة المراعي
ويعدّ الشهيد محمّد القريري ثالث راعي أغنام يتم استهدافه خلال الثلاث سنوات الأخيرة بعد الشقيقين مبروك وخليفة السلطاني، بعد أن عمدت مجموعة إلى ذبح مبروك السلطاني سنة 2015، ليواجه أخاه خليفة نفس الحتف بعد سنتين في نفس المنطقة. كما تعرّض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 راع بجبل الشعانبي في القصرين إلى انفجار لغم، فيما توفي راعي أغنام أواخر سنة 2016 إثر انفجار لغم في جبل سمامة.
كل هؤلاء وغيرهم هم رعاة ضحايا الإرهاب في الجبال الوعرة، التي شهدت تمركز الجماعات الإرهابية قرب الحدود الجزائرية. أثرت مأساة وفاتهم على جميع التونسيين. وبات الرأي العام قلقًا تجاه الرعاة وغيرهم من سكان المناطق الحدودية، سواء في الكاف (جبال ورغة) أو القصرين (سمامة، السلوم، الشعانبي) أو قرب سيدي بوزيد (جبل المغيلة)، لاسيما وأنّ تلك الجبال تعدّ السبيل الوحيد لديهم للعيش وكسب بعض المداخيل، خاصة مع تواتر أنباء كلّ فترة عن سطو الجماعات الإرهابية على أحد المنازل بالأرياف وسرقة المؤونة.
اقرأ/ي أيضًا: انتقادات لسمير بالطيب بعد حديثه عن توفير حراس الغابات معلومات عن الإرهابيين
استهدف الإرهابيون المتمركزون في الجبال خلال السنوات الأخيرة عددًا من رعاة الأغنام (مريم الناصري/ الترا تونس)
ولأنّه لا يخفى عن الجميع خطورة تلك الجماعات الإرهابية على متساكني المناطق الحدودية وبعض العاملين في الجبال على غرار حراس الغابات، فقد استهجن أغلب التونسيين تصريحات وزير الفلاحة خلال تعليقه عن العملية الإرهابية التي جدّت مؤخرًا في منطقة غار الدماء في ولاية باجة، وقوله إن حراس الغابات يقدمون معلومات عن تحركات الإرهابيين، منددين بما قد تشكله مثل تلك التصريحات من خطورة على حياة حراس الغابات، لاسيما وأنّ الجماعات الإرهابية استهدفت الرعاة بدعوى تخابرهم مع الجيش وجهات أمنية وتقديمهم معطيات عن تحركاتهم.
وربّما يتضامن الجميع مع الرعاة أو حراس الغابات ووحداتنا الأمنية والعسكرية هناك. ولكن يخفى على البعض أنّ الجبال والغابات الحدودية كانت فعلًا توفر مورد رزق لبعض شباب ونسوة تلك المناطق. فالراعي يلجأ إلى تلك الغابات بحثًا عن المراعي وإخراج أغنامه للكلأ في الطبيعة، ليبقى يحرسها يومًا بحاله في انتظار قرب غروب الشمس، ويعود بها إلى زريبتها. لكنّ الأحداث الإرهابية التي استهدفت رعاة الأغنام جعلت من بعض الشباب يتقيد فقط بالتنقل في المساحات القريبة من ضيعاتهم، مخافة مواجهة نفس حتف الآخرين، ليواجهوا في المقابل مشكل شح الأعشاب وقلّة المراعي.
فيما بات يرفض بعض الشباب العمل في رعي الأغنام والاكتفاء بالاعتماد على العلف وجمع بعض الأعشاب القريبة من الضيعات، دون التوغل في الغابات بحثًا عن المراعي. إذ يشير حامد العريضي، أحد سكان منطقة فرنانة بريف جندوبة، في تصريح لـ"الترا تونس"، إلى أنّه كان يُشغّل بعض الرعاة لرعي أغنامه، لكن خلال السنوات الأخيرة كثيرًا ما واجه صعوبات في العثور على من يقبل بالمهمة، خصوصًا بعد مقتل بعض الرعاة على يد إرهابيين. ويضيف أنّ الراعي الذي يعمل لديه يتفادى كثيرًا التوغل في الغابات والجبال مخافة الاعتداءات الإرهابية.
فقدت نساء بالمناطق الجبلية موارد رزقهن بسبب تمركز الإرهابيين في الجبال (مريم الناصري/ الترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: بعد الحادثة الإرهابية.. دعوات للوحدة وأخرى للمحاسبة وتخوف من الانعكاسات
نساء هجرن إكليل الجبل
ليس الرعاة فقط من استهدفوا خلال السنوات الأخيرة أو واجهوا خطر الإرهابيين في أغلب المناطق الجبلية. فحتى النسوة ممن يجدن في بعض الأعشاب الجبلية موردًا للرزق، فقدنه بسبب غلق بعض المناطق التي باتت مناطق عسكرية. إذ يذكر أنّه توفيت سنة 2016 في جبل سمامة بالقصرين ثلاث نسوة إثر انفجار لغم أيضًا، وذلك خلال قيامهنّ بجمع الإكليل الجبلي لبيعه. إذ تعمل أغلب النساء اللاتي تقطن بالمناطق الجبلية منذ بداية شهر جوان/ حزيران على جمع الإكليل لبيعه لبعض الشركات التي تقوم بتقطير النباتات الجبلية كالإكليل والزعتر لاستخراج الزيوت.
مبروكة أبيضي (إحدى سكان منطقة "كاف الضرابين" بجندوبة) لـ"الترا تونس": تركت جمع الإكليل منذ أكثر من ثلاث سنوات بعد تكرر الاعتداءات على الرعاة ووفاة بعضهم
وتشير مبروكة أبيضي، إحدى سكان منطقة "كاف الضرابين" بجندوبة، في تصريح لـ"الترا تونس"، إلى أنّها تعمل منذ سنوات خلال فصل الصيف في جمع الإكليل من الجبال وبيعه مقابل خمس دينارات للكيلوغرام الواحد، لكنّها تركت جمع الإكليل كغيرها من نساء المنطقة منذ أكثر من ثلاث سنوات، بعد تكرر الاعتداءات على الرعاة ووفاة البعض الآخر جراء انفجار الألغام. وتضيف أنّ "الإكليل غالبًا لا يتوفر سوى في الجبال ولكنّ المناطق الجبلية باتت ممنوعة عنا اليوم".
من جهته، يقول علي ابن مبروكة، شاب يبلغ من العمر 29 سنة، لـ"الترا تونس"، إنّ تمركز الإرهابيين في الجبال أفقد عددًا من الشباب بعض موارد الرزق على غرار جمع الفطر، فقد كان شباب المنطقة يتوجهون إلى الجبال لجمع الفطر ويبيعونه إلى بعض المطاعم والنزل، خاصة وأنّ جندوبة منطقة ممطرة ومناخها مناسب لنمو الفطر الجبلي بكثرة. ليجد في جمعه بعض السكان موردًا يوفر لهم بعض المداخيل خصوصًا وأنّهم يبيعون الكيلوغرام الواحد من الفطر بـ10 دينارات، وفق قوله.
على صعيد آخر، يشير علي، في تصريح لـ"الترا تونس"، إلى أنّهم كانوا يتجمعون يوميًا منذ ساعات الصباح الأولى ليتوجهوا إلى الجبال القريبة من الحدود الجزائرية، يجمعون قرابة عشرين كيلوغرامًا من الفطر وبيعه للنزل بالمنطقة لتوفير بعض المصاريف. لكن اليوم بسبب تمركز الإرهابيين بتلك الجبال بات من الصعب الوصول إليها. فيما لم تعد النزل تقبل حتى على شراء الفطر نظرًا لتراجع عدد السياح بالمنطقة.
علي (مواطن تونسي يقطن في جندوبة) لـ"الترا تونس": تمركز الإرهابيين في الجبال أفقد عددًا من الشباب بعض موارد الرزق على غرار جمع الفطر
ولم تختلف تجربة صالح كحيلي كثيرًا عن سابقيه، فهو شيخ ستيني، يعمل منذ أكثر من عشرين سنة في صنع الفحم من جذوع الأشجار. لكنّه بات يواجه هو الآخر صعوبة الحصول على الحطب والجذوع لأنّه يُمنع عليهم التوغل كثيرًا في الجبال.
يذكر أنّ رحلة البحث عن الحطب بالغابة تؤمنها غالبًا النسوة، اللاتي يتنقلن ومنذ الساعات الباكرة نحو الغابة لجمع الحطب في شكل حزم يحملنها على ظهورهنّ لمسافات طويلة. وقد يستخدمن أغلب الحطب في استعمالاتهن الشخصية في الطبخ والتدفئة. فيما يبعن ما يزيد عن حاجتهنّ إلى صانعي الفحم. ولكن فقدت أغلب النسوة حتى تلك المهنة الشاقة جراء غلق أغلب المناطق عنهنّ.
اقرأ/ي أيضًا:
تعرّض للاعتداء من قبل إرهابيين: استشهاد الراعي محمد القريري بالمستشفى العسكري
تعرف على العمليات الإرهابية التي استهدفت الحرس الوطني بتونس منذ 2012