"لم أعد قادرة على تحمل المزيد من مشاهد الجثث والأشلاء المتناثرة في كل مكان.. صور الموت والدمار والخراب لم تعد تفارقني لا في يقظتي ولا في منامي حتى أنها أصبحت بمثابة شريط يتكرر أمام ناظري في كل حين ولحظة فأسرح معه بخيالي لينتشلني من مكاني الآمن المتواجدة فيه سواء في بيتي أو في مقر عملي إلى ساحة الحرب فاشعر بخوف وفزع ووهن أنهكوني.. منذ بدء العدوان الغاشم للكيان الصهيوني على غزة بدأت تظهر لدي أعراض اضطراب نفسي وعلى الأغلب هي حالة يشترك فيها كل التونسيين فالجميع يتحدث عن مشاعر ضغط نفسي وكآبة وحزن تحول دون استمرار الحياة بصفة طبيعية وكيف ذلك والحال أن إخواننا في فلسطين يتعرضون لأبشع الجرائم وشبح الموت يترصد بهم في كل لحظة لا يستثني كبيرًا ولا صغيرًا ولا رضيعًا".
هكذا حدثتنا ليلى، وهي موظفة أربعينية، أن تعاطفها وحزنها لأجل أبناء غزة أثرا فيها أيما تأثير فأصبح إحساس الخجل من كل لحظة فرح تعيشها يلازمها فتختنق في مقلتيها العبرات بعدها وتقول "أ وليس ضحكي خيانة وشعب فلسطين يقصف بصواريخ لا تبقي ولا تذر.. وهل يحلو لي المأكل والشراب و(يوسف الأبيضاني الحلو الي شعرو كورلي) مات جوعان" كل هذه الخواطر والهواجس زادت في تعقيد الوضع النفسي لليلى التي لخصت الحالة التي تعيشها بقولها "جسدي هنا لكن كلي في غزة".
ليلى، موظفة أربعينية لـ"الترا تونس": أ وليس ضحكي خيانة وشعب فلسطين يقصف بصواريخ لا تبقي ولا تذر.. وهل يحلو لي المأكل والشراب و(يوسف الأبيضاني الحلو الي شعرو كورلي) مات جوعان".. جسدي هنا لكن كلي في غزة"
ليلى هي واحدة من آلاف التونسيين الذين تأثروا نفسيا حد الضرر جراء أخبار الحرب على غزة والصور والفيديوهات التي يتم تداولها في الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي والتي توثق الجرائم البشعة التي يرتكبها العدو الصهيوني ضد المدنيين فأصبحت استمرارية العيش بنفس النسق ونفس النفس شبه مستحيلة لدى اغلب التونسيين. وقد لئن تؤثر مشاهد المجازر على ما تبقى من أمل وتفاؤل لدى التونسي الذي بطبعه يعاني من نسب تشاؤم مرتفعة جراء الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الصعب في البلاد فان الشريحة الأكثر تضررا على الصعيد النفسي من مشاهد الحرب هم الأطفال.
- العدوان على غزة.. "الشعور بالعجز والقهر صنع حالة الثقل التي يعيشها التونسي"
يرى المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه أن أخبار الموت بصفة عامة والحروب بصفة خاصة هي أخبار ثقيلة على النفس لاسيما عند وجود قرابة بين الإنسان والشخص الميت أو المهدد بالموت والحال أن الفلسطينيين هم جزء من أهلنا والمتفرج سيتقمص شخصية الضحية عكس المشاهد الإسرائيلي الذي يتقمص شخصية المحارب فيكون الوطء عليه أخف بكثير من وضع العرب، وفق توصيفه.
المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": التونسي أصبح منذ اندلاع العدوان على غزة تحت ضغط الصورة والضحية التي ليس لها حول ولا قوة ولا يمكنها الخلاص ولا النجاة ولا الدفاع عن نفسها تحت وابل من الصواريخ
ويضيف محدث "ألترا صوت تونس" أن التونسي أصبح منذ اندلاع الأحداث في غزة تحت ضغط الصورة وضغط الضحية التي ليس لها حول ولا قوة ولا يمكنها الخلاص ولا النجاة ولا الدفاع عن نفسها تحت وابل من الصواريخ بالإضافة إلى أن ما يشاهده في شاشات التلفاز ليس بفيلم بل هي مأساة حقيقية لعائلات وأطفال ومدنيين غير حاملين لسلاح مثلهم مثل المتفرج فيستبطن بذلك المواطن التونسي المظلمة التي شهدتها فلسطين منذ 1948 ومن الطبيعي أن لا يرى الصور بعين محايدة بل سيستشعر أوجاع أهل غزة لأن هويته مرتبطة تمامًا بالبعد العربي الإسلامي الفلسطيني.
كما أشار الفقيه إلى أن المواطن التونسي يعيش اللحظة مع الشعب الفلسطيني عبر ما تبثه جميع القنوات التلفزية من صور للدمار والضحايا والأشلاء كما أن تواتر نشرات الأخبار المتعاقبة والإرساليات والتطبيقات الاجتماعية التي تؤمن البث المباشر حولت النبض اليومي للتونسي إلى نبض على أوجاع الناس وبالتالي مأساة أهالي غزة انتقلت لجميع المشاهدين والتونسي من جملة الجمهور الذي يشاهد هذه الجرائم ويستبطن الكثير من العجز وعدم القدرة على إنقاذ الفلسطينيين، وتابع "القانون الفرنسي يجرم عدم إسعاف شخص في وضع الموت.. تخيل أننا جميعنا مرتكبون لهذه الجريمة.. هذا القانون يطالب بإسعاف فرد لكنه في نفس الوقت يشرع للسكوت على شعب بأكمله.. هذا الإحساس بالعجز والقهر صنع حالة الثقل التي يعيشها التونسي".
المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": مأساة أهالي غزة انتقلت لجميع المشاهدين والتونسي من جملة الجمهور الذي يشاهد هذه الجرائم ويستبطن الكثير من العجز وعدم القدرة على إنقاذ الفلسطينيين.. هذا الإحساس صنع حالة الثقل التي يعيشها التونسي
وجزم المختص في علم النفس بأن التونسي لا يستطيع أن يحتفل في منزله وحتى إن اصطنع الفرحة فستكون منقوصة وتعرضه للوم من قبل من حوله بسبب احتفائه في هذه الأوضاع مبينًا أن هذه الحالة الثقيلة التي أصابت المجتمع التونسي والعرب جميعًا مقصودة من العدو الذي يريد أن يبرز للعرب أن هذه القوة لا تغلب ومصيرنا الوحيد الموت قطعًا أو قهرًا كما بين أن من يسمح للكاميرا بتوثيق جرائمه فهو يريد إبلاغ رسالة للمشاهد بأنه لا يهزم.
ودعا عبد الباسط الفقيه الأولياء لتحويل هذا الوضع البائس إلى لحظة فهم وتعبئة ذهنية لأطفالهم ليتمكنوا من فهم القضية الفلسطينية ويبينوا لهم أن العدو يجيد لعبة الإعلام وله معدات وأسلحة كثيرة واستعد لمثل هذه الأيام وبالتالي يشحن الطفل بالرغبة في الانتصار ولا يقتصر فقط على مشاهدة الصور في استسلام مشيراً إلى أن الخروج من هذه الأزمة بيأس يسهل على الفئات الهشة الدخول في متاهات أخرى كالاكتئاب والمخدرات والسجائر لبعض الفئات.
المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": أدعو لتحويل هذا الوضع البائس إلى لحظة فهم وتعبئة ذهنية للأطفال ليتمكنوا من فهم القضية الفلسطينية
كما ختم بالتأكيد على ضرورة تحويل هذا الوضع للحظة استجماع قوة لكي لا ينهار الإنسان مشيدًا بالخطوة الايجابية التي يقوم بها بعض التونسيين والمتمثلة في جمع الإعانات والتبرعات لفائدة الشعب الفلسطيني الأبي.
- غزة.. مشاعر متذبذبة بين العجز والفخر
الحديث مع عينة من التونسيين حول كيفية تعاملهم مع مشاهد الدمار والجرائم التي ترتكب في غزة كل يوم، يبيّن أن عددًا كبيرًا من التونسيين خيروا التظاهر في الشوارع وأمام السفارات عوض الجلوس أمام شاشات التلفاز دون تحريك ساكن والقلب ينزف دمًا، مع ذلك فإن فئة أخرى من التونسيين لا يسعها إلا أن تتابع بتأمل ما يحدث من مجازر وإبادة لحظة بلحظة رغم بشاعة المشاهد ومنهم الصحفيين. ويعتبر الصحفيون من أكثر الناس تضررًا من أخبار الحروب حول العالم وخاصة العدوان على فلسطين على اعتبارها تمس كل التونسيين.
صحفية تونسية: الفلسطينيون مضطهدون في غزة ونحن مقهورون هنا وعاجزون حتى عن إيصال المساعدات لهم كما ينبغي .. مشاعرنا حالياً متذبذبة بين العجز والفخر. الغزاوية لقنوا العالم درسًا في الصمود والمقاومة والانتماء
في هذا السياق، تقول الصحافية حليمة السوسي إن الأخبار وصور الفيديوهات التي ترد من قطاع غزة تخلف أثرًا كبيرًا على نفسية الصحفي الذي يغطيها بشكل حيني ومستمر وتبعث فيه كما جميع التونسيين شعورًا بالظلم والغضب والقهر، مبينة أن المواطن العادي بإمكانه التفاعل مع أخبار غزة لكن بإمكانه العزوف عن متابعتها أحيانًا لبشاعة ومرارة الصور الواردة من القطاع لكن الصحفي يواكب الأحداث بشكل مستمر وأول ما يستهل به يومه هو البحث عن المستجدات لدى الصحفيين المراسلين من غزة وفي القنوات الفلسطينية وتلقي مثل هذه الأخبار عن إخواننا في غزة يولد إحساسًا بالعجز والقهر لا يوصف، وفق تعبيرها.
ولفتت الصحفية التونسية في حديثها لـ"الترا تونس" إلى أن الفلسطينيين يموتون وسط انتهاك صارخ لكل حقوق الإنسان وأن الحرب فيها أخلاقيات ويفترض أن لا يتم استهداف المستشفيات لكن الكيان الصهيوني الغاصب أقدم على ذلك فهب التونسيون بصفة عفوية لمساندة الفلسطينيين عبر تنظيم مظاهرات مساندة لم تنقطع منذ بدئ العدوان على غزة كما بينت أن مواقع التواصل بصدد التضييق على أي منشور أو فيديو يتعلق بالجرائم التي ترتكب في غزة، قائلة " الفلسطينيون مضطهدون في غزة ونحن مقهورون هنا وعاجزون حتى عن إيصال المساعدات لهم كما ينبغي .. كل إنسان يتأثر بالمشاهد الدامية للأطفال وبمرارة الأولياء الذين فدوا فلسطين بفلذات أكبادهم.. مشاعرنا حالياً متذبذبة بين العجز والفخر بإنجاز الفلسطينيين.. الغزاوية لقنوا العالم درسًا في الصمود والمقاومة والانتماء..".
جدير بالذكر أن عدد الشهداء في قطاع غزة تجاوز 5 آلاف شهيد وعدد الجرحى يناهز 20 ألفًا منذ انطلاق العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة.