22-مايو-2021

أيمن البوغانمي باحث في الشؤون السياسية وتاريخ الاقتصاد

 

لا يكاد يمر يوم دون حدث سياسي وما يصاحبه من زخم إعلامي يثير الجماهير السّياسية "الفيراجات". في مثل هذه الأجواء تجود قرائح السياسيين بالخطابات وتتكثّف تصريحاتهم حتى تغشى الأبصار وتتيه الأفئدة في ضباب الاستقطاب.

لتبديد هذا الضّباب وفي محاولة لتفكيك أسباب الأزمة السياسية الحالية، نحاور فيما يلي الدكتور أيمن البوغانمي، وهو باحث في الشّؤون السّياسيّة وتاريخ الاقتصاد، ومتحصل على شهادة الدكتوراه في شؤون البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية. يدرّس بكلية القيروان، قسم الإنجليزية. من أبرز كتبه: دولة ما بعد الثورة (2012)، الخريف العربي: في التناقض بين الثورة والديمقراطية (2015). وسيصدر له قريبًا كتاب بعنوان "التدمير الخلاق: أبطال موجة الذكاء الاصطناعي وضحاياها". 

  • في ظلّ حرب الخنادق أو حالة الصراع للصراع التي نعيش، يسود جوّ عام من التشاؤم والضجر يحيلنا إلى ما يشبه الكساد والجمود. كنتم قد أشرتم في كتابكم "الخريف العربي" إلى أن الديمقراطية يصاحبها الضجر. فهل هذا هو الضجر/التّشاؤم الذي تحدّثتم عنه؟ 

أولًا، الواضح أنّ التّشاؤم هو قرين بالدّيمقراطيّة. من أسباب التّشاؤم هو التّعبير عنه. يعني بقدر ما يعبّر الفرد/المجموعة عن التّشاؤم، ينتشر هذا التشاؤم بفعل العدوى. تمامًا مثل كورونا. في الأنظمة الدكتاتورية، الحواجز الّتي تفرضها هذه الأنظمة على حرّية التعبير، وهي مثل الكمّامات الّتي نرتدي هذه الأيّام، تمنع من التّعبير عن التّشاؤم/الضّجر. أي أنّنا نتحدّث عن كمّامات دكتاتوريّة.

والتّشاؤم في هذه الحالة يكون شخصيًا وداخليًا، يعيشه الفرد في محيطه الضّيق والخاص، ويحتويه كمشكلة فرديّة. وذلك جوهر الدكتاتوريّة، حيث تحرص على أن يسود الفرح والابتهاج في الفضاء العام: "بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان". الديمقراطيّة تنزع هذه الكمّامات وتطلق العنان لحريّة التعبير بصفة عامّة، وحريّة التعبير عن الضّجر والتشاؤم والقلق بصفة خاصة. 

أيمن البوغانمي: جوهر الدكتاتورية حرصها أن يسود الفرح والابتهاج في الفضاء العام لكن الديمقراطية تطلق العنان لحريّة التعبير بصفة عامة، وحريّة التعبير عن الضّجر والتشاؤم والقلق بصفة خاصة

ثانيًا، وفي الحالة التّونسيّة، فهناك أسباب عديدة لهذا التّشاؤم، من بينها السّياسي. فانتخابات 2019 أدّت فعلًا إلى حالة ركود/جمود سياسي. حيث يبدو أنّ التّونسيين لم يكونوا راضين ومطمئنّين لنتيجة ما سمّي بـ "التّوافق" في فترة 2014-2019. فالتّصويت الأخير كان ضد تلك المعادلة ولصالح قوى سياسيّة جديدة كان من المفروض أنّ تحيي العمليّة السّياسيّة عبر فرض أجندات إصلاحيّة ثوريّة أو شبه ثوريّة. الواضح حتّى الآن أنّ هذا الخيار لم يوفّق إذ تضاعف الرّكود السّياسي مقارنة مع الفترة الماضية التّي كان عنوانها التّوافق. 

  • كما قلتم، عدّة أطراف في الساحة السياسية موجودة الآن نتيجة لرفض جزء من التونسيين لسياسة التوافق أو المحاصصة. لكن النظام الانتخابي الحالي لم يمكّن من إفراز أغلبيّة حزبيّة، وهذا هو جوهره في الحقيقة ومن أجل هذا تمّت صياغته في صيف 2011، ألّا يحكم أي طرف بمفرده. وبالتّالي ألا حل لهذا الركود، والأزمة السياسية الّي نعيش، غير التوافق؟ 

التوافق هو الجسر أو أحد دعائم جسر الانتقال الدّيمقراطي. كلّ انهيار للنّظام، وقع تسميته ثورة، يفضي إلى مناخ ثوري محفوف بمخاطر كثيرة. وهذا ليس استثناءً تونسيًا، وهناك تجارب كثيرة مشابهة في: أوروبا الشّرقيّة وغيرها من الحالات. تتمثّل هذه المخاطر في الانزلاق نحو الاحتراب كما حدث في ليبيا، أو النّكوص نحو الدكتاتوريّة باسم الثّورة كالمثال المصري. ولتجنّب هذه الاحتمالات، يقع اللّجوء إلى تحالف بين الأطراف المعتدلة في المنظومة القديمة، والأطراف المعتدلة في المنظومة الجديدة على أساس الاعتدال، وليس على أساس المبادئ. بمعنى الحفاظ على السقف الوطني، السّعي إلى إيجاد قواعد منافسة ديمقراطيّة سليمة.

الإشكال في تونس، ومع الأسف الشّديد، يكمن حسب ما يقال في أنّ توافق 2014-2019 كان توافقًا مغشوشًا. لكن ما نعيشه اليوم يثبت أنّه لم يكن مغشوشًا. كان إكراهًا لا بدّ منه. لكنّه توافق منقوص لأنّه قام على الحكم، ولم يقم على الإصلاح. هناك من يستهين طبعًا بالتّوافق القائم على الحكم. وهو أمر ليس بالبسيط. فبلا توافق على الحكم لا يمكن تجنّب المخاطر الّتي ذكرنا. لكن رغم ذلك يبقى منقوصًا لأنّه لم يتضمّن عناصر إصلاح. 

  • بالحديث عن الإصلاح. حوّلت النخب السياسية، منذ الاستقلال، الإصلاح إلى ما يشبه الإيديولوجيا أو السردية السياسية الّتي وصفتها بياتريس هيبو بالـ"الوهم". كذلك، يفسّر أستاذ القانون بجامعة هارفرد، نوح فيلدمان، أسباب تأخّر الإصلاح في تونس الديمقراطيّة، إلى فشل التّوافق السّابق، واستغلال المنظّمات الاجتماعيّة للفرصة للمحافظة على امتيازاتها أو مكتسباتها الّتي تتعارض وشروط الإصلاح. في عشيّة الإصلاح الّذي تعد به الحكومة، هل تعتقدون أنّ هذا الإصلاح سينجح أم أنّها مجرّد مناورة سياسيّة كما دأبت السّلطة منذ عقود؟ 

الإصلاح كسرديّة هي من قرائن الدّيمقراطيّة. لأنّ السّلطة في الدّيمقراطيّة دائما ما تدّعي أنّها مفيدة. والسلطة المفيدة هي الّتي تصلح. فهي أداة للإصلاح. وبالتّالي لا يمكن لأيّ سياسي في نظام ديموقراطي أن يقول إنّه ليس حاملًا لمشروع إصلاح. 

بالنسبة لتغوّل المنظّمات الاجتماعيّة، فإنّ ذلك من نقائص التّوافق السّابق. إذ أنه ضمّ عائلتين سياسيتين فقط وغابت عنه الثّالثة الّتي كان يمكن أن يمثّلها الاتحاد العام التونسي للشغل كأحسن تمثيل. عدم انخراط هذا المكوّن بوزنه السّياسي والاجتماعي، وتفضيله استعمال وسائل ضدّية السلطة، جعل التّوافق يقتصر على ممارسة الحكم دون المضي في الإصلاح. وهذا أفضى إلى ما عشناه في تلك الفترة من منافسة سياسيّة سلبيّة.

أيمن البوغانمي: انتخابات 2019 أدت فعلًا إلى حالة ركود/جمود سياسي

بالنسبة للإصلاح الّذي تعتزم الحكومة تقديمه. من المؤكّد أن بعد المناورة موجود ولا نقاش فيه. لكن المناورة ممارسة سياسيّة عاديّة. أعتقد، وهذا رأيي الخاص، أنّ هذه الإصلاحات تتجه نحو الاتجاه الصّحيح. لأنّنا في تونس نحتاج أن نكون واقعيين. ويبدو أنّ هناك وعيًا تدريجيًا بأنّه لا يمكن أن نستمر بهذا الشّكل الحالي من الرّكود الاقتصادي والاجتماعي، والمستمر من 2011 وحتّى قبل هذا التّاريخ. وقد تنجح هذه الإصلاحات لأنّها ضرورة داخليّة ومفروضة خارجيًا. إذ أنّ الفكر السّياسي التّونسي شديد المحافظة ولا يمكن أن يتخلّى عما يسمّى بالمكتسبات الّتي تحوّلت إلى امتيازات، وتقدّم كأنّها حقوق. 

  • في كتابكم الأوّل "دولة ما بعد الثورة"، فصّلتم المسار الثّوري إلى ثلاثة نماذج، والّتي من بينها نموذج تحلّل الدّولة وتفكّكها. ونحن نعيش هذا الخلاف بين رأسي السّلطة التنفيذيّة، رئيس الدولة ورئيس الحكومة، هل من الممكن القول إنّنا نعيش هذا النّموذج: نموذج التفكّك؟ 

النّماذج الثّلاثة الّتي تناولتها في الكتاب هي: 

  1. النّموذج الهيمني وهو النموذج الّذي يفرض فيه أحد الأطراف إرادته على الجميع واعتماد نظام ثوري، أو يتبنّى خطاب الثورة على الأقل. والنّموذج المصري أقرب إلى هذا، طبعًا بعيدًا عن المعنى القيمي لكلمة ثورة. 
  2. النموذج الثّاني وهو الاحتراب أو التفكّك التدريجي والتوجّه نحو الحرب الأهليّة كما حدث في ليبيا
  3. الحالة الثّالثة وهي الحالة التّونسيّة هي التّي أسميها بالحالة الرّخوة. أي نوع من الاحتراب، لكن يبقى في شكل حرب باردة، يعني دون الانزلاق نحو العنف المفتوح في المجتمع ودون الانقسام في مؤسّسات الدّولة. وتونس تعيش هذه الحالة منذ 2011. 

أيمن البوغانمي: هناك رغبة في الخروج من حالة الاعتدال الّتي عقبت الثّورة.. طبعًا الاعتدال ليس جذّابًا

هذا النّموذج هو نموذج سلمي لكنّه يبقى مهدّدًا عن يمينه بالدكتاتوريّة وعن يساره بخطر الاحتراب. أي حالة من التّوازن لكن هشّة. هنا تتجلّى قيمة التّوافق بين المعتدلين للمرور نحو ديمقراطيّة مستقرّة وناجعة. هذا يبقى رهين الحظ مع الأسف. وحظ الديمقراطيّة التّونسيّة لم يكن جيّدًا بالنّظر للظّروف الإقليميّة المحيطة الّتي كانت سيئة جدًا كالحال في ليبيا والقطاع السّياحي الّذي عمّقت الأزمة الصّحيّة أزمته. هل ستنجح الديمقراطيّة التّونسيّة؟ يبقى ذلك في حكم الغيب مع أنّني لست متفائلًا باعتبار الإشارات الّتي توحي بأنّ المجتمع التّونسي يرغب في التطرّف: إمّا على أساس ثوري، أو على أساس محاربة الفساد، أو على أساس الحنين إلى الماضي. 

هناك رغبة في الخروج من حالة الاعتدال الّتي عقبت الثّورة. طبعًا الاعتدال ليس جذّابًا. حين يأتيك رئيس يقول إنّه سيقاوم الفساد جملة وتفصيلًا وسيرسي جنّة على وجه الأرض، وطرف آخر يطالب بالعودة إلى منظومة ما قبل 2011، ثمّ طرف ثالث يرغب بفرض النّقاوة الدّينيّة المطلقة... كلّ هذا مثير للشهوات ومغر سياسيًا في مجتمع يعاني من مصاعب متعدّدة الأبعاد. 

  • هل يمكن اعتبار هذه الرؤى السياسية التي سمّيتها ضربًا من ضروب الشعبوية؟ 

الشعبويّة موجودة دائمًا في السّياقات الدّيمقراطيّة. وكما يقال إنّ أوّل سبب للطّلاق هو الزّواج. فإنّ أوّل أسباب الشّعبويّة هي الدّيمقراطيّة. لكن في المجتمعات الدّيمقراطيّة، يكون قبول الشّعبويّة أمرًا استثنائيًا. حيث لا يتجاوز التمثيل السّياسي للشعبويين عادة الـ 5-10%. أي استثناءً. لكن حين تكثر الأزمات وتستفحل، يصبح هذا الاستثناء هو القاعدة. وهو ما نلاحظه في تونس. ومشكلة الدّيمقراطيّة التّونسيّة، ومن سوء حظّها، أن يتزامن مولدها مع عصر أفول نجم الدّيمقراطيّة التمثيليّة في العالم وصعود اليمين المتشدّد في عدّة بلدان. 

  • من مظاهر الشّعبويّة في تونس، تحوّل خطاب مكافحة الفساد إلى ما يشبه السّرديّة السّياسيّة أو الإيديولوجيا الحزبيّة. ما رأيكم في هذه السّرديّة؟ 

فكرة مكافحة الفساد تقوم على مغالطة كبرى. وهي الجمع بين مكافحة الفساد ومكافحة الفاسدين. مكافحة الفساد شيء، ومكافحة الفاسدين شيء آخر. مكافحة الفاسدين هو دور القضاء وحده. السّياسي ليس له علاقة بمكافحة الفاسدين. ولا يحقّ لأي سياسي أن يتهم سياسيًا آخر بالفساد كما يحدث في البرلمان مثلًا من اتهامات بين عدد من النّوّاب. لأنّ الدّيمقراطيّة تقوم على اللّباقة في الخطاب. وحين يتجرّأ نائب على اتهام زميله بالفساد، فذلك يفتح بابًا للاتهام بالخيانة، بالعمالة، بالكفر والتكفير، بالإرهاب أو حماية الإرهابيين... وهو ما نراه يوميًا. وهي كارثة عظمى في السّاحة السّياسيّة. 

اقرأ/ي أيضًا: أستاذ العلوم السياسية حمادي الرديسي: الشعبوية مدخل للدكتاتورية

مكافحة الفساد هي وظيفة الهيئات الرّقابيّة داخل الإدارة، وهي وظيفة القضاء خارج الإدارة. دور السّياسي هو مكافحة الفساد عبر مكافحة منابع الفساد، أي الإجراءات والثغرات الّتي تؤدّي إلى الفساد: كالبيروقراطيّة المعقّدة والمسار الطّويل في بعث الشّركات مثلًا. فدور السّياسي هو الطرح والسّعي إلى فرض برنامج سياسي واقعي للتخفيف من هذه الإجراءات. والفساد لا يحتاج إلى عين بصيرة للبحث عنه. يكفي أن تمرّ يومًا بالإجراءات الديوانيّة المعقدّة في المعابر والموانئ الحدوديّة، والمستعصية على الفهم على غير المختصّين، وما يفتحه ذلك من أبواب للفساد، حتّى تعي الخلل في المنظومة. 

  • تعاني الساحة السياسية التونسية من تورّم أو تخمة في عدد الأحزاب، تقريبًا 250 حزبًا. لكن رغم ذلك لا نرى إجابة واقعية لدى هذه الأحزاب للسؤال الاقتصادي الاجتماعي، تتماشى والخصوصية التونسية، وتلبّي تطلّعات الناخبين. السّواد الأعظم من الأحزاب محافظة بدرجات. كما أنّ ممارستها تقتصر على التّموقع داخل المنظومة أو محاولة إغوائها ومراودتها للتمكّن من السّلطة، ثم مهادنتها لاحقًا. كيف تقيّمون تجربة التعدّديّة التّونسيّة على مدى العشر سنوات الماضية؟ 

في الأنظمة السّياسيّة، هناك ثلاثة أنماط للتعدديّة الحزبيّة: 

  1.  الثّنائيّة الحزبيّة: كما في الولايات المتّحدة، العلاقة داخل الأحزاب كالعلاقة الزّوجيّة الكاثوليكيّة. أي تكاد تكون غير قابلة للانفصال. مثلًا، يستحيل تقريبًا على ناشط في الحزب الدّيموقراطي الأميركي المغادرة في حالة الخلاف، وبالتّالي يجد نفسه أمام إجباريّة اللّجوء إلى الإصلاح من الدّاخل. 
  2. التعدديّة المعقلنة: أو تسمّى أيضًا محدّدة. والعلاقة هنا أشبه بالتّعايش الحر. وهي علاقات ظرفيّة مرتبطة بسياق معيّن. 
  3. التعدّديّة المتسيبة: بمعنى منفلتة. وتشبه الإباحيّة المفتوحة. وهذا أقرب توصيف للحالة التّونسيّة مع الأسف. 

أيمن البوغانمي: ما دمنا في هذه المنظومة الانتخابيّة، فلن يتوقّف التّدحرج نحو الأسفل، وبالتّالي، بالنّظام الانتخابي الحالي، فنتائج 2024 ستكون أسوأ من نتائج 2019

ويرجع ذلك للنّظام الانتخابي الذي يفتّت الأحزاب ويضعفها، وتصبح غير قادرة على تقييم أي برنامج قابل للتحقيق. بمعنى أنّ كلّ حزب يخاطب النّاس، هو في الحقيقة لا يخاطب النّاس، بل يخاطب فقط أنصاره. ولهذا كلّ حزب يتبنّى موضوعًا واحدًا يجمع حوله هؤلاء الأنصار: كالوقوف ضد عودة النّظام السّابق، التحدّث باسم الثورة، مكافحة الفساد ومكافحة الإسلاميين... وكلّ يغنّي على ليلاه. وهذا يمنع من التوجّه نحو الاعتدال والوسطيّة، أو ما يعبّر عنه بمتوسّط النّاخب. وكما قلنا سابقًا، الاعتدال هو من شروط الانتقال الدّيمقراطي السّليم. لكن المنظومة الانتخابيّة الحاليّة هي نقيض شرط الانتقال. فما دمنا في هذه المنظومة الانتخابيّة، فلن يتوقّف التّدحرج نحو الأسفل، وبالتّالي، بالنّظام الانتخابي الحالي، فنتائج 2024 ستكون أسوأ من نتائج 2019. 

  • يعبرّ عن هذا النّظام بـ "أنا لا أحكم، أنت لا تحكم ولا أحد يحكم". يحيلنا هذا إلى التنصّل من المسؤوليّة السّياسيّة، وخاصة التنصّل من مسؤوليّة الأداء الحكومي الهزيل حتّى الآن. لكن من جهة أخرى: الوسادة البرلمانيّة متمسّكة برئيس الحكومة هشام المشيشي، والّذي بدوره يتمسك بـ "فيتو" تقديم استقالته، وهو ما لا يريده الحزام الحكومي، حيث يعني ذلك إرجاع المبادرة إلى رئيس الجمهويّة الّذي عيّن فيما سبق رئيس الحكومة ثم تنكّر له بعد محاولة الأخير الاستقلال برأيه. إلى متى هذا التنصّل أو التفصّي من المسؤوليّة؟ 

أوّلًا، بطل التفصّي من المسؤوليّة هو رئيس الجمهوريّة. لأنّه من أدخل المشهد السّياسي التّونسي في حالة العطالة الّتي تكاد تكون مزمنة. لماذا؟ لأنّه يرفض أداء واجبه. واجب رئيس الجمهوريّة أن ينظّم موكب أداء اليمين وأن يختم القوانين في نهاية المسار التشريعي. وحتّى المعارضة لم تعد تثق في أنّ الرّئيس قابل للتفاهم وتقديم التنازلات. وأي ائتلاف آخر مكان الائتلاف الحالي لن يستطيع سحب الثقة من المشيشي الّذي يمكن أن يبادر بالاستقالة، كما أنّه ليس هناك ضامن أنّ رئيس الجمهوريّة سيقوم بواجبه من حيث تنظيم موكب أداء اليمين، ما قد يعني شللًا كلّيًا في الدّولة.

أيمن البوغانمي: بطل التفصّي من المسؤوليّة هو رئيس الجمهورية، لأنّه من أدخل المشهد السياسي التونسي في حالة العطالة التي تكاد تكون مزمنة. لماذا؟ لأنّه يرفض أداء واجبه

وبالتّالي فإنّ مواقف رئيس الجمهوريّة المتعنّتة وغير السّياسيّة والرّافضة للحوار وتقديم التّنازلات المتبادلة، جعلت البرلمان في زاوية مغلقة، وأيضًا جعلت رئيس الجمهوريّة في حالة عطالة. ما أدّى إلى انعدام الثقة بين مؤسّسات الدّولة. وبالنّهاية، أصبح رئيس الحكومة هو الطّرف الأقوى في هذه الحكومة، فهو يمتلك السّلطة التنفيذيّة، ويمتلك ورقة الضّغط على البرلمان، وكلّ هذا يؤدّي إلى حكومة ضعيفة في الأداء، لكنّها قادرة على البقاء. 

  • لكن قد رأينا عدّة أطراف من المعارضة، إنّ صحّ التعبير، تصرّح في عدّة مناسبات أنّها قادرة على تجميع مئة صوت لسحب الثّقة من رئيس البرلمان. فلماذا لا تجتمع هذه المعارضة على سحب الثقة من رئيس الحكومة؟ وما هو دور المعارضة في النّظام الحالي؟ هل يقتصر دورها على المعارضة للمعارضة؟ 

عندما نقول دور النّجار هو النّجارة أو دور الحدّاد هو الحدادة، فأنت لم تقل شيئًا في الحقيقة. فدور النجّار هو أن يصنع بالنّجارة شيئًا ما: طاولة، كرسي.. فدور المعارضة هو أن تصنع بالمعارضة شيئًا ما. وبالتّالي تستغلّ موقعها في السلطة التشريعيّة، البرلمان، من أجل أن تمرّر جزءًا من برنامجها. بالتّالي مهم جدًا أن يكون السّياسي قادرًا على إقناع خصمه. يعني القدرة على القيام بالتحشيد أو اللوبيينغ. أي يجب على السّياسي أن يكون لبقًا. ولهذا على رئيس الجمهوريّة، والنوّاب، أن يكونوا لبقين. لأنّه بدون لباقة لا يمكن أن تقنع. لكن بغياب اللّباقة السّياسيّة، نبقى في دوّامة مفرغة من العنف الخطابي المثير للزخم الإعلامي، والّذي يبهج الأنصار لكن لا يفيد الدّولة. 

اقرأ/ي أيضًا: الدعوات لتفعيل الفصل 80 من الدستور.. أي سيناريوهات منتظرة في تونس؟

  • في الحقيقة لا يبدو أن الأمر سيتوقّف عند العنف الخطابي مع الدّعوات المتكرّرة لاستخدام الجيش أو تفعيل الفصل الـ80، ما يسمّيه البعض بالانقلاب الذّاتي أو الأبيض؟ ما رأيكم في هذه الدّعوات وأصحابها؟ وهل هي دليل على الإفلاس السّياسي؟ 

المفروض أنّ من يدعو للانقلاب، والخروج عن الدّستور والقانون، أن يحاسب قضائيًا. تفعيل حالة الطّوارىء واستخدام الجيش، أو اللّجوء إلى الفصل 80، لا يجب أن يتمّ إلّا في حدود شروط الطوارئ. بالنسبة للمنادين باستخدام الجيش، فهذا دليل على أنّ هؤلاء لا يستطيعون أن يحكموا في تجربة جماعيّة. ولكن يريدون أن يحكموا بشكل فردي. وهي معضلة كبرى لهم ولنا. وبما أنّه لدينا رئيس جمهوريّة يريد أن يحكم بشكل فردي في مشهد تعدّدي، فهو يحكم على نفسه بالعزلة، ويحكم على نفسه بالعجز عن تنفيذ أي فكرة من أفكاره، إلّا بالخروج عن الدّستور. هل سيحصل هذا؟ يبقى هذا في حكم المجهول. 

أيمن البوغانمي: رغم كل عيوب البرلمان، فإنّه يشتغل في الضوء ونعرف تقريبًا ما يحدث يوميًا.. أما الحكومة فهي محكومة بالضعف، ولم تنجح في أبسط واجباتها كالتّواصل

  • بعد مضيّ 16 شهرًا من العهدة البرلمانيّة والرّئاسيّة، حوالي ربع المدّة، كيف تقيّمون أداء كل من رئيس الحكومة، البرلمان ورئيس الجمهوريّة، إذا ما أخذنا نتائج سبر الآراء بعين الاعتبار؟ 
  1. بالنسبة لرئيس الجمهوريّة، تقييمي الخاص، أنّ أداءه كارثي. 
  2. بالنّسبة للبرلمان، أحبّ أن أنسّب. رغم كل عيوب البرلمان، فإنّه يشتغل في الضوء. ونعرف تقريبًا ما يحدث يوميًا. وهو ما يغيب عن الرّئاسة، إذ لا أحد يعلم ما يدور في القصر. رغم صعوبة الموقف، ورغم غياب الأغلبيّة الطبيعيّة والتّحالفات العاديّة في البرلمان، إلّا أنّه على الأقل يشتغل في حدوده الدّنيا بالنّظر إلى الوضع. وفي نهاية الأمر وهذا ليس تبريرًا، ليس هناك برلمان محبوب في ديمقراطيّات العالم، وحتّى في الديمقراطيّة الرّئاسيّة الأميركيّة. وبلا برلمان، ليس هناك ديمقراطيّة. بل حتّى الدكتاتوريّات لها برلمانات. 
  3. بالنسبة للحكومة ورئيسها: أداء ضعيف جدًا وسياقها قاسٍ جدًا. من المفروض أن تتقوّى الحكومات في السّياقات القاسية. لكن هذه الحكومة محكومة بالضعف، ولم تنجح في أبسط واجباتها كالتّواصل. عادة في السياقات الاستثنائيّة يتم اللجوء إلى الحكومات التقنيّة، التكنوقراط، لكن في حالتنا كان هذا كارثيًا. ورئيس الجمهوريّة عندما عيّن المشيشي، وفرض جزءًا من وزرائه على ما يبدو، أراده قائدًا ضعيفًا له، لكنّه صار ضعيفًا عليه. 

اقرأ/ي أيضًا: عن مستقبل حكومة هشام المشيشي..

  • لو أجري استفتاء على النّظام السّياسي في البلاد، رأيكم الشّخصي، أيهما أفضل، النّظام البرلماني أم الرّئاسي؟ 

رأيي الشّخصي أنّ النّظام الحالي ليس سيّئًا. ولا أعتقد أنّنا نحتاج إلى تغيير النّظام السّياسي. لكن نحتاج أوّلًا أن يكون المترشّحون للعمل ضمن هذا النّظام مقتنعون به. أي ليس من المعقول أن يسبّ برلمانيّون البرلمان. كما أنّه ليس من المعقول أن يتقدّم مترشّح لرئاسة الجمهوريّة وهو ليس مقتنعًا بحدود صلاحيّات الرّئاسة. ثانيًا، النّظام الانتخابي الحالي يؤدّي إلى الانفلات التعدّدي ولا بدّ من إصلاحه ولو جزئيًا حتّى نتمكّن من تحقيق استقرار سياسي وعقلنة الخطاب. ثالثًا لا بدّ من استكمال النّظام الحالي باستكمال باقي الهيئات الدّستوريّة، كالمحكمة الدّستوريّة، والّتي كان من المفروض أن تلعب دور الكابح لجماح السّلطة. 

أيمن البوغانمي: رأيي الشّخصي أنّ النّظام السياسي الحالي ليس سيّئًا. ولا أعتقد أنّنا نحتاج إلى تغييره، لكن ليس من المعقول أن يسبّ برلمانيّون البرلمان. كما أنّه ليس من المعقول أن يتقدّم مترشّح لرئاسة الجمهوريّة وهو ليس مقتنعًا بحدود صلاحيّات الرّئاسة

  • مع تغيّر الإدارة الأميركيّة، نلاحظ عدّة متغيّرات في محاور الشّرق الأوسط بصفة عامة، وكذلك نلاحظ إصرار الأمريكيين على إنجاح التجربة الليبيّة. فكيف سيكون تأثير هذه المتغيّرات، والإدارة الجديدة، على الدّاخل التّونسي؟ 

أوّلًا، هناك إصرار من إدارة بايدن على إنجاح التجربة التّونسيّة وكذلك على جعل ليبيا مثالًا ناجحًا. وهذا إيجابي. بالنسبة للبيت الديمقراطي الأميركي، فتجارب الشّرق الأوسط المختلفة كان لها ثمن باهظ على إدارة أوباما بين 2008 و2016، وهناك اعتقاد أنّ ما فشل فيه أوباما لا يمكن أن ينجح فيه بايدن. خاصة القضيّة الفلسطينيّة، فالملاحظ حتّى الآن أنّ إدارة بايدن لا تريد الاقتراب من هذه القضيّة إلّا على مضض. وحسب رأيي، فهذه الإدارة تعتبر أنّ تجربة الدّولتين أصبحت من الماضي. وبالتّالي فإنّ أي رئيس أميركي يقتنع بهذا، فهو لا يمكن أن يقدّم شيئًا للشرق الأوسط. على الأقل من المنظور الأميركي. وحتّى البيت الجمهوري كذلك. فصفقة القرن مع إدارة ترامب كانت اعترافًا ضمنيًا بضرورة تصفية القضيّة الفلسطينيّة وفرض دولة واحدة، من وجهة النّظر الأميركيّة الجمهوريّة طبعًا. فصفقة القرن كانت تصفية للقضيّة الفلسطينيّة، والمطبّعون العرب المشاركون في هذه الصفقة هم مشاركون في التصفية. 

اقرأ/ي أيضًا: تجريم التطبيع.. مبادرات تشريعية متعددة والتفعيل غائب في تونس

  • في آخر تطوّرات الاعتداءات على الفلسطينيين وخصوصًا الأخيرة على قطاع غزّة، لاحظنا مشاركة لاعب جديد في المعادلة متمثّل في عرب الأراضي المحتلّة أو ما يسمّى بعرب الدّاخل. فهل توافقون اعتبار البعض لهؤلاء بمثابة القنبلة الموقوتة داخل الجسم الصّهيوني؟ 

فقط للتنسيب، هذا العامل ليس عاملًا جديدًا. هو عامل قديم منذ 1948. لكن يبدو أنّ وزنه وتأثيره في نمو. لكن حسب رأيي، فإن من أسباب نموّ هذا التّأثير، صعود اليمين المتطرّف داخل الكيان. بعد قرار التقسيم، كانت حكومات الاحتلال يساريّة اشتراكيّة. لكن منذ 1977، صارت تنزع يمينًا إلى أن صار هذا اليمين منفردًا بالسّاحة الآن. وهناك سياسيّون أكثر تطرّفا ممّن يتولّون الحكم الآن داخل الكيان. وهذا ما أحيا ضرورة المقاومة وعزّز تبنّي القضيّة لدى عرب الأراضي المحتلّة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الترامبية، الماكرونية.. والسعيّدية: الوصفة الدعائية لرؤساء الجيل الرابع 

فشل النخبة التونسية في تحقيق التسوية التاريخية المطلوبة