18-سبتمبر-2021

صورة أرشيفية تعود لفترة رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد عندما أعلن حملة على الفساد تُبرز متظاهرين مساندين لحملته بالقصبة في ماي 2017 (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

مقال رأي

 

في نص "ضحك الحوت (2000)"، كتب توفيق بن بريك: "منذ 13 سنة، كتبت عن كل شيء، باستثناء الفساد. تجاهلته لأنّه بكل بساطة في كل مكان". تناول بن بريك في كتابه فترة مهمة من تاريخ تونس المعاصر، فترة الثمانينات والتسعينات، والتي كانت فترة محددة لما نعيشه اليوم. حول نفس الفترة، كتب علي مصباح روايته "حارة السفهاء (2013)"، وحسين الواد في رواية "سعادته... السيد الوزير". تقاطعت هذه النصوص عند عدة محاور كونها تشاركت نفس المسرح، وكان الفساد المشترك بينها. 


تعتمد الأطياف السياسية عادة على برامج دعائية/ترويجية وفق ألوانها الإيديولوجية وتوجهاتها السياسية، لحشد مناصرين يلتفون حول أطروحاتها السياسية، أو ما يصطلح على تسميته بـ"السردية السياسية": الرواية التي يرويها السياسيون للأفراد، قصد استمالة أهوائهم والتجميع حول "الحقيقة" التي يسوقونها.

أيام الانتخابات، في الأنظمة الديمقراطية، تتنافس الأحزاب/الحركات/الائتلافات لتطويع نظرية "متوسط الناخب l’électeur médian"، والتي تقوم اختزالًا على تقديم وعود انتخابية تستميل أكبر عدد ممكن من الناخبين. منذ انتخابات 2011، ونظرًا للنهم السياسي الذي عقب مرحلة التصحر البنفسجي، سارعت الأحزاب السياسية في تونس، في المحطات الانتخابية، لتقديم وعود قصوى للناخبين، عملًا بقاعدة الانتخابات للنثر... ثم يليها السرد. واختصر السرد في اختلاق الأعذار: كالتركة الثقيلة، المؤامرات، الدولة العميقة، الديون... إلى أن جمعت كلها تحت مظلّة الفساد. 

  • مكافحة الفساد "وداوني بالتي كانت هي الدّاء":

سنة 2015، أعلنت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، تحت إشراف الأمين العام السابق بان كي مون، عن برنامج أهداف التنمية المستدامة (ٍSDG)، وهي مجموعة من الأهداف التي تقع ضمن مخططات عشرية تطلقها الأمم المتحدة كل 10-20 سنة، على غرار أهداف التنمية الألفية (MDG) الذي كان برنامج 2000-2012. وعلى ضوء هذه الأهداف، تحدد المؤسسات الدولية مهامها وسياساتها، وكذلك الدول، خاصة التي تعتمد في موازناتها المالية والاقتصادية على هذه المؤسسات، مثل حال تونس. 

تعتمد الأطياف السياسية عادة على برامج دعائية/ترويجية وفق ألوانها الإيديولوجية وتوجهاتها السياسية، لحشد مناصرين يلتفون حول أطروحاتها السياسية، أو ما يصطلح على تسميته بـ"السردية السياسية"

من بين الأهداف الـ 17 لبرنامج الـ (SDG)، نجد الهدف 16 بعنوان: سلم، عدالة ومؤسسات قوية. وتمثّل "مكافحة الفساد" إحدى هذه أدوات تحقيق هذا الهدف. تماهيًا مع توجهات وتوصيات الأمم المتحدة، تبنّت المؤسسات المالية الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، هذه الأهداف ضمن أجندتها، وصاغتها بين توصياتها، وشروطها، التي تسند على أساسها القروض والمساعدات. 

في الحالة التونسية، وعملًا بتوصيات اتفاق 2016 مع صندوق النقد الدولي، تم سن قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (2015)، قانون مكافحة الإثراء غير المشروع (2017)، كما تم إحداث مؤسسات لمكافحة الفساد كالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وتبنّي كذلك سياسة الحوكمة الرشيدة، التي تم إحداث ماجستير خاص بها تحت عنوان "الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد"، بالإضافة إلى الدورات التكوينية للعديد من موظفي الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: "تصفية الأجسام الوسيطة".. عنوان المرحلة القادمة في تونس

أيضًا، تظهر هذه السياسات ضمن برامج جمعيات المجتمع المدني التي لها أنشطة ذات صلة، وصولًا إلى ظهور هذه البرامج في الخطاب السياسي منذ بداية الدورة النيابية 2014-2019، ثم تحوّلت تدريجيًا إلى ما يشبه السردية السياسية، وضربًا من الدغمائية، عززتها السوشيال ميديا والمنابر الإعلامية، وتبنتها عدة أحزاب سياسية ومرشحين رئاسيين في انتخابات 2019.

يقول جاك غيليناس في كتاب "المعجم النقدي العولمة: كلمات السلطة وسلطة الكلمات (2008)": سرب التكنوقراط سياسة التصرف النيوليبرالي في الدولة تحت غطاء الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، والتي تهدف إلى تحرير وخوصصة الخدمات العمومية". كنّا قد أشرنا في مقال بعنوان: " الأطر الفكرية لمشروع قيس سعيّد السياسي... الديمقراطية المباشرة والبناء القاعدي"، إلى الخلفية الفكرية للرئيس قيس سعيّد، وحاضنته الشعبية، القائمة على أساس أناركية ليبرتارية، أو اشتراكية حرة، وتعتبر العولمة والسياسات النيوليبرالية سببًا مباشرًا في ارتفاع مؤشرات اللامساواة والفقر والتهميش.

أصبحت برامج مكافحة الفساد تظهر في الخطاب السياسي منذ بداية الدورة النيابية 2014-2019، ثم تحوّلت تدريجيًا إلى ما يشبه السردية السياسية، عززتها المنابر الإعلامية، وتبنتها عدة أحزاب ومرشحين رئاسيين في انتخابات 2019

فهل يتوقع أن تولد سياسة للمهمشين من رحم دفاتر المؤسسات النيوليبرالية؟ في قطاع صناعة الأدوية، تستخرج العديد من الأدوية والأمصال من سموم الأفاعي، كما تطوّر لقاحات ضد الفيروسات عبر معالجة الفيروسات وملاءمة الفيروسات نفسها وحقنها الأجسام قصد إكساب المناعة. 

في حوار له مع "الترا تونس"، يقول الباحث في الشؤون السياسية وتاريخ الاقتصاد أيمن بوغانمي: "فكرة مكافحة الفساد تقوم على مغالطة كبرى. وهي الجمع بين مكافحة الفساد ومكافحة الفاسدين. مكافحة الفساد شيء، ومكافحة الفاسدين شيء آخر. مكافحة الفاسدين هي دور القضاء وحده". إن رفع سياسي شعار محاربة الفساد، يفترض ربّما أن هناك سياسيًا آخر قد يناقضه وينافسه ويرفع شعار "دعم الفساد"، وهو ما لم يمكن أن يكون.

اقرأ/ي أيضًا: عن طوفان الشعبوية في تونس..

مفارقة تصنيفية ينتفي فيه الأصل بانتفاء النقيض، كما نظر رضا شهاب المكي لانتفاء صفة الدولة المدنية بانتفاء صفة الدولة الدينية في أحد نصوصه بموقع الحوار المتمدّن، وتبنّى الرئيس قيس سعيّد هذا الطرح في حوار له مع إذاعة "شمس أف أم". 

  • مكافحة الفساد وقميص عثمان: حق أريد به باطل

سنة 2018، مدّد البرلمان الصيني، عبر تصويت سري، في عدد الدورات الرئاسية المسموح بها للإمبراطور الصيني الجديد "شي جينغ بينغ"، والذي كان قد وضع استراتيجية حملة لمكافحة الفساد، تستهدف 1.2 مليون عضو وإطار في الحزب الشيوعي الصيني، وكانت نتيجتها عملية تطهيرية للحزب والدولة، استهدفت معارضين من داخل الحزب وخارجه، وفق ما يتم تداوله في تقارير مختلفة للغارديان، البي بي سي والواشنطن بوست.

جنوب الصين، يشن شعبوي الهند ناريندا مودي، حربًا مماثلة، بنتائج مشابهة.  من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يوم 7 فيفري/شباط 2021، أعلن الرئيس البرازيلي بوليسونارو، عسكري سابق، من خارج الحياة السياسية ويميني محافظ، نهاية حربه على الفساد "Lava Jato"، والتي كانت شعار حملته الانتخابية التي دعمه فيها الجيش البرازيلي سنة 2019.

أيمن بوغانمي (باحث في الشؤون السياسية): فكرة مكافحة الفساد تقوم على مغالطة كبرى. وهي الجمع بين مكافحة الفساد ومكافحة الفاسدين. مكافحة الفساد شيء، ومكافحة الفاسدين شيء آخر. مكافحة الفاسدين هي دور القضاء وحده

رغم تحقيقها "نجاحات مادية"، عناوينها الكبرى حجز أطنان من الكوكايين ومواصلة عملية "غسيل السيارات" التي انطلقت منذ سبع سنوات، يعرض تقرير ترجمته الكوريي أنترناسيونال تدهور شعبية بوليسانارو، بعد أن كانت عند أقصاها ساعة انتخابه، ويرجّح مضيه في انقلاب، خاصة مع رواج خطاب الدكتاتورية وتعبير بوليسانارو نفسه عن حنينه لفترة الاستبداد في البرازيل (1964-1985). 

صيف 2017، أعلن رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد حربًا على الفساد. ثم ورث حزب التيار الديموقراطي، الذي كان له النصيب المؤثر في حكومة إلياس الفخفاخ، هذه الحرب. ثم تبنّاه أيضًا رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي، إلى أن انتهت بيد الرئيس قيس سعيّد. النتيجة: لا شيء يذكر.

إن تبنّي السلطة التنفيذية حملة يفترض أنها من صلب مهامها، يدفع إلى الاستغراب عن مدى جدية السلطة. يرى فوكوياما في كتابه أصول النظام السياسي أن حماية الضعفاء من الأقوياء هي أولى مهام الدولة منذ انبثاقها، في كل نسخها. من وجهة نظر هوبز على الأقل الذي يرى أن الإنسان شرير بطبعه (Nasty & Brutish)، ويجب على الدولة كبح هذا الشر.

من بين أوجه الفساد هو اعتداء الأقوياء، من لهم رأسمال رمزي مرتفع، على الضعفاء، كالاستحواذ على غير وجه حق لغاية تحقيق فائدة مادية. فإن لم تقم الدولة عبر أجهزتها بالحيلولة دون هذا، فماهي مهمتها ولماذا سيلتزم المواطنون بالعقد الاجتماعي الذي يربطهم بها؟ 

تبنّي السلطة التنفيذية حملة يفترض أنها من صلب مهامها، يدفع إلى الاستغراب عن مدى جدية السلطة

قبل الختام، يجب الإشارة إلى الفجوة بين التنظير والواقع، وأن واجب السياسي، وخاصة التنفيذي، محاولة رتقها في حدود الممكن. إبّان ثورة 14-17، أقيمت عدة ورشات وحررت العديد من التقارير حول الإخلالات والإشكالات التي يمكن أن يتسرب عبرها الفساد، أو ان تدفع نحو أحد تمظهراته: الكبير والصغير، كالعراقيل الإدارية، التضخم التشريعي، الترهّل القانوني، ضعف أجهزة الرقابة أو تكلّسها...

طبعًا بقيت هذه التقارير في الرفوف نتيجة غياب الإرادة السياسية للإصلاح طيلة السنوات الماضية. أما وقد اجتمعت كل السلط بيد من يتلحف براية مكافحة الفساد، بينما تتلخص كل خطواته حتى الآن في تعبيد الطريق لمشروع التأسيس الجديد، ما قد يعني القبول بالمنظومة واختصار الإصلاح في تغيير النظام السياسي، فهذا يحيلنا إلى كلمات الأغنية الخالدة لمايكل جاكسون: "إنهم لا يهتمّون حقًا بنا They don’t really care about us". 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس من الخطر الداهم إلى الخطر الجاثم..

المحاسبة كلمة العبور لـ"تونس الجديدة"