12-فبراير-2022

"إلغاء الوسائط السياسيّة والمؤسسيّة كان في كلّ التجارب التي ينشد أصحابها الأفقيّة والعدل مقدّمة إلى تجارب مركزيّة سلطويّة محورها الفرد" (وسيم الجديدي/Sopa images)

 

مقال رأي

 

كادت معركة المجلس الأعلى للقضاء تنسي في الأصل وهو الإجراءات الاستثنائية الانقلابية في 25 جويلية 2021 لما للمجلس والسلطة القضائية المستقلة من مكانة جليلة في النظام السياسي الجديد المنبثق عن دستور الثورة. ويعدّ المجلس الأعلى للقضاء مفخرة البناء الدستوري في تونس مقارنة بوضع القضاء في أعرق الديمقراطيات في العالم. ويمثل تأسيسه عنوانَ حداثةٍ سياسية لا تقبل التشكيك. 

  • مسار هدم المؤسسات في تونس

مثّل انقلاب 25 جويلية تتويجًا لسياسة انتهجها الرئيس قيس سعيّد منذ الأسابيع الأولى لتولّيه. وبعد أشهر على انتخابات 2019 أصبح من الممكن الحديث عن سياسة قيس سعيّد تجاه الدستور والمؤسسات التي انبثقت عنه. وستعرف في المعجم الصحفي والإعلامي بسياسة "الترذيل والتعطيل"، والتي التقى فيها مع عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري. 

وكان بينهما تكامل وظيفي في استهداف النظام السياسي والعمل على شلّه، فتكفّلت موسي بتعطيل أشغال مجلس نواب الشعب ببلطجة دائمة جعلت من الانعقاد العادي لجلسات المؤسسة التشريعية أمرًا مستحيلاً، ولم يبخل سعيّد بترذيل الدستور، وخرقه خرقًا جسيمًا حين امتنع عن ختم قانون المحكمة الدستورية، ورفض التحوير الوزاري وأداء الوزراء اليمين أمامه.

وكان أوَل ما أتاه بانقلابه على الدستور أن جمّد البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه ثم قطع مرتباتهم. وبعد تجميد المؤسسة الأصلية وأساس النظام السياسي الديمقراطي عمد إلى حل الهيئة المؤقتة لدستورية مشاريع القوانين لأنها يمكن أن تنهض بدور شبيه بدور المحكمة الدستورية المغيّبة وتصدر أحكامًا قضائية على ما أتاه بداية من 25 جويلية، وهو يعلم قبل غيره أنّ ما أتاه باسم تفعيل الفصل 80 من الدستور باطل ومخالف لصريح الدستور بإجماع خبراء القانون الدستوري ومراجعه المشهود لهم بالكفاءة محليًا ودوليًا.

"بدا واضحًا أنّ سعيّد بصدد تقويض أسس النظام الديمقراطي فكانت ردّة الشارع الديمقراطي قوية رغم تأخرها"

ثم كان حلّ الهيئة الوطنية المستقلة لمكافحة الفساد. وبدا واضحًا أنّ الرجل بصدد تقويض أسس النظام الديمقراطي. فكانت ردّة الشارع الديمقراطي قوية رغم تأخرها. وشعر سعيّد بتهاوي سرديته في التفويض الشعبي وتيقن من أنه لا قبل له بشارع ديمقراطي يتمدد إلى أعماق البلاد، رغم نخبويته.

مع إدراكه بأن هذا الشارع يمثل نخبة تونس وخلاصة ستين سنة من تجربة المدرسة التونسية. وهو القوة السياسية التي انتخبته حينما وضعت في اختيار صعب، في حين لم يعد يقف إلى جانبه إلاّ بقاياً المنظومة القديمة وجانب من نخبتها التي اتهمته بالدوعشة ومعاداة الدولة المدنية سابقًا.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا بعد توجه رئيس تونس لحل المجلس الأعلى للقضاء؟

  • أطوار المواجهة بين الانقلاب والشارع الديمقراطي

تأكّد توجه الانقلاب على الدستور مع الأمر الرئاسي 117 بتاريخ 22 سبتمبر 2021. وهو أمر يمنح سعيّد جمع كل السلطات بين يديه. وقد جمع بين سلطتين منهما السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. ولم تبق خارج سلطته إلا السلطة القضائية.

ويمكن أن نلاحظ أنّ علاقة سعيّد بالمؤسسات متوتّرة بالقوّة، وأنّ نيّة هدمها كانت سابقة على الانقلاب، بل وسابقة على ترشّحه للانتخابات الرئاسية. لسبب بسيط وهو أنّها تمثّل مؤسسات وسيطة لا مكان لها في فكرة الانتظام القاعدي الأفقي. وهو انتظام الذي يلغي كلّ الوسائط السياسيّة من مؤسسات سواء كانت برلمانًا أو أحزابًا أو  منظمات مجتمع مدني بحجة أنّها تتأسس على علاقات عموديّة تمنع المشاركة المباشرة من الناس في تحقيق مصالحهم. 

"علاقة سعيّد بالمؤسسات متوتّرة بالقوّة وحتى قبل ترشحه للرئاسة لأنها مؤسسات وسيطة لا مكان لها في فكرة الانتظام القاعدي الأفقي وهو انتظام يلغي كلّ الوسائط السياسيّة بحجة أنّها تتأسس على علاقات عموديّة تمنع المشاركة المباشرة من الناس في تحقيق مصالحهم"

غير أنّ إلغاء الوسائط السياسيّة والمؤسسيّة كان في كلّ التجارب التي ينشد أصحابها الأفقيّة والعدل مقدّمة إلى تجارب مركزيّة سلطويّة محورها الفرد. وهذا ما انكشف من خلال أداء سعيّد في السبعة أشهر الماضيّة. وسعيّد المطالب بالبناء القاعدي الذي يبدأ من الأسفل انطلق من أعلى مؤسسات الدولة ليمركز كل السلطات بين يديه ويلغي بقيّة المؤسسات المجاورة لمؤسسات الدولة في النظام السياسي شبه البرلماني. وفي هذا السياق كان حلّ الحكومة وتجميد البرلمان. 

ويلاحظ عامل آخر عملي كان وراء استهداف المؤسسات ووراء المنهجيّة التي اتبعها قيس سعيّد في تصفيتها هو أطوار المواجهة التي اندلعت بين الانقلاب والشارع الديمقراطي بداية من 18 سبتمبر/أيلول 2021 وقد أمكن للفعاليات المواطنيّة أن تحشر الانقلاب في الزاوية وأن تجعل من المطلب الديمقراطي مطلبًا سياسيًّا في ذروة ترذيل الديمقراطيّة شنّه سعيّد برعاية الإعلام الموجّه من قبل لوبيات المال الموالي للمصالح القديمة وبتواطؤ من بقايا تعبيرات التجمّع ممثلة في الدستوري الحر.

"استبدال الأعلى للقضاء بمجلس معيّن يفسح المجال لقضاء التعليمات ويمكّن سعيّد من توظيفه في استهداف خصومه السياسيين وكلّ القوى الديمقراطيّة والمدافعين عن الدستور والديمقراطيّة"

وعلى ضوء المقاومة الديمقراطيّة بنى الانقلاب استراتيّجته في تنفيذ برنامجه وإدارة خطّته في استهداف المؤسسات والحريات العامّة والفرديّة. وفي هذا السياق يأتي التوجّه إلى حلّ المجلس الأعلى للقضاء. واستبداله بمجلس معيّن يفسح المجال لقضاء التعليمات ويمكّن سعيّد من توظيفه في استهداف خصومه السياسيين وكلّ القوى الديمقراطيّة والمدافعين عن الدستور والديمقراطيّة.

اقرأ/ي أيضًا: يوم 14 جانفي 2022: الانقلاب في مواجهة النخبة

  • صخرة المجلس الأعلى للقضاء

سعى الانقلاب إلى طيّ ملفّ مجلس نواب الشعب بأن يكون التجميد في حقيقته عمليّة حلّ، واختار أن يكون قتل المؤسسة تدريجيًّا بما يشبه عمليّة الخنق من خلال محاصرة المبنى التاريخي الذي يروي قصّة الدولة التونسيّة وغلق بوّابته بدبّابة وقطع رواتب نوابه وسجن بعضهم بسبب انتمائهم السياسي وكان التنكيل واضحًا بنواب ائتلاف الكرامة.

ورغم ما لوحظ من سلبيّة من قبل نسبة غير هيّنة من النواب في الدفاع عن مؤسستهم بسبب تواصل الاختلافات الحادّة والانقسامات حول المجلس حتّى بعد تجميده، فإنّ بروز مقاومة نشطة لاستعادته. وفي هذا الصدد كان عقد جلسة افتراضيّة احتفالاً بذكرى المصادقة على دستور الثورة. ويتمّ الإعداد لجلسة ثانية يبدو أنّها ستتجاوز الاحتفال إلى استعادة متوقّعة لدور المجلس وهو ما يعني أنّ خطّة تجميده قد تفشل.

وأمّا المؤسسة الثانية التي يتمّ استهدافها فهي المجلس الأعلى للقضاء، ولئن اعتبر قيس سعيّد بكلمة من وزارة الداخليّة مع منتصف الليل أنّ المجلس الأعلى للقضاء صار من الماضي. وكان ردّ المجلس الأعلى للقضاء في شخص رئيسه أنّ المجلس  واقعٌ حاضرٌ وهو حقيقة في المستقبل. وأثار التصريح بنيّة حلّ المجلس الأعلى للقضاء ردّة فعل قويّة رغم الانقسام داخل الجسم القضائي.

وكان لجمعيّة القضاة التونسيين موقفًا قويًا في الدفاع عن المجلس الأعلى للقضاء واعتبرت الحل استهدافًا للسلطة القضائية واستقلاليّتها. وأمضت شخصيّات جامعيّة من أساتذة وجامعيين وعمداء ومراجع في القانون الدستوري عريضة عبّروا فيها عن رفضهم حلّ المجلس الأعلى للقضاء وتعلقهم باستقلالية القضاء باعتباره سلطة "تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات" وشجبهم "غلق مقرّ المجلس الأعلى للقضاء من قِبَل قوات الأمن دون الاستناد في ذلك إلى أيّ نصٍّ قانوني رسمي".

"معركة استقلال القضاء قد تكون المنعرج الحاسم المفضي إلى استعادة المسار الديمقراطي وانكسار الانقلاب"

وكان للقوى الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني موقفًا قويًا في مساندة المجلس والدفاع عن استقلاليّة القضاء. وهذا لا يخفي انقسامًا في الطبقة السياسيّة حول موضوع القضاء وهو انقسام متّصل اتّصالاً وثيقًا بالاختلاف حول الانقلاب. ولكنّ الأمر الأخطر تمثّل في ما كان من افتعال التقاطع بين استهداف المجلس الأعلى للقضاء وقضيّة الاغتيالين السياسيين. ودخلت هيئة الدفاع عن الشهيدين على الخطّ لتصبح ذراعًا يتبنّى موقف الانقلاب وتوجّهه إلى استهداف القضاء واستقلاليّته.

يأتي استهداف المجلس الأعلى للقضاء في إطار سعي الانقلاب إلى الجمع بين كلّ السلطات، ولكنّ استهدافه طال مؤسستين دستوريّتين الأولى تمثّل المؤسسة الأصليّة وتمثّل الثانية ضمانًا للدستور وللحقوق والحريّات. وتعتبر هذه المعركة حاسمة في مستقبل الانقلاب. وفضلاً عمّا أثاره الهجوم على المجلس الأعلى للقضاء من ردود فعل دولية رافضة لمسلك قيس سعيّد ومخالفته للمعايير الدوليّة في القضاء وقد أمضت عليها الدولة التونسيّة، فإنّ ما أبداه القضاة من استماتة في الدفاع عن مؤسستهم وعن السلطة القضائيّة يدفع إلى اعتبار أنّ معركة استقلال القضاء قد تكون المنعرج الحاسم المفضي إلى استعادة المسار الديمقراطي وانكسار الانقلاب.      

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل يعلم الرئيس أن تونس تواجه خطر الإفلاس في أفريل؟

نادي باريس ينادي.. والنخبة تغرق في السياسة المجردة