29-أكتوبر-2023
تونس فلسطين الأغنية القايدي

"كيف نُشفى من حب فلسطين الذي يجري فينا مجرى النفس.." (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

"كيف نُشفى من حب فلسطين الذي يجري فينا مجرى النفس.." هكذا نسمح لأنفسنا بأن نعارض -شعريًا- الشاعر الكبير محمود درويش في قصيده "كيف نشفى من حب تونس" لنتحدث عن شمس فلسطين، كل فلسطين تحت سماء تونس.

ولا أعتقد أننا استطعنا في تونس منذ وعد بلفور وإلى اليوم أن نشفى من حب فلسطين وأن نتركها وحدها في العراء تواجه كل ألوان القسوة والكراهية من قبل كيان خلق له وهمًا فوق أرض ليست أرضه وصدّقه وروّج له كحقيقة سيّجها باليقين والدبابات وأبواق الدعاية الصهيونية.

الأغنية التونسية صدحت حناجر مغنيها ومطربيها وملحنيها وشعرائها بفلسطين 

فلسطين بالنسبة لكل التونسيين لم تكن بالمرّة دلالة عجز بقدر ما تحولت قضيتها إلى طبيعة لغوية وثقافية وفنية راكزة تؤسس إلى فهم خاص مفتوح وبلا تخوم يقودنا إلى كناية قصوى ترتبط صعدًا نحو مفهوم "الحرية"، فأبناء تونس من مختلف الأجيال والطبقات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية والنقابية لا تستقبل مجساتهم العقلية والعاطفية مفهوم الحرية هذا وتفكر داخله وحوله، من دون حضور مقولة "تحرر الشعب الفلسطيني".

وعلى امتداد أكثر من نصف قرن من الزمن، شاركت النخب التونسية كل من موقعها في نصرة القضية الفلسطينية يقينًا منها بأن الفعل الثقافي والفني والفكري هو فعل مقدس، يخلق صفاء رائعًا وشفافًا يضيء عتمة القضية التي يعمقها في كل وقت وحين صنّاع الكيان والدولة المزعومة. فالنخب التونسية تعتقد جازمة بأن فعلها الإسنادي ينقّي أفنية المدن الفلسطينية من رائحة البارود ويجرف الضيق الروحي لأبناء الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج وينادي أحرار العالم للانتباه لفلسطين أم البدايات وأم النهايات.

شاركت النخب التونسية كل من موقعه على امتداد أكثر من نصف قرن، في نصرة القضية الفلسطينية يقينًا منها بأن الفعل الثقافي والفني والفكري هو فعل مقدس

سوف لن نتحدث هذه المرة عن الشعر والسينما والفنون التشكيلية والمسرح والرقص والرواية التي تحمل فلسطين في جنباتها منذ عقود، بل سنتحدث عن الأغنية التونسية التي صدحت حناجر مغنيها ومطربيها وملحنيها وشعرائها بفلسطين، لأن الغناء يظل "لغة العالم" والجمرة التي تتوهج بلا انطفاء في أعماق الإنسان، فالأغنية تخلق عالمًا آخر يساعد على الصمود وتستنهض الهمم وتنبني بيوتًا من الأمل للمشردين والمدحورين بجرافات العسكر الإسرائيلي. الأغنية هي وطن آخر للمتعبين ومساحة للريح تأخذ أطفال فلسطين إلى السماء فيلمسون النجوم في جدول المجرة حيث تسكن أمهاتهم.

ومن الأغاني الرائجة والخالدة والتي رفعت صوت فلسطين عاليا نجد:

  • ذكرى محمد

باقة متفردة من الأغاني الخاصة بالفنانة التونسية الراحلة "ذكرى محمد" التي غنت في تسعينات القرن الماضي عددًا من الأغاني السياسية الجرئية أشيع أن إحداها تسببت في وفاتها الغامضة بمصر.

الفنانة التونسية الراحلة ذكرى محمد خصّت فلسطين بباقة متفردة من الأغاني وهي التي عُرفت بالأغاني السياسية الجريئة والتي أشيع أن إحداها تسببت في وفاتها الغامضة بمصر

ومن هذه الباقة الفنية نذكر أغنية "مين يجرأ يقول" كتب كلماتها ولحّنها الشاعر والملحن الليبي علي الكيلاني ويقول مطلعها: "مين يجرأ يقول هذا موش معقول.. بكل عام بنقول مغزى غزوة حطين.. نلقى إللي يجي يذكرنا بسبعة وستين.. مين يقدر يقول واش إللي بينا وإللي ناصب بإيدينا.. برّدنا صبرا وشاتيلا بثلج النرويج.. نرجى في النصر اللي يجي عكسه.. ملينا من نكسة لنكسة.. ونجيب جهينة تقول الخبر اليقين..".

 

 

ومن أغانيها المخصصة لفلسطين نجد ضمن الباقة نفسها وللشاعر نفسه: "اختاروا أبدًا لن نركع.. غصن الزيتون أو المدفع.. فالعودة قدري وحياتي والأمر الواقع مأساتي.. وسلام لا يحمل العودة أوهام..".

أيضًا نجد للراحلة ذكرى محمد "الشهيد الفلسطيني يا ملهم نصري الأكيد" و"ما تحزني يا قدس" و"صبرًا فلسطين" التي غنتها صحبة الفنان المصري علي الحجار والتي كتب كلماتها الشاعر المصري عمر بطيشة وألحان أمير عبد المجيد.

  • لطفي بوشناق

المطرب التونسي لطفي بوشناق غنّى فلسطين كما لم يغنها مطرب تونسي أو عربي من قبل، وقد ذاع صيت أغانيه تلك في كل العالم على اعتبار أنها أغان ملتزمة بنصرة قضية عادلة وهي القضية الفلسطينية وأهمها:

"من تونس للقدس" والتي تقول كلماتها: "من تونس الخضراء للقدس رايحين.. للمسجد الأقصى شهداء بالملايين.. بالوحدة يا إخوان تتحرر فلسطين.. بنقول لكل البشر بالمفيد المختصر القدس اليوم في خطر وبدها نخوة يا أمم..".

أغنية أجراس العودة للطفي بوشناق تقول كلماتها: أجراس العودة إن قرعت أو لم تقرع فلم العجلة؟ لو جئنا نقرعها حالًا كانت دم تك كالطبلة.. فالعرب بأخطر مرحلة وجميع حروفهم علة

أما أغنيته الأشهر حول فلسطين فهي "أجراس العودة" التي لحنها بوشناق وكتب كلماتها الشاعر عماد الدين طه وتقول: "أجراس العودة إن قرعت أو لم تقرع فلم العجلة؟ لو جئنا نقرعها حالًا كانت دم تك كالطبلة.. فالعرب بأخطر مرحلة وجميع حروفهم علة.. أغرتهم كثرتهم لكن وبرغم جموعهم قلة.. وبوادي النمل إذا عبروا ستموت من الضحك النملة.. فسليمان العصر الحالي مشغول في ملء السلة.. وحديث عن حرب كبرى أو صفقة قرن مختلفة..".

 

 

وأيضًا أغنية "سهول فلسطين" وهي من كلمات الشاعر سمير سطوف وألحان نوبلي فاضل الجزائري وتوزيع الفنان محسن الماطري، ويصدح الصوت الطربي لبوشناق متجليًا: "قلي يا بلبل كيف حالها سهول فلسطين وتلالها.. شايف بعيونك سؤال خطفتو من كل جبالها.. لو ترجع سلم على الأهل، على الوادي وعلى أحلى سهل.. قلهم بعدن على بالي وعلى كروم بعدن بتلالي.. تبقى فلسطين على بالي أغلى من كل الأغاني.. الروح بترخص كرمالها وما بتنساها لا لا..".

  • صلاح مصباح

الفنان صلاح مصباح غنّى أيضًا فلسطين مخلدًا تلك الذكرى الأليمة لخروج الفلسطينيين من لبنان بعد حصار بيروت سنة 1982 وتقول كلمات هذه الأغنية "قالوا ارحل عن لبنان.. مستغرب قلتلهم وين؟ عرضوا علي ألف مكان طبعًا إلا فلسطين.. قالوا ارمي سلاحك وارحل ما يفيدكش أسلوب القوة.. نصحوني نهدا ونتمهل والقضية راح تتسوى بالتفاوض بالسلام..".

 

 

  • لطيفة العرفاوي

الفنانة التونسية لطيفة العرفاوي المقيمة في الشرق العربي منذ التسعينات لها في مدونتها الغنائية مجموعة من الأغاني تعلقت بفلسطين مثل: "لو قسّموا القدس اثنين" و"يا قدس يا حبيبتي" التي أنجزتها سنة 2012 والتي يقول مطلعها: "يا قدس يا مدينتي غدًا سيزهر الليمون وتطرح السنابل الخضراء والزيتون، وتضحك العيون.. ترجع الحمائم المهاجرة إلى السقوف الطاهرة.. ويرجع الأطفال يلعبون ويلتقي الآباء والبنون في بلد السلام والزيتون".

وللطيفة أيضًا "قصيدة القدس" التي غنتها سنة 1997 رفقة الفنان العراقي كاظم الساهر ومطلع هذه الأغنية هو: "بكيت حتى انتهت الدموع.. وصليت حتى ذابت الشموع.. وسألت عن محمد فيك وعن يسوع يا قدس يا مدينة الأحزان.. من ينقذ الإنسان؟ من يوقف العدوان؟ حزينة حجارة الشوارع.. حزينة مآذن الجوامع.. يا قدس".

 

 

  • صوفية صادق

صوفية صادق التي تعتبر من نجوم الأغنية التونسية نهاية التسعينات وبداية الألفية الجديدة غنت هي الأخرى لفلسطين ومن أشهر هذه الأغاني "القدس تصيح": "القدس تصيح والقول فصيح والقلب جريح.. فالقدس في مهب الريح أسمعتم القدس تصيح.. قد وطئوا الأقصى يا عرب وقد عاثوا فسادًا قد نهبوا.. وطن الإسراء مسلوب.. والأرض الأرض هي الغضب.. أو تنسى الأم رضيعتها أو ينسى محمد أقصاه والقدس تدوي صرختها والدمعة ثكلى يا عرب..".

 

 

  • ثريا الميلادي

الفنانة التونسية "ثريا الميلادي" وهي من جيل الثمانينات غنّت لفلسطين أغنية "القدس تنادي" التي كتب كلماتها جمال عبد الحميد ولحنها عبد اللطيف العايدي ويقول مطلعها: "يا سادة يا سادة وقعت القدس والشعب الهائم في الصحراء انتحر على شفاه آخر ابتسامة أمل.. يا سادة يا سادة.. اللوائح عطلت حركة الحقوق أمام ضمير الأمم المتحدة.. وتعطل الضمير العالمي.. تعطل يا سادة يا سادة ونحن مازلنا نقرر القرارات ونناقش القرارات..".

أجيال من المبدعين والملحنين والمطربين التونسيين غنوا لفلسطين، فضلًا عن فرق شهيرة اختصت فيما يعرف بالأغنية الملتزمة وكانت فلسطين بوصلتهم الأولى

ما قدمناه في أعلى هذه المقالة يبقى عيّنة صغيرة من أعمال موسيقية وغنائية تونسية لأجيال من المبدعين والملحنين والمطربين الذين غنوا فلسطين إلى جانب الفرق الشهيرة التي اختصت فيما نسميه بالأغنية الملتزمة وكانت فلسطين بوصلتهم الأولى في أغلب أعمالهم الفنية، وهنا نذكر فرق "البحث الموسيقى" و"الحمائم البيض" و"أجراس" و"أولاد المناجم" و"عيون الكلام".. وهذه الفرق الموسيقية التونسية لها قصص من النضالات من أجل إبداع فني هادف ومغاير ومتطرق لأمهات القضايا الإنسانية العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

إن الأغنية التونسية ساهمت إلى جانب السينما والشعر والرواية والرسم والمسرح، في دعم القضية الفلسطينية بنبل وصدق نابع من إرادة الشعب التونسية المؤمن بحق الشعب الفلسطيني كاملًا وعلى كامل أرضه بدون نقصان.

"كيف نشفى من حب فلسطين؟" إنها المعارضة الشعرية الراقية التي اصطفاها الشعب التونسي علانية لما قاله الشاعر محمود درويش ذات رحيل قاس، لكنه بدا ضروريًا في تلك اللحظة من أجل استحضار الحياة الأولى على أرض فلسطين. وقال مودعًا موصيًا: "كيف نشفى من حب تونس الذي يجري فينا مجرى النفس؟ سنلتقي غدًا على أرض أختك فلسطين.. هل نسينا شيئًا وراءنا؟ نعم، نسينا القلب، وتركنا فيك خير ما فينا.. تركنا فيك شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرًا".

في تونس، تحضر فلسطين حضورًا أيقونيًا ورمزيًا في أغلب الأنشطة الثقافية، وقد ساهمت الأغنية التونسية إلى جانب السينما والشعر والرواية والرسم والمسرح، في دعم القضية الفلسطينية

يبدو أنه لا شفاء لتونس من هذا الحب وهذا الارتباط الموغل في الوجدانية والتفاصيل التاريخية والسياسية، فالشعب التونسي حوّل فلسطين إلى غنائية مجيدة تضيء الحاضر والمستقبل وترددها الأجيال عبر الأزمان في كل الأحيان.

في تونس، تحضر فلسطين حضورًا أيقونيًا ورمزيًا في أغلب الأنشطة الثقافية والسياسية والحقوقية والنقابية والطلابية والجمعياتية.. إنها كناية قصوى من النخب التونسية لقيمة إنسانية أساسية وهي "الحريّة" يتوخاها الجميع هنا رغم تبايناتهم السياسية والإديولوجية.. فأيّ معنى للحرية وأيّ قيمة لها وفلسطين محتلّة وشعبها مسلوب الحقوق على مرأى من العالم؟ هكذا تفهم تونس عمق القضية الفلسطينية، حتى إن تجريم التطبيع بجميع أشكاله تحول إلى نقاش شعبي وطالب التونسيون طيلة العشرية الأخيرة بدسترة تجريم التطبيع وذلك ضمن فهم راق لما يحدث في العالم بخصوص فلسطين وحقوقها المشروعة.