13-أبريل-2023
مسلسل فلوجة

"كلّنا مخطئون" عبارة لخّصت بها مخرجة العمل على لسان المديرة معضلة المدرسة التونسيّة

 

تنهض الدراما بوظيفة جماليّة تتجسّد إثارة وتشويقًا من خلال الصورة والحوار والتتابع التدريجي المحكم للأحداث، ويتجاذب هذا الضرب من الفنون الحديثة قطبان، قطب واقعي يشدّه إلى التربة التي نشأ فيها وقطب خيالي يُحلق بالعمل إلى آفاق إبداعيّة يكشف من خلالها المخرج عن تفرّده ورؤيته الذاتية للعالم والأشياء.

تحوّل مسلسل فلّوجة من مرجع يحيل إلى الانحراف إلى عمل فنّي يستحقّ بالنسبة إلى الكثيرين التنويه والاعتراف

العنصر الخيالي يرقى إلى مرتبة "العقد الفرجوي" بين الباثّ والمتلقّي يحمي صاحب العمل من لوثة "المحاكاة"، وتهم الإساءة والتشهير، رغم ذلك لم تسلم بعض الأعمال الدرامية من التضييقات والمحاكمات، وقد نال مسلسل الفلوجة النصيب الأخطر من الانتقادات التي لم تكن دوافعها تقنية ذوقيّة بقدر ما كانت أخلاقيّة وقطاعيّة، وقد تزعّمت جامعة التعليم الثانوي موجة الرفض والامتعاض، فسارعت منذ الحلقة الأولى إلى المطالبة بإيقاف بثّ المسلسل لما فيه من "إساءة للإطار التربوي"، وفق التقديرات النقابيّة.

  • من الإثارة إلى الإنارة

تهمة الإساءة للإطار التربوي تحوّلت من محنة إلى منحة فقد ساهمت هذه القضيّة في الترويج المجاني لمسلسل فلوجة، ولم يخسر المتظلّم النزاع قضائيّا فقط إنّما خسر المعركة كذلك في علاقة بالجمهور الذي أظهر الرفض والامتعاض بُعيد الحلقة الأولى لكنّه سرعان ما بدأ بعد الحلقة الثانية في مراجعة تقييماته شيئًا فشيئًا، فتحوّل فلّوجة من مرجع يحيل إلى الانحراف إلى عمل فنّي يستحقّ بالنسبة إلى الكثيرين التنويه والاعتراف، وتأكّد ذلك بعد أن كشفت نهايته ومساراته على ضرب من "التطهير" بمعناه التراجيدي الكلاسيكي الذي تحقّق لدى المتلقّي من خلال "التنبيه الوعظيّ" إلى النهاية الوخيمة لكّل من انساق وراء الانحراف المهنيّ أو الأخلاقي.

كشفت نهاية مسلسل الفلوجة ومساراته على ضرب من "التطهير" بمعناه التراجيدي الكلاسيكي الذي تحقّق لدى المتلقّي من خلال "التنبيه الوعظيّ" إلى النهاية الوخيمة لكّل من انساق وراء الانحراف المهنيّ أو الأخلاقي

مارست مخرجة العمل سوسن الجمني تقنية "تخييب التوقّع" فتدرّجت من الإثارة إلى الإنارة، أمّا الإثارة فقد كان الرهان فيها على الجسد وقضاياه، وعالم المخدّرات وتشعبّاته، والعنف ودرجاته تجسّد هذا التوجّه من خلال لقطات غراميّة وحوارات حميميّة وواقعة اختفاء قاصر تُنبئ بعلاقة جنسيّة وردّ فعل وليّ بدا صادمًا متهوّرًا واضعًا فوهة المسدّس على رقبة ابنه، هذا فضلًا عن اللباس المتحرّر والخطاب المفتقر إلى اللياقة، وممّا عمّق انطباع التوجّه الفنيّ نحو الإثارة حصولُ جلّ المشاهد في فضاء مدرسيّ يقتضي وفق المقاربة النمطيّة إبرازه في صورة المركز الإصلاحيّ والتربويّ.

دأبت سوسن الجمني على إثارة الرأي العام منذ سنوات في جلّ أعمالها مع المخرج والإعلامي سامي الفهري، وقد بلغ ذلك التوجّه ذروته في مسلسل أولاد مفيدة حينما أحدثت في الجمهور ضربًا من التعاطف مع القاتل والزاني وبائع المخدّرات فرفعت الشخصيات المنحرفة إلى مرتبة القدوة في أذهان المراهقين، وتحقّقت من خلال تلك الأعمال الدراميّة معادلة "البطل الآثم" على حدّ تعبير نقّاد الأدب، وقد حسب جلّ المشاهدين أنّ الجمني ستتمسّك بهذا الخطّ الدرامي الخطير، وهو ما يفسّر سرعة ردود الفعل المنددة الساخطة من بداية عرض الحلقة الأولى مسلسل فلوجة.

 

 

  • في البدء كان الجسد..

الدافع التجاريّ ومنطق كسب الجمهور وشدّه منذ البداية ( العتبة/ المقدّمة /المطلع/ الحلقة الأولى) محرّك للعمل الفنيّ عامّة والدرامي خاصّة في ظلّ الصراع المحموم بين القنوات التلفزية والمنصّات الرقميّة، ولا عجب أن يكون الحب والجسد والجنس من البهارات التي لا غنى عنها في شدّ الملتقي، فتلك خطّة تسويقيّة موغلة في القدم، وقد كان العرب واعين منذ العصر الجاهلي فاستهلوا قصائدهم بالطلل والتشبيب (وصف محاسن المرأة) والنسيب (إبراز عشق الرجل وكلفه بالحبيبة) وعلّل ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء هذا الترتيب قائلاً:  وصل الشاعر ذلك ( الطلل) بالنسيب فشكى شدّة الوجد وألم الفراق وفرْط الصبابة والشوق ليُميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستدعي به إصغاء الأسماع إليه لأن النسيب قريبٌ من النفوس لائط بالقلوب لِما قد جعل الله في تركيب العباد من محبّة الغزل وإلف النساء، فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقًا منه بسبب وضاربًا فيه بسهم حلال أو حرام، فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء والاستماع..." مضى إلى غرضه فخًرا أو مدحًا أو شكوى أو إلى غيرها من المقاصد والأغراض.

بالجسد والحبّ شدّت مخرجة فلوجة الجمهور إليها منذ الحلقة الأولى كما كان يفعل الشاعر الجاهليّ قديمًا ثمّ مضت إلى مقصدها الذي بدا أقرب إلى التنبيه والتنوير بل هو في بعض وجوهه قد بلغ درجة الوعظ والمحاكمة

بالجسد والحبّ شدّت مخرجة فلوجة الجمهور إليها منذ الحلقة الأولى كما كان يفعل الشاعر الجاهليّ قديمًا ثمّ مضت إلى مقصدها الذي بدا أقرب إلى التنبيه والتنوير بل هو في بعض وجوهه قد بلغ درجة الوعظ والمحاكمة لأطراف عديدة منها الأستاذ والقيّم والولي.

 

 

  • القيّمون وتهمة التحرّش والمتاجرة بالامتحانات

جسّد الممثّل صادق حلواس في مسلسل فلوجة دور "الأسعد" القيّم العامّ، وقد كشف من خلال ملامحه وخطابه وإيماءاته وأفعاله ألوانًا من الفساد الذي بلغ درجة كريهة مقزّزة أحيانًا، فقد اجتمعت في هذه الشخصيّة موبقات شتّى، تحرّشٌ وكذبٌ ونفاقٌ وتملّق وإفكٌ (الافتراء على النساء) وسرقة ورشوة وعنف وابتزاز وافتقار لأبسط مقتضايات المهنيّة والنزاهة.

دور القيّم العام الذي جسّده صادق حلواس في مسلسل فلوجة يمكن اعتباره وفق معايير النقد الراهن الأضعف فهو الشخصيّة الخيّرة مطلقًا أو الشريرة مطلقًا، فيتخذ منها المتلقيّ موقفًا واضحًا منذ البداية

لقد بدا "لَسعد" على امتداد حلقات المسلسل شرّا محضًا، خلافًا للعديد من الشخصيّات التي كانت طبيعيّة مركّبة نسبيًا هي أقرب إلى الإنسان الذي يتردّد في سلوكه بين الألوهية والحيوانيّة، بين الحقّ والباطل، بين القبح والجمال.

دور القيّم العام الذي جسّده صادق حلواس في مسلسل فلوجة يمكن اعتباره وفق معايير النقد الراهن الأضعف فهو يردّد صدى الأعمال الروائيّة والدراميّة الكلاسيكية التقليديّة التي تكون فيها الشخصيّة خيّرة مطلقًا أو شريرة مطلقًا، فيتخذ منها المتلقيّ موقفًا واضحًا نهائيًا صارمًا، خلافًا للشخصيّة في الرواية الجديدة والدراما الراهنة التي تبث فيك مشاعر متناقضة متغيرة متنامية رفضًا وكرهًا واشمئزازاً ورأفة وتفهّمًا وإشفاقًا، يتّضح ذلك خاصّة من خلال صورة الآباء.

 

 

  • الآباء وتهمة الإهمال

خمسة تلامذة في مسلسل فلوجة كانوا ضحايا الإهمال الأبويّ، الأولى تعرّضت إلى الاغتصاب، فأفضى ذلك إلى محاولة انتحار، وانتهى بها الأمر إلى الهرب فالاختباء والإنجاب خارج إطار الزواج، وقد بدا والدها من خلال ردود أفعاله سلبيًّا مفتقرًا إلى "حرارة الأبوة" ويقظة وليّ الأمر، وقد تشكّل ذلك من خلال وقوعه فريسة الصمت والاكتئاب ومسارعته برمي المسؤوليّة على ابنته.

الفتاة الثانية التي بدت ضحيّة والدها هي بنت الطبيب الذي أدمن الخمرة وجلسات اللهو، ولم يلتفت إلى فلذة كبده إلا بعد فوات الأوان، والحال أنها كانت في حاجة إلى عناية نفسيّة مركّزة بعد معاينة أمها ترتكب جريمة الزنا والخيانة الزوجيّة، وقد تعمقت أزمة هذه الفتاة المراهقة حينما تعرّضت لاحقًا إلى صدمة عاطفيّة في علاقة برفيقها في الدراسة فاندفعت إلى تناول قرص مخدّر، فكانت نهايتها الموت إثر نوبة قلبيّة حادّة.

الفتاة الثالثة كانت قاب قوسين أو أدنى من الانحراف، ولئن بدت محافظة متردّدة في بداية سقوطها الأخلاقيّ والدراسيّ فلقد اتخذ انحدارها نسقًا سريعًا حينما تفطّنت إلى الأب الخائن المدمن فمثّل "عشيقها الآثم" الملاذ الأمثل والأقدر في غياب "الوليّ القدوة".

التلميذ الرابع تعرّض إلى إهمال من نوع فريد تمثّل في حصوله من أبيه رجل الأعمال على كلّ رغباته، فتورّط في بيع المخدّرات وارتكاب حادث مرور دون رخصة سياقة والفرار بعد التسبب في إعاقة مترجّلة.

ابن رئيس مركز الشرطة هو التلميذ الخامس الذي ورث العنف والحدّة والتعالي من أبيه فتدرّج في انحرافه من بيع المخدّرات والتطاول على الإطار التربويّ إلى الاختطاف والتهديد بالقتل فكانت نهايته ونهاية والده أقرب إلى الفاجعة المهنيّة والتربويّة.

يمكن توسيع دائرة الفواعل التي كانت ضحيّة الإهمال من خلال النهاية المأسويّة للقطّ الذي كان يحظى بالعناية والرفاهية في بيت مديرة المعهد، فطال هذا الحيوان الإهمال بعد أن غفلت عنه صاحبته ( متبنيتُه) بسبب انخراطها في علاقة غراميّة وهميّة عن بعد عبر تطبيقة المسنجر، فكانت نهايته مغادرة الشقة فالموت، وقد نوّه موقع sos animaux Tunisie ، بهذا المشهد لدوره التوعويّ في إرشاد مربّي الحيوانات إلى تعهّد حيواناتهم بالعناية، ذلك أنّ الإهمال قاتل مهما كان جنس الضحيّة ونوعها.

سيناريو مسلسل فلوجة قاس على الرّجل، فقد بدا كلّ الذكور في المسلسل مفتقرين إلى التوازن ( القيّم العام، الآباء الخمسة، وأستاذ الرياضيات الذي يشرّع للدروس الخصوصيّة القائمة على الابتزاز والاستغلال والزبونية واللصوصية)

ما يمكن ملاحظته من خلال هذه النماذج هو قسوة سيناريو الفلوجة على الرّجل، فقد بدا كلّ الذكور في المسلسل مفتقرين إلى التوازن ( القيّم العام، الآباء الخمسة، وأستاذ الرياضيات الذي يشرّع للدروس الخصوصيّة القائمة على الابتزاز والاستغلال والزبونية واللصوصية). هذه الصورة المكثفة المتواترة اعتبرتها إحدى صفحات الفيسبوك المدافعة عن "حقوق الرجل الأسرية" آية من آيات التحامل.

في المقابل يمكن التفطّن إلى أنّ المرأة قد حظيت في المسلسل بصورة مشرّفة تجلّى ذلك خاصّة في صورة الأستاذة التي حرصت على مساعدة تلامذتها معرفيًّا وتوجيههم سلوكيًّا والإحاطة بهم نفسيًّا، ورغم فشلها فقد نالت شرف المحاولة، أمّا مديرة المعهد فقد حصلت على وسام استحقاق مهني متوّجة تجربتها بتكريم من التلامذة، وأمّا التلميذات فخلافا للتلامذة الآثمين فقد خرجن في صورة الضحايا والمغرّر بهنّ.

"كلّنا مخطئون" عبارة لخّصت بها مخرجة العمل على لسان المديرة/نعيمة الجاني معضلة المدرسة التونسيّة التي بلغت مستوى الأزمة الشاملة بسبب تفكّك المنظومة وفسادها

"كلّنا مخطئون" عبارة لخّصت بها مخرجة العمل على لسان المديرة/ نعيمة الجاني معضلة المدرسة التونسيّة التي بلغت مستوى الأزمة الشاملة بسبب تفكّك المنظومة وفسادها، وهو ما لم تستوعبه سلطة الإشراف التي تُلقي المربّي في اليَمِّ وتقول له إياك أن تغرق وحينما يرتكب خطأ تقديريًا يكون مصيره العزل شأنه شأن الأستاذة الشابة والمديرة التي ضحّت بشبابها، فكان جزاؤها النكراء والخسران عند أوّل زلّة سليلة موقف ضعف لم تتفهمه المنظومة المتحجّرة الصمّاء البكماء.