بعد مرور أيام قليلة على عودة وفد الحكومة التونسية من واشنطن وإعلان اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي، بدأت المعلومات حول برنامج الحكومة "الإصلاحي"، كما تٌطلق عليه، تتقاطع حول رفع الدعم عن المواد الأساسية والطاقة وإصلاح المؤسسات العمومية مع التفريط في جزء منها إلى القطاع الخاص، إجراءات تأجل تنفيذها منذ مدة ورغم تأثيرها السلبي على الطبقات الوسطى والفقيرة نتيجة الظرف الاقتصادي والمعيشي الصعب وضعف الأجور في تونس، إلا أن الحكومة ماضية في تنفيذها وفق تأكيدات وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي سمير سعيّد.

تعاني تونس منذ عقود من خلل هيكلي في الاقتصاد والميزانية العمومية دفع بالطبقة الوسطى التي تمثل عمود التوازن الاجتماعي إلى التقلص

وتعاني تونس منذ عقود من خلل هيكلي في الاقتصاد والميزانية العمومية دفع بالطبقة الوسطى التي تمثل عمود التوازن الاجتماعي إلى التقلص بفعل سقوط جزء من الموظفين سواء في القطاع العمومي والخاص الذين يتقاضون أجورًا تقل عن 800 دينار إلى التدحرج في سلم الرقي الاجتماعي ودخلوا مرحلة الخصاصة.

فهل تكون الإصلاحات المالية الموجعة/الصعبة، كما تصفها الحكومة نفسها، عاملًا من عوامل توسيع خارطة الفقر على حساب الطبقة الوسطى وكيف يؤثر ذلك على الاستقرار الاجتماعي الذي مثل غاليًا عاملاً أساسيًا أو هو العامل الأبرز للانتفاضات الشعبية التي عرفتها تونس في تاريخها المعاصر؟

عز الدين سعيدان لـ"الترا تونس": الطبقة الوسطى كانت عامل استقرار كبير في تونس من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية ولكنها ضعفت وتدهور حالها

في هذا السياق، يتساءل الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان في تصريح لـ"الترا صوت تونس" عن وجود الطبقة الوسطى حاليًا في تونس، مشيرًا إلى أنها كانت عامل استقرار كبير في تونس من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية ومعتبرًا أنها "تهرت بشكل كبير وجزء منها التحق بالطبقة الفقيرة وهذا راجع لعدم تحقيق نمو اقتصادي في السنوات الأخيرة وبالتالي لم تحدث مواطن شغل ولا يمكن تحقيق كرامة المنتمين إلى الطبقة الوسطى إلا بمواطن شغل حقيقية وليس بمواطن شغل مزيفة"، مضيفًا أن لا عدل بين التونسيين أمام التضخم فكل من لديه دخل قار أو جراية تقاعد ليس لديه أي إمكانية لمجابهة التضخم المتزايد وأن أكثر طبقة تتأثر بالتضخم هي الطبقة الوسطى إلى جانب الطبقات المعدومة التي لا تملك دخلاً قارًا ولا شغلًا".

 

 

  • نتائج عكسية

كان وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيّد قد أكد، في تصريح إعلامي، أنه سيتم توجيه الدعم لمستحقيه وليس إلغاءه، مشيرًا إلى أن "الحكومة وضعت منصة للغرض سينطلق العمل بها خلال السنة القادمة، مشيرًا  إلى أن الترفيع في الأسعار سيتم  إثر الانطلاق في عملية تحويل الدعم لمستحقيه عبر هذه المنصة.

وزير الاقتصاد التونسي: الترفيع في الأسعار سيتم  إثر الانطلاق في عملية تحويل الدعم لمستحقيه عبر منصة خاصة

في هذا التوجه، يؤكد عز الدين سعيدان أن "تونس تأخرت كثيراً في تنفيذ الإصلاحات الضرورية ولا يمكن المواصلة في تأجيلها خاصة بعد الجهد الكبير للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي على أساس برنامج إصلاحات بمسميات مختلفة هناك من يسميها صعبة وهناك من يعتبر أنها تأخرت كثيرًا وهي بالنتيجة إجراءات ستشمل كل الفئات الاجتماعية وبالأساس الطبقة الوسطى لأنه سيتم العودة إلى حقيقة الأسعار أي الترفيع التدريجي للأسعار مع بداية السنة القادمة لكن في المقابل ماذا حصل على مستوى دخل الطبقة الوسطى؟".

ويشير سعيدان، في حديثه لـ"الترا تونس" إلى أن إصلاح منظومة الدعم أثناء الأزمات أمر مخطر اجتماعيًا فإصلاح الدعم يتم عندما يكون الاقتصاد في وضع جيد وعند تسجيل نسب نمو لكن تونس لم تقم بذلك في  وقته وبالتالي أصبح الآن ضرورة قصوى ذلك أن ميزانية الدعم خرجت عن السيطرة وقضت بشكل كامل على ميزانية الاستثمار العمومي الذي اختفى في السنوات الأخيرة، مشددًا على الأسئلة التي تطرح حول كيفية توجيه الدعم ومن سيتمتع بالتعويض عن الترفيع في الأسعار مبدًيا خوفه من إصلاح متسرع يصعب تحمله وقد يأتي  بنتائج عكسية، وفق تقديره.

المختص الاقتصادي عز الدين سعيدان لـ"الترا تونس": عديد الأسئلة تُطرح حول كيفية توجيه الدعم ومن سيتمتع بالتعويض عن الترفيع في الأسعار

 

 

  • خطر الانفجار الاجتماعي

وعرفت تونس في تاريخها المعاصر هزات اجتماعية نتيجة ذهاب الدولة في خيارات تقشفية والترفيع في أسعار بعض المواد الأساسية مثلما حدث في سنة 1986 وانتهت إلى تراجع سلطة الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عن تلك القرارات، كما عرفت البلاد انتفاضة شعبية سنة 2011  أسقطت نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي بسبب مطالب تتعلق بارتفاع نسب البطالة وتردي الوضع الاجتماعي، وغالباً ما كانت الطبقة الوسطى التي تتكون في مجملها من أجراء القطاعين العام والخاص فاعلًا في هذه الحركات الاجتماعية للدفاع عن مصالحها المادية والمعيشية بالأساس.

في هذا السياق، يقول عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منير حسين لـ"الترا تونس" إن الأرقام إلى حد الآن غير متوفرة حول تراجع القدرة الشرائية بالنسبة إلى الطبقة الوسطى جراء جائحة كورونا و تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية وإن المؤشرات تقول إن هذين  العاملين ساهما في إلحاق ضرر بفئة الأجراء، مشيرًا إلى أن منوال التنمية اعتمد بالأساس على التموقع في المجال الاقتصادي العالمي   انطلاقًا من ضعف الأجور.

عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منير حسين لـ"الترا تونس": توجه تقشفي كبير جدًا  من الدولة أضر بالعائلات وأصبحت كلفة التعليم والصحة مثلًا عالية جدًا

مؤكدًا أن الطبقة الوسطى والفقيرة ستكون عاجزة عن توفير حاجياتها الأساسية وما يؤزم الوضع أكثر أن الدولة تخلت عن السياسات النشيطة في إعادة توزيع الثروة التي تشمل التعليم والصحة فهناك توجهًا تقشفيًا كبيرًا جدًا أضر بالعائلات حيث أصبحت كلفة التعليم والصحة عالية جدًا، إضافة إلى فشل الدولة في التحكم في منظومة الأسعار وهو ما أدى إلى انفجار في نسب التضخم المتأتي في جزء منه من الخارج ولكن أيضًا نتيجة ضعف مؤسسات الدولة وعجزها عن التدخل لتعديل الأسعار بل إن الإجراءات في عديد الأحيان كانت لها نتائج عكسية مثلما حدث مع المرسوم المتعلق بالتصدي للاحتكار.

وأضاف منير حسين أن "تقلص الطبقة الوسطى يؤدي عادة إلى عدم الاستقرار الاجتماعي ولدينا الآن الكثير من مظاهر ضرب الاستقرار الاجتماعي، ارتفاع مؤشرات الانحراف والهجرة غير النظامية بالإضافة إلى الانقطاع المبكر عن التعليم"، مؤكدًا أن تاريخ تونس عرف الهزات الاجتماعية التي عادة ما كانت دورية وكلها مرتبطة بالخيرات والسياسات التي تذهب فيها السلطة ولا تتفطن إلى إشكالاتها.

منير حسين لـ"الترا تونس": "تقلص الطبقة الوسطى يؤدي عادة إلى عدم الاستقرار الاجتماعي ولدينا الآن الكثير من مظاهر ضرب الاستقرار الاجتماعي، ارتفاع مؤشرات الانحراف والهجرة غير النظامية بالإضافة إلى الانقطاع المبكر عن التعليم"

وحول دور السلطة في معالجة هذا الوضع يقول حسين إن "القطيعة بين السلطة والمجتمع تتعمق أكثر فأكثر وهو ما ينعكس في الصدامات المتواترة بين الشباب وجهاز الأمن كما تعمقت الهوة بين الخطاب السياسي الذي لم يعد مقنعًا والواقع المعيشي المتردي وعادة عندما يتجه المجتمع إلى التركيز على اليومي فإنه مؤشر على قرب الهزة الاجتماعية في غياب تواصل مع السلطة التي تصر على الذهاب في إصلاحات موجعة مثل رفع الدعم وهو أمر غير ممكن في ظل منوال حالي يعتمد سياسة تأجير ضعيفة فالمعادلة تقوم على إعادة النظر في نظام التأجير بالإضافة إلى الترفيع في القدرة الشرائية والتحكم في نسب التضخم قبل الرفع"، حسب تعبيره.

منير حسين لـ"الترا تونس": رفع الدعم هو أمر غير ممكن في ظل منوال حالي يعتمد سياسة تأجير ضعيفة فالمعادلة تقوم على إعادة النظر في نظام التأجير بالإضافة إلى الترفيع في القدرة الشرائية والتحكم في نسب التضخم قبل الرفع

  • مواصلة الدعم

ويرى رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك  لطفي الرياحي لـ"الترا تونس" أن وضع  الطبقة الوسطى صعب ومتدهور نظرًا لغلاء الأسعار وارتفاع تكلفة الضروريات الأساسية مشددًا على ضرورة توجيه الدعم إلى مستحقيه فعلًا والفصل الكلي بين دعم المستهلك ودعم المصنع، حسب قوله.

رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لـ"الترا تونس": الطبقة الوسطى أصبحت في حاجة ماسة إلى الدعم حتى لا تتدحرج إلى الفقر ففي حال غيابها يختل التوازن الاجتماعي برمته

ووفق تقدير الرياحي، "فالطبقة الوسطى أصبحت في حاجة ماسة إلى الدعم حتى لا تتدحرج إلى الفقر وتكون صمام الأمان، ففي حال غيابها يختل التوازن الاجتماعي برمته، تصبح هناك طبقة غنية جدًا وطبقة تعيش الفقر".

وكانت وزيرة المالية سهام نمصية البوغديري أعلنت في وقت سابق  أنه سيتم رفع الدعم على المحروقات بصفة نهائية بحلول سنة 2026 لتبلغ أسعارها الحقيقية وذلك تطبيقًا "للإصلاحات" التي انطلقت فيها تونس بخصوص التعديل الآلي لأسعار المحروقات بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي. فيما حذر المرصد التونسي للاقتصاد من الذهاب إلى حقيقة الأسعار لأنه سيؤثر على الجهاز الإنتاجي ويمس من الحقوق الأساسية للمواطنين ذلك أن الوقود منتوج حيوي يؤثر على عدة قطاعات من النشاط الاقتصادي وسيرفع من تكلفة الإنتاج والأسعار.