18-أكتوبر-2023
مظاهرة في تونس دعما للقضية الفلسطينية.jpg

تفسّر أسباب خصوصية عديدة، ذات أسس تاريخية، تعلّق التونسيين بالقضية الأم القضية الفلسطينية (صورة ياسين القايدي/الأناضول/Getty)

 

يصعب الجزم بتميّز التزام مواطني بلد عربي ما بالقضية الفلسطينية أكثر من مواطني بلد عربي آخر. فحسب الاستطلاع السنوي لعام 2023 للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فالرأي العام العربي شبه متوافق (76 في المائة) على أن القضية الفلسطينية هي قضية كل العرب وليست قضية الفلسطينيين فقط. وهو موقف الرأي العام التونسي بزيادة 10 في المائة عن المعدّل العربي أي بنسبة 86 في المائة. كما يرفض 84 في المائة من الرأي العام العربي اعتراف بلدانهم بإسرائيل، لكن يتعزّز رفض التونسيين بزيادة عن المعدل العام أيضًا ليبلغ نسبة 90 في المائة.

لقي الموقف الرسمي التونسي إسنادًا شعبيًا وحزبيًا واسعًا إذ تكثّفت المسيرات الشعبية ويُؤمل أن يلقى قانون تجريم التطبيع النور بعد تأخر إصداره طيلة السنوات المنقضية

موقف الرئاسة التونسية بعيد بدء معركة "طوفان الأقصى"، الداعم لحق الشعب الفلسطيني في استرجاع "كلّ أرض فلسطين" لتأسيس دولة مستقلة عاصمتها القدس، بما يعني تجاوز الموقف التقليدي للدبلوماسية التونسية، وكذا الموقف الرسمي العربي، وهو دعم التفاوض السياسي على قاعدة حلّ الدولتين، لقي إسنادًا شعبيًا وحزبيًا واسعًا. إذ تكثّفت المسيرات الشعبية، التي دعت إليها أحزاب ومنظمات وطنية، إسنادًا للمقاومة المسلحة. كما دعا اتحاد الكتاب التونسيين النقابات العربية لنشر بيانات "لتأييد المقاومة الفلسطينية الباسلة". فيما يُؤمل أن يلقى قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني النور بعد تأخر إصداره طيلة السنوات المنقضية.

 

يبدو بذلك أن التزام التونسيين وتعلّقهم بالقضيّة الفلسطينية، على المستوى الشعبي والنخبوي والرسمي، بيّنًا بشكل واضح على حدّ السواء بصفة إجمالية، وهو ما يتمّ إثباته في كلّ مناسبة. يُستذكر، في هذا السياق، المقولة الخالدة للزعيم الشهيد ياسر عرفات متوجهًا للفلسطينيين: "إذا ضاقت بكم السبل فاذهبوا إلى تونس فإن بها شعباً يعشق فلسطين".

فعدا الأسباب العامة لإسناد القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عادلة أو قضية عربية مشتركة، تفسّر أسباب خصوصية أخرى، ذات أسس تاريخية أساسًا، تعلّق التونسيين بالقضية الأم، نتعرض لها سريعًا في هذا التقرير:

عدا الأسباب العامة لإسناد القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عادلة أو قضية عربية مشتركة، تفسّر أسباب خصوصية أخرى، ذات أسس تاريخية، تعلّق التونسيين بالقضية الأم

1 ـ استقبال تونس لمنظمة التحرير الفلسطينية: وشائج علاقة تاريخية

استضافت تونس منظمة التحرير الفلسطينية على أراضيها طيلة 11 سنة منذ عام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إلى غاية 1993 إثر توقيع اتفاقية أوسلو. لتستقبل تونس بذلك ما يزيد عن 8 آلاف فلسطيني في مقدّمتهم قيادات المنظمة على غرار الشهداء ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد. وقد تَحدّد مقرّ قيادة المنظّمة في مدينة حمّام الشطّ الواقعة على ساحل الضاحية الجنوبية للعاصمة، فيما وُضعت قوات جيش التحرير في معسكر في وادي الزرقاء (62 كيلومترًا غرب العاصمة تونس). 

استضافت تونس منظمة التحرير الفلسطينية على أراضيها طيلة 11 سنة منذ عام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إلى غاية 1993 لتستقبل تونس بذلك ما يزيد عن 8 آلاف فلسطيني في مقدّمتهم قيادات المنظمة

لقي احتضان آلاف الفلسطينيين إضافة لقيادات المنظّمة حفاوة شعبية عارمة، وعنصر دفع مشترك من السلطة والمعارضة وقتها على حدّ السواء. فيما كانت وسيلة بورقيبة زوجة الرئيس التونسي وقتها الحبيب بورقيبة، من أهم الشخصيات التي عملت على دعم احتضان للفلسطينيين وتيسير ظروف إقامتهم. 

أدت سنوات استضافة المنظمة لنشأة علاقة حميمية بين التونسيين وضيوفهم، ودائمًا ما تروي العائلات الفلسطينية، زمن إقامتها في تونس، شواهد عديدة حول حسن استضافتهم وتبجيلهم شعبيًا ورسميًا. عمّقت هذه الاستضافة بذلك من تعلّق التونسيين بالقضية الفلسطينية، وهو ما تعزّز تباعًا عندما امتزجت الدماء التونسية والفلسطينية بسبب جرائم العدوّ.

 

2 ـ مجزرة حمام الشط: ثأر مشترك ضد العدّو الصهيوني

استهدف الكيان الصهيوني في عمليّة اسماها "الساق الخشبية" اجتماعًا لقيادات منظمّة التحرير بمقرّها بتونس بتاريخ 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1985، في عدوان إجرامي أدى لارتقاء شهداء فلسطينيين وتونسيين لم ينف الكيان علنيًا مسؤوليته عنه.

ووفق تقرير السلطات التونسية للأمم المتحّدة، استشهد 50 فلسطينياً و18 تونسياً وجرح 100 شخص، ليتأكد مجددًا أن الكيان القاتل هو عدوّ مشترك أوغل في دماء الفلسطينيين والتونسيين دون تمييز. استصدرت الحكومة التونسية قرار إدانة للعدوان من مجلس الأمن دون إدانة صريحة لدولة الكيان فيما اُعتبر اختراقًا دبلوماسيًا تونسيًا بعد الحيلولة دون إصدار فيتو أمريكي. 

استهدف الكيان الصهيوني في عمليّة اسماها "الساق الخشبية" اجتماعًا لقيادات منظمّة التحرير بمقرّها بتونس بتاريخ 1 أكتوبر 1985، في عدوان إجرامي أدى لارتقاء شهداء فلسطينيين وتونسيين

بات تاريخ 1 أكتوبر/تشرين الأول من وقتها يومًا رسميًا لإحياء عدوان حمام الشط، إذ تجري العادة سنويًا أن يضع السفير الفلسطيني بتونس مع المسؤولين التونسيين إكليلًا من الزهور على أضرحة الشهداء.

اعتداء الاحتلال على السيادة التونسية تجدد بعد أقل من ثلاث سنوات باغتيال قوة صهيونية للقيادي في منظمة التحرير خليل الوزير الملقب بأبي جهاد بمقرّ إقامته بسيدي بوسعيد يوم 16 أفريل/نيسان 1988. زاد هذا الاغتيال على الأراضي التونسية في تعزيز مشاعر عداوة التونسيين للكيان الغاصب.

 

3 ـ المنظمات الوطنية واتحادات الطلبة: إسناد تاريخي وصارم للقضية

دفعت قبضة السلطة السياسية في تونس طيلة سنوات الاستبداد وإبعادها لمختلف التيارات المنافسة من قوميين عرب ويساريين على وجه الخصوص من النشاط في المجال السياسي الرسمي، إلى تنامي نفوذ هذه التيارات داخل المنظمات الوطنية باعتبارها تحوّلت لامتدادات للتيارات المعارضة المقموعة. تباعًا، تصاعد على وجه الخصوص نفوذ القوميين بمختلف تمثلاتهم، وقد كانوا فصيل المعارضة الرئيسي بعد الاستقلال، في عديد المنظمات الوطنية والمهنية على غرار اتحاد الشغل وهيئة المحامين. وهو نفوذ أسهم في تصدّر دعم القضية الفلسطينية في أولوية أنشطتها. 

ظلت القضية الفلسطينية عنوان وحدة وتجميع بين مختلف المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية واتحادات الطلبة في تونس على مدى عقود، وتنافست فيما بينها في إظهار دعمها وتأييدها

في ذات السياق، تميّز حزبا الوحدة الشعبية وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، حزبا المعارضة التاريخية المؤسسين من رفيقيْ بورقيبة أحمد بن صالح وأحمد المستيري على التوالي، بحيثية عروبية واضحة. كما كان الاتحاد العام لطلبة تونس عنوانًا أساسيًا في نشر الالتزام بالقضية الفلسطينية في أوساط الجامعة التونسية على مدى عقود. وتباعًا أسهم تأسيس الاتحاد العام التونسي للطلبة ذي الخلفية الإسلامية لإنشاء حالة من التنافس داخل رحب الجامعة في إسناد القضية وذلك منذ نهاية الثمانينيات.

في خضمّ هذه السياقات، ظلت القضية الفلسطينية عنوان وحدة وتجميع بين مختلف المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية واتحادات الطلبة على مدى عقود، وتنافست فيما بينها في إظهار دعمها وتأييدها خاصة على النحو المعزّز بعد استضافة قيادات منظمة التحرير الوطني في تونس وربطها اتصالات مباشرة بالقيادات الحزبية والمدنية والطلابية في تونس. ليتعمّق، بكلّ ذلك، التزام التونسيين تجاه القضية الأمّ.

4 ـ نظام بن علي والقضية الفلسطينية: التوظيف "المفيد"

انخرط نظام زين العابدين بن علي، واقعًا، في مسار تطبيعي مع الكيان الصهيوني أوساط التسعينيات بعد اتفاقية أوسلو، لكن سرعان ما تم قطع العلاقات الرسمية إثر الانتفاضة الثانية عام 2000. ولكن ظلّت الاتصالات السرية مستمرّة. ورغم ذلك، ظل الخطاب الرسمي للنظام يحرص على إظهار الدعم العلني للقضية الفلسطينية في سياق الدعاية بالتزام بن علي بالقضايا العربية، سواء عبر أنشطة الحزب الحاكم أو التساهل النسبي في تمكين التونسيين من ممارسة حرية التظاهر دعمًا للقضية.

كان نظام بن علي يعتبر القضية الفلسطينية عنوانًا محتملًا للمزايدة عليه من معارضيه بمختلف توجهاتهم، ولذلك كان يحرص على إظهار التزامه العلني بها، خاصة استتباعًا للعلاقات الشخصية له مع أبو عمار وخليفته أبو مازن

ففي حرب غزة الأولى عام 2008 على سبيل المثال، نظم الحزب الحاكم وقتها، التجمع الدستوري الديمقراطي، مظاهرة تضامنًا مع الشعب الفلسطيني تقدّمها الوزير الأول حينها محمد الغنوشي وقيادات منظمات وطنية. 

كان يعتبر نظام بن علي القضية الفلسطينية عنوانًا محتملًا للمزايدة عليه من معارضيه بمختلف توجهاتهم، ولذلك كان يحرص على إظهار التزامه العلني بها، خاصة استتباعًا للعلاقات الشخصية له مع أبو عمار وخليفته أبو مازن، الذي كان بدوره من القيادات الذين استضافتهم تونس زمن استضافة منظمة التحرير. في خضمّ هذا السياق، استثمرت آلة دعاية بن علي في إظهار دعم تونس الرسمية للقضية، بما عزّز تبعيًا في تعزيز الالتزام الجمعي للتونسيين تجاهها. 

5 ـ محمد الزواري: آخر عناوين الانخراط في القضية والمقاومة

حفّز، في الأثناء، اغتيال دولة الاحتلال للمهندس التونسي محمد الزواري أمام منزله بصفاقس يوم 15 ديسمبر/كانون الأول 2016 مشاعر العداوة تجاه دولة الكيان وفي تحفيز الالتزام نحو القضية وبالخصوص المقاومة المسلّحة.

حفّز اغتيال دولة الاحتلال للمهندس التونسي محمد الزواري أمام منزله بصفاقس يوم 15 ديسمبر 2016 مشاعر العداوة تجاه دولة الكيان وفي تحفيز الالتزام التونسي نحو القضية وبالخصوص المقاومة 

وقد اكتشف التونسيون أن الشخصية المغتالة هي قيادي في كتائب الشهيد عز الدين القسام الذي يقف خلف تطوير قدراتها في سلاح الجو وبالخصوص المسيّرات. ليمثّل بذلك عنوان اعتزاز وفخر للتونسيين. وقد ظلّت تتبيّن بطولات الشهيد بالتكريم المتتابع له من المقاومة وآخرها منح اسمه مرة أخرى لإصدار جديد من المسيّرات المستخدمة في معركة "طوفان الأقصى".