"إذا سكت الزمان عن المظالم قاوم ثم قاوم ثم قاوم"
فرقة الوعد
منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبعد انطلاق عمليّة طوفان الأقصى، أصبح مصطلح المقاومة الفلسطينية متصدّرًا لكلّ محرّكات البحث في العالم، سواء للبحث عن آخر تطوّرات القضيّة الفلسطينيّة أو بحثًا عن آليات وأدوات لنصرة القضية.
ويتجاوز مفهوم المقاومة مجرد حمل السلاح إلى مفهوم أشمل وأوسع ويتّخذ عدّة أشكال لا تقل أهمية عن الرصاص من بينها المقاومة الثقافية.
يتجاوز مفهوم المقاومة مجرّد حمل السلاح إلى مفهوم أشمل، ويتّخذ عدّة أشكال لا تقل أهمية عن الرصاص من بينها المقاومة الثقافية
فما هو مفهومها؟ وكيف يمكن أن يتحوّل الفعل الثقافي لأداة لمحاربة المحتلّ؟ وما مدى نجاعة هذه القوّة الناعمة للانتصار لشعب ضاق ذرعًا من مرارة الحرب ولوعة فقدان الأحبة.
"الترا تونس" حاول الإجابة عن هذه التساؤلات مع عدد من الباحثين والمختصّين في الشأن الثقافي تجدون التفاصيل في هذا التقرير.
- الباحث مولدي القسومي: "المقاومة الثقافية هي تجفيف منابع إمكانية ابتداع أي مرتكز فكريّ للكيان الصهيوني"
يؤكّد الأستاذ والباحث في علم الاجتماع مولدي القسومي أنّ القضيّة الفلسطينية تجاوزت بُعدها السياسي والعسكري والقانوني وتحوّلت إلى مسألة فكرية وذهنية، وثقافية، ووجدانيّة، تجعلنا نتحدّث اليوم عن حالة فلسطينية تجذّر شأنًا ثقافيًا.
مولدي القسومي (باحث في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": تتخذ المقاومة في الفعل الثقافي عديد الأشكال (سينما، أدب، شعر، كتابة..) وحين تستبطن كلّ هذه التعبيرات، ثقافة المقاومة، فإنّها تتحول إلى مقاومة ثقافية
وفي تفصيل لمفهوم المقاومة الثقافيّة، يشير محدّثنا أنّ الثقافة هي الوعاء الفكري والوجداني والذهني الذي يستوعب مبادئ المقاومة فتصبح المقاومة ثقافة، مضيفًا أنه عندما يقع استيعاب فعل المقاومة بقدر من الاستبطان الجماعي، يصبح ثقافة، ومن داخل الاستبطان الثقافي لفعل المقاومة يولد مفهوم المقاومة الثقافية، وفقه.
وعن أشكال المقاومة الثقافية يقول الباحث في علم الاجتماع، إن المقاومة في الفعل الثقافي تتخذ عديد الأشكال كالسينما، والأدب، والفكر، والشعر، وكل أنماط الكتابة.. مضيفًا أنّه عندما تستبطن كلّ هذه التعبيرات، ثقافة المقاومة، فإنّها تتحول إلى مقاومة ثقافية.
مولدي القسومي لـ"الترا تونس": الكيان الصهيوني غير موجود على مستوى الشرعية التاريخية، ولهذا يستعطف ويطلب الاعتراف الأكاديمي والفكري والثقافي وينفق مبلغًا طائلًا في البحث العلمي
ورغم ما ينفقه الكيان الصهيوني في البحث العلمي، (ينفق سنويًّا 5% من الناتج الدّاخلي الخام الذي قدّر سنة 2022 بحوالي 420 مليار دولار، في البحث العلمي)، بالإضافة إلى القدرات الجبارة والإمكانيات الرهيبة والتطوّر غير المسبوق داخله، يشدّد محدّثنا أنّ هذا الكيان غير موجود على مستوى الشرعية التاريخية، إذ يستعطف ويطلب الاعتراف، بدءًا من الاعتراف الأكاديمي والفكري والثقافي وصولًا حتّى للاعتراف الرياضي.
وفسّر القسومي ذلك، في مستوى أوّل، بحركة "الإهواء والإغراء" التي تعمل من خلالها الكيانات والمنظمات اللّقاءات والمنتديات الأكاديمية والفنية والفكرية من أجل التطبيع بهدف تحقيق الاعتراف كمكسب ثقافي، مضيفًا أنّ الدولة تصبح فاقدة لمشروعيتها إذا لم يقع التبني والمقبوليّة الثقافية من قبل كل الفاعلين الثقافيين ومن هنا تأتي المقاومة الثقافية كواحدة من أقوى الأسلحة في مواجهة ثقافة الاعتراف بهذا الكيان.
مولدي القسومي لـ"الترا تونس": يكفي أن لا نعترف بالصهيونية فكريًا وببطلانها التاريخي، كي نكون قد قطعنا عليها حبل الوجود أصلًا
وفي حديثه عن المقاطعة، يقول القسومي: "هي سلاح ثقافي مهم من أجل عدم الاعتراف، فيكفي أن لا نعترف بالصهيونية فكريًا وببطلانها التاريخي، كي نكون قد قطعنا عليها حبل الوجود أصلًا".
ويفسّر محدّثنا بأنّ هدف المقاومة الثقافية هو قطع وتجفيف منابع إمكانية ابتداع أي مرتكز فكريّ كان أو ذهني يعطي شرعية وهميّة لهذا الكيان.
وفي سؤاله عن مدى فاعلية القوى الناعمة في الحروب الحديثة، يجيب مولدي القسومي أنّ القوى الناعمة هي الأصل، وأنّ القوى الصلبة هي الأداة، ومتى وقع إلغاء فاعلية القوى الناعمة القائمة على التفكير والتجذير الفكري والإيديولوجي، تنتفي كلّ المبررات ولا يبقى للقوى الصلبة أصل تقوم عليه، وفق تعبيره، مضيفًا أنّ فاعليّة القوى الصلبة تبنى على وثوقيّة القوى الناعمة لديها، متى نفذت هذه الأسباب انعدمت الوسائل وفقدت حجّتها.
ويختم الباحث في علم الاجتماع حديثه قائلًا إنّ المقاومة الثقافية لا تقف في حدود الفعل الثقافي بل تصل إلى مداها الأقصى الذي يتمثل في بناء ثقافة بديلة قائمة على الرفض المتعدّد لهذا الكيان القائم على ما أصّله من فكر ومرجعيات وخرافات ومتخيّل بُني على معنى بروتوكولات حكومات صهيون الذين زوّروا العهد التوراتي واجترحوا منه خرافاتهم. فعندما تنفي هذا المرتكز الثقافي لم يعد للقوى الصلبة حجّة لتوجد أصلًا".
- الناقد السينمائي ناصر الصردي: "وحتى الكاميرا. .تناضل"
ومن جهته، يؤكّد الناقد السينمائي ناصر الصردي أنّ سينما المقاومة هي التي تتساءل وتتصدى لواقع لا يتماشى مع القيم الإنسانية الكبرى، وقد ظهر هذا المفهوم سنة 1913 في فرنسا عندما وقع فهم السينما كأداة تعبير، وانطلقت مع مجموعة من العمّال والنقابات الذين استعملوا السينما للتعريف بقضاياهم، مشيرًا إلى أنّ هناك تسميات مختلفة لها كالسينما البديلة أو المناضلة أو الموازية.
ناصر الصردي (ناقد سينمائي) لـ"الترا تونس": هناك تسميات مختلفة لسينما المقاومة كالسينما البديلة أو المناضلة أو الموازية، وقد انطلقت في فرنسا مع مجموعة من النقابات الذين استعملوا السينما للتعريف بقضاياهم
ويقول الناقد السينمائي إنّ ظهورها الرسمي كان مع سينما البروباغندا في الاتحاد السوفياتي بعد الثورة البولشيفيّة سنة 1917 حيث وقع إنشاء مجموعات سينمائية من أجل التعليم والترويج للاشتراكية والشيوعية بالإضافة إلى اعتمادها كأداة اتصال للقادة والزعماء، ومن ثمّ انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وإنجلترا.
وينوّه محدّثنا أنّ المخرج الهولندي "يوريس ايفنز" حدّد مفهوم سينما المقاومة من خلال اعتبار السينمائي مقاومًا دون كاميرا، وأنّه ملتزم بالصراع اليومي سواء بالبحث أو الاكتشاف بالإضافة إلى ضرورة أن تكون له عين على الواقع وعين مفتوحة خارج الكاميرا وعين ثالثة موجّهة نحو المستقبل.
ويقول الصردي إنّ المشتغل في حقل سينما المقاومة يجب أن يحدّد مكانه السياسي، مشدّدًا على أنّ الكاميرا تناضل أيضًا إلى جانب النضالات المشروعة إنسانيًا.
ناقد سينمائي لـ"الترا تونس": هناك تعريفات للسينمائي تعدّه مقاومًا دون كاميرا، وأنّه ملتزم بضرورة أن تكون له عين على الواقع وعين مفتوحة خارج الكاميرا وعين ثالثة نحو المستقبل
ويؤكّد ناصر الصردي أنّ سينما المقاومة منتشرة عالميًّا لكنّ غاياتها اختلفت، فباستثناء القضيّة الفسطينيّة، قلّ الحديث عن الاستعمار المسلّح المباشر لذلك لم تعد هناك سينما تحرّرية وظهرت في المقابل نضالات جديدة كالقضايا البيئية والعولمة والاستعمار الثقافي.
وعن دور سينما المقاومة في مناصرة القضيّة الفلسطينية يؤكّد محدّثنا أن السينما الفلسطينية في بداياتها كان دورها يتمثّل في عمليّة التعبئة من خلال أعمال تصوّر الفدائيين بصورة الإنسان النقي الذي لا يقهر وأنّ في موته انتصار.
ناقد سينمائي لـ"الترا تونس": لسينما المقاومة دور في مناصرة القضيّة الفلسطينية التي أخذت مكانة أبعد حول العالم بفصل عدة مخريج فلسطينيين أعطوا بُعدًا إنسانيًّا لقضية حق شعب في تقرير مصيره
ومن ثم تحوّلت للتعريف بالقضية عبر العالم كفيلم "عرس الجليل" وفيلم "نشيد الحجر" للمخرج ميشيل خليفي. وتطورت بعدها مع الكثير من المخرجين الفلسطينيين في كامل أرجاء العالم لتأخذ مكانة أبعد وتركّز على البعد السينمائي الجمالي وهذا ما أعطى بُعدًا إنسانيًّا لقضية حق شعب في تقرير مصيره على أرضه.
- الفنّان مقداد السهيلي: "الكلمة الهادفة لا يزول مفعولها مع الزمن"
لا يمكن الحديث عن المقاومة الثقافية دون التعريج عن دور الأغنية الملتزمة كأداة مواجهة ومقاومة، وفي هذا الإطار يقول الفنّان مقداد السهيلي إنّ العمل الفني الملتزم يمتلك ثقافة واعية تصل قلوب إلى الجماهير بسرعة، وهي أشدّ وقعًا وتأثيرًا من الأسلحة، وفقه.
الفنّان مقداد السهيلي لـ"الترا تونس": العمل الفني الملتزم أشدّ وقعًا وتأثيرًا من الأسلحة، وهو يمتلك ثقافة واعية تصل قلوب إلى الجماهير بسرعة
وفي علاقة بمفهوم الأغنية الملتزمة، يفسرّ السهيلي بأنّها الأغنية التي تتطرق لمسائل سياسية واجتماعيّة، مشيرًا إلى أنّ كلّ من قاموا بالأغنية الملتزمة قاوموا من الداخل في بلدانهم كل أنواع الغطرسة وتلجيم الأفواه فأصبحت الموسيقى سلاحًا ضدّ الدكتاتورية، وفقه.
ويضيف السهيلي أنّ الأغنية الملتزمة انطلقت مع الشيخ إمام في مصر وأحمد فؤاد نجم ومحمود درويش وسميح القاسم ومظفّر النواب بين كتابة وتلحين، مشيرًا إلى أنّ الطبقة المثقفة بمختلف توجهاتها السياسية والإيديولوجية كانت تقاوم زمن الدكتاتوريات رغم كلّ التضييقات.
الفنّان مقداد السهيلي لـ"الترا تونس": كلّ من قاموا بالأغنية الملتزمة قاوموا داخل بلدانهم الغطرسة وتكميم الأفواه فأصبحت الموسيقى سلاحًا ضدّ الدكتاتورية
وتحدّث مقداد السهيلي عن بدايات الفرق الملتزمة، حيث أسّس في السبعينات المجموعة الموسيقيّة "أصحاب الكلمة" مع مجموعة من الطلبة وقد أنتجت جملة من الأشرطة وغنّت لشعراء غير معروفين مثل عبد المجيد الجمني، والفيتوري التليش.. وقد عاصرت هذه الفرقة فرقًا ملتزمة أخرى كمجموعة الحمائم البيض ومجموعة خماسي الموسيقى العربية وأولاد بومخلوف.
ويشدّد محدّثنا على أنّه لا يوجد سلاح أقوى من المقاومة الثقافية والكلمة الهادفة التي لا يزول مفعولها مع الزمن.
وعن دور الفن في نصرة القضية الفلسطينية، يشير محدّثنا أنّ للأغنية المقاومة سحرًا خاصًا، فهي وسيلة حشد وتعبئة في مواجهة المحتل والطغيان بالإضافة إلى محاكاتها لهموم وآلام الشعب الفلسطيني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفق تعبيره.