12-يناير-2019

كانت قصر هلال. تضم أكثر من 8000 نساج سنة 1950 لكن باتوا اليوم يعدّون على أصابع اليد (مريم الناصري/ الترا تونس)

 

تصافح أنامله كلّ يوم تلك الخيوط المثبتة على "النول"، ذلك المنسج الخشبي الذي كان يحوك كلّ حاجياتنا من الأغطية والملابس لأكثر من 100 سنة في أغلب الولايات التونسية. يختار الحرفي الألوان التي سيستعملها لنسج المفرش، ويثبتها في أعلى آلة النول بعد توزيعها أفقيًا. بحركات خفيفة يمرّر خشبته الصغيرة التي تحرّك خيوطه يمينًا ويسارًا لرسم سطر جديد يضاف إلى تلك الرسمة التي يشكلها على الغطاء الصوفي الذي ينسجه منذ ثلاثة أيام. هكذا يعمل العمّ فرحات (56 سنة) في دكانه البسيط في نسج المفارش والأغطية والسفساري التونسي، تلك الحرفة التي زاولها منذ أكثر من ثلاثين سنة.

العم فرحات (حرفي) لـ"ألترا تونس": معظم الشباب العاطل عن العمل والباحث عن المال يستطيع الاتكال على الحرف التي توارثناها عن الأجداد

اقرأ/ي أيضًا: "سوق القايد" في المدينة العتيقة بسوسة.. حفر في ذاكرة الحرف والفنون

ويقول في هذا الصدد لـ"ألترا تونس" إنّ "النسج على "النول" مازال حرفة مهمة في مدينة قصر هلال، التابعة لولاية المنستير، والملقبة بعاصمة النسيج، إلى جانب أغلب المدن الساحلية التي اشتهرت بقطاع النسيج. ورغم مكننة هذا القطاع إلاّ أنّ الآلاف من التونسيين وبعض مواطني الدول المجاورة مازالوا يقبلون على المفارش التي تنسج على "النول" يدويًا لجمالها وإتقان صنعها، رغم أنّ ثمنها باهظ قليلًا".

العم فرحات هو أحد حرفيي النسيج في قصر هلال المعروفة بتراثها وعاداتها وإرثها الكبير في الحرف التقليدية التي يزاولها أهل المنطقة خاصة منها حرف النسيج وصناعة الصابون والخياطة وغيرها. ورغم أنّ ابن المنطقة لا يجد بعض الحرفيين الشبان للعمل معه في دكانه الصغير إلاّ أنّه تمسّك بمزاولة حرفته التي تعلّمها منذ كان عمره 15 سنة.

لزخارف تلك المنسوجات دلائل ومعاني ارتبطت بالموروث التونسي (مريم الناصري/ الترا تونس)

ويقول فرحات في هذا السياق " يوفى مال اليد وتبقى صنعة الجد"، موضحًا أنّ "معظم الشباب العاطل عن العمل والباحث عن المال يستطيع الاتكال على الحرف التي توارثناها عن الأجداد، ويمكن بها مقاومة البطالة لاسيما وأنّها مازالت تلقى رواجًا في الداخل والخارج وتوفر مرابيح مهمّة قد تصل إلى ألف دولار شهريًا"، على حدّ تعبيره.

وعن مراحل العمل، يبيّن الحرفي أنّها تنطلق بالبحث عن الخيوط الصوفية أو الحريرية واختيار جودتها وألوانها، ثمّ تشدّ تلك الخيوط بطريقة أفقية، على آلة النسيج التي تتكون من أجزاء تسمى القائمتين و"الحافة" و"النيرة" و"النزق" وغيرها، لتمرّر باقي الخيوط الملونة بطريقة تقاطعية. وهي طريقة ليست صعبة التعلّم، يمكن لأي أحد إتقانها في أقل من أسبوع، وفق محدثنا الذي أضاف أنه "يصنع منسوجات مختلفة كالسجاد والبرنس والمفارش وغيرها، وتلقى بضاعته رواجًا كبيرًا رغم انتشار السلع المهرّبة أو تلك التي تصنع في بعض المصانع".

يستغرق غالبًا كلّ حرفي من ثلاثة إلى سبعة أيام لنسج قطعة واحدة كلّ حسب حجمها ونوع تزويقها ليبقى المنتج التقليدي اليدوي الأفضل من ناحية الجودة والجمالية

ولزخارف تلك المنسوجات دلائل ومعاني ارتبطت بالموروث التونسي، توارثتها أجيال عدّة. جعلها مختلفة التزويق والزينة من منطقة إلى أخرى حسب موروث كلّ جهة. فتجد رسوم السمك أو الصومعة أو العقرب أو اليد والخمسة أو الجمل والصحراء وغيرها من الرسوم التي تضفي الطابع التونسي على المنسوجات. وإذ أتقنت السيدات في السابق حرفة النسيج اليدوي في البيت لتجهيز العروس، فإنّ نسج وحكاية أغلب المفارش والأغطية و"السفساري" و"البرنس" و"البشكير" و"التنشيفة" و"البخنوق" قد أتقنها الرجال على مدى سنوات في محلات صغيرة كانت تسمى بمحلات النساجين نسبة إلى النسج، أو محلات "النول" المنتشرة في أغلب المدن التونسية.

بقي النول حتى يومنا هذا محتفظًا بشكله وتصميمه الأفقي المصنوع من الأخشاب (مريم الناصري/ الترا تونس)

اقرأ/ي أيضًا: صناعة الأواني الخشبية: عادة قديمة وتجارة تزدهر في المواسم الكبرى

وبقي النول حتى يومنا هذا محتفظًا بشكله وتصميمه الأفقي المصنوع من الأخشاب. وهو عبارة عن خشبتين مثبتتين عموديًا، يعلوان عن الأرض بمسافة متر تقريبًا، تتدلى من الضلع الأمامي حلقات مستديرة توضع بها خيوط النسيج. فيما تفرق الخيوط الأخرى المثبتة بشكل أفقي، لتمرّ من بينها أعمدة خشبية مرصوصة بشكل أفقي  ورأسي لتشكل مربعًا كبير الحجم، ومشدودًا حول العمودين الرئيسيين. وتتداخل الخيوط العرضية الرقيقة في الخيوط الطويلة عن طريق أداة تسمى "اللحامة" أو "النزق" وهي عبارة عن خشبة اسطوانية صغيرة ملفوف حولها خيط نسيج، ينقلها النساج ويحرّكها يمينًا ويسارًا بالتزامن مع حركة رجليه على "الدوسات" لنسج الخيوط وتكوين القطعة التي يريد نسجها. وتستغرق بعض المفارش أكثر من أسبوع حتى تكتمل.

تراجع عدد النساجين

كان يوجد في منطقة قصر هلال أكثر من ثمانية آلاف نساج سنة 1950 لكن باتوا اليوم يعدّون على أصابع اليد. واندثرت أغلب محلاتهم الني كانت تزخر بحركية تجارية كبيرة يتوافد عليها حتى الليبيون والجزائريين. ورغم أنّ النسيج اليدوي على النول حرفة متوارثة في تونس منذ قرون، إلاّ أنّها تراجعت بشكل كبير بعد انتشار مصانع النسيج. لكن مع ذلك مازالت تلك الحرفة توفر يدًا عاملة لبعض الفئات في المجتمع خاصة في المناطق الساحلية التي اشتهرت بالنسيج على غرار مدن سوسة والمنستير وصفاقس والمهدية.

ويستغرق غالبًا كلّ حرفي من ثلاثة إلى سبعة أيام لنسج قطعة واحدة، كلّ حسب حجمها ونوع تزويقها، ليبقى المنتج التقليدي اليدوي الأفضل من ناحية الجودة والجمالية. فأغلب الراغبات في شراء بعض حاجيات العروس يقبلن على الصناعات اليدوية خصوصًا تلك منها القطنية أو الحريرية.

محمد شرفي (حرفي) لـ"ألترا تونس":  أكبر مشكلة في قطاع النسيج اليدوي اليوم تتمثل في الحصول على المواد الأولية وخاصة خيوط القطن أو الحرير

من جانبه، أكد الحرفي محمّد شرفي، الذي أمضى في المهنة أكثر من عشرين سنة، لـ"ألترا تونس"، أنّ أكبر مشكلة في قطاع النسيج اليدوي اليوم تتمثل في الحصول على المواد الأولية وخاصة خيوط القطن أو الحرير بسبب نقص إنتاجها في السوق المحلي، وغياب إطار ينظّم عمليات توزيعها، إلى جانب انتشار تجارة الخيوط بجميع أنواعها في السوق السوداء ودخول بضائع وخيوط ليست ذات جودة عالية.

يواجه قطاع النسيج اليدوي صعوبات عدة (مريم الناصري/ الترا تونس)

لكن رغم تلك الصعوبات، يشير الشرفي إلى أنّ حرفة النسيج اليدوي مازالت تحافظ على رونقها خاصة وأنّها تنتج بضائع لا يمكن إنتاجها في المصانع مثل البرنس والحايك والسفساري. كما أنّها مازالت توفر مواطن شغل هامة وتوفر مداخيل لابأس بها، مستغربًا عدم إقبال الشباب على تعلّمها والحال أنّه يشكو البطالة. وأضاف أنّ عودة الحرف القديمة المحلّية من شأنه أن يحلّ جزءًا من أزمة البطالة ويشجّع على الإنتاج المحليّ. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

النقش على النحاس: تاريخ محفور بالمسامير يواجه الاندثار

رضا الجندوبي.. صانع عود يبعث الروح في الخشب