15-مايو-2019

الإنسان ميّال إلى ما يثير انفعالاته إثارة تُجدّد حياته

 

فتحت "مفيدة" باب المنزل، وجدت أمامها "بدر" هائمًا واجمًا، فأصابتها دهشةٌ سُرعان ما تحوّلت إلى هلع لمّا رأت جثّة "الشريف" هامدة، اندفعت إليه في صراخ وعويل، تحقّقت من موته وعلمت أنّ "بدر" قد قتل "أباه" انتقامًا لشرفه، ورغم حُرقتها على "زوجها في السر" سعت إلى حماية ابنها. ثم حضر "بيرم" الأخ الثاني، وخطّط الثلاثة للتّملّص من الجريمة، فتمكّنوا من ذلك ولم تمض غير ستّة أشهر زمنيًا (ودقيقتين دراميًا) حتّى وقعت العائلة في محنة أخرى. فقد أهان "بيرم" أحد الفتيان فأراد هذا الشاب الانتقام مستعينًا ببعض رفاقه إلّا أن "ولد مفيدة" نال من غريمه بطعنة في الساق. حينما خرج "بيرم" من السجن، تواصلت رحلة الانتقام التي اتّخذت طابعًا أعنف، إذ قصد صحبة أخيه الأصغر "ابراهيم" محلًا تجاريًا ضخما لوالد ذاك الشّاب بُغية السرقة، فانتهى الأمر إلى جريمة قتل كان ضحيّتها عون أمن.

المشاهد المتعلقة بالتّعذيب والجريمة وغيرهما من الأعمال الجنائيّة في "أولاد مفيدة" دفعت "الهايكا" للفت نظر قناة "الحوار التونسي"

هذه أهمّ أحداث الحلقة الأولى من الجزء الرّابع من مسلسل "أولاد مفيدة"، العنف في هذا العمل لم يكن مجرّد حادثة، إذ تحوّل إلى ظاهرة بل أصبح يمثّل هويّة المسلسل وركنه الجوهريّ ومقصده، فلا عجب أن تُفتتح كلّ الأجزاء والحلقات وتنغلق بحادثة عنف من قبيل المطاردة والسرقة و"البراكاج" والاختطاف والتحرّش والزنا والقتل.

هذه الجرائم تتأكّد من خلال الملفوظ الدرامي، ففي دقيقتين من بداية الحلقة الأولى تكرّر الجذر (ق، ت، ل) على ألسنة جلّ أبطال أفراد عائلة مفيدة بشكل جعل الخطاب يقطر دمًا ويفوح موتًا.

"مفيدة (صارخة): أَش عملت؟
بدر: قْتَلْتُو
مفيدة: (منهارة) علاش، علاش.
بدر: انت تعرف علاه.
مفيدة: قْتَلْتْنِي آنا خير، علاه، عُمْرِكْ ضَاعْ ( يَهُمّ "بدر" بالخروج، فتُقبل عليه أمّه مسرعة) وِينْ مَاشِي؟
بدر: للحاكم، مَاشي للحاكمْ ، قاتل رُوحْ وِينْ تْحِبْنِي نِمْشِي
مفيدة: كانْ تِمشي نُقتل رُوحي
(يحضر بيرم لتدبير خطّة إنقاذ بدر)
بيرم (ببرود): اللِّي يِلْزْمُو يْصِيرْ صَارْ سَامَحْنِي يا "بدر" كَارني (المفروض) أنا اللّي قتلتو".

هذه المشاهد الصّادمة تلتها في الحلقات اللاحقة مشاهد أخطر كالتّعذيب والجريمة المنظّمة وغيرهما من الأعمال الجنائيّة، وهو ما خلّف موجة رفض حثّت الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعي والبصري "الهايكا" إلى لفت نظر قناة "الحوار التونسي" ودعوتها إلى جملة من الضّوابط  لحماية الأطفال من مشاهد العنف، وألزمتها بعرض المسلسل بعد العاشرة مساء.

اقرأ/ي أيضًا: "شورّب".. بين قسوة الواقع الاجتماعي وقسوة الدراما التلفزية

"أولاد مفيدة" و"أولاد تونس"..

لا شكّ أن بعض السّاخطين على "أولاد مفيدة" تُحرّكهم دوافع غير موضوعيّة منها المنافسة الإعلاميّة والخلافات الإيديولوجيّة والتّصنيفات السياسيّة، غير أن الغالبيّة يستندون إلى تصوّر فيه كثير من الوجاهة. اللافت أنّ مخرج وسيناريست العمل سامي الفهري نفسه ورفقاؤه في كتابة السيناريو بدوا واعين بهذا الأثر الخطير لمشاهد العنف، دليل ذلك حوار دار بين "بدر" و"بيرم" في الحلقة الثانية من الجزء الرّابع (من الدقيقة 13 إلى الدقيقة 19) انتهى على النحو التّالي:

"بدر: مْنِينْ جِبتو هذا (المسدّس)
بيرم: سْرقتو للبوليس اللي مات
تناول "بدر" المسدّس، وحاول الانتحار، لكنّ بيرم أثناه عن ذلك بخطاب عميق مقنع مؤثّر
بدر: ولّينا قتّالة أرواح وبالفْروده... يِتْحَطْ هُوني هذا (المسدّس)؟
بيرم: لا يتحط في السّبتة
بدر: ومنين ليك الحكاية؟
بيرم: نتفرّج في سِيريّات أكثر منك".

يقرّ في هذا الحوار أحد الأبطال الآثمين في "أولاد مفيدة" أنّه قد استلهم خبرته الإجراميّة من الأعمال الدرامية والسينمائية، فلا غرابة أن تكون بعض أخبار القتل والسرقة المنشورة في مواقع التواصل الاجتماعي مشفوعة بتعليقات من قبيل "كلّوا من أولاد مفيدة" فتحوّل "الأبطال الآثمون" في ظنّ العديد من المتابعين إلى مثال سلوكيّ وقدوة يحتذي بها المراهقون لإثبات القوّة والشجاعة و"الرُّجْلة" (الرجولة).

لا شكّ أن بعض السّاخطين على "أولاد مفيدة"  تُحرّكهم دوافع غير موضوعيّة منها المنافسة الإعلاميّة والخلافات الإيديولوجيّة والسياسيّة

هذه الوضعيّة الحرجة التي يواجها سامي الفهري لا تعدّ فريدة إذ يمكن أن نُحصي المئات من مثيلاتها، ففي القرن الثامن عشر على سبيل المثال اتُّهِمت "أوبرا الشّحّاذين" (The Beggar's Opera) التي ألّفها جون جاي (John Gay) بأنّها مسؤولة عن زيادة السّرقات في الطّرق العامّة، وذلك لأنّ قاطع الطّريق ماكهيث (Macheath) " تمّ تصويره في هذه الأوبرا باعتباره "بطلًا صنديدًا". وقد عالج جلين ولسون (Glenn Wilson) عالم النفس الذي خَبِرَ الإخراج والتمثيل هذه المسألة وغيرها في كتابه "سيكولوجيا فنون الآداب" خاصّة في سياق حديثه عن الرّقابة.

تبرير الجريمة أخطر من الجريمة نفسها

يبلغ العنف في "أولاد مفيدة" ذروة الخطورة حينما يَرِدُ في سياقات تُبرّره وتنظّر له، ولعلّ أوضح الأدلّة على ذلك بعض كلمات أغنية الجينريك التي أدّاها بلطي وشيرين اللجمي جاء فيها: "يا دنيا يِزّينا، يِزّي ما قاسينا، يا دنيا تْلزّينا، ما يِتلام علينا، ربّي الحاكم فينا" إذ تعطي هذه الكلمات للإجرام مبرّرات اجتماعيّة وقَدرية، فتكاد تعفي الآثم من المسؤولية الجنائية.

تأثير الأعمال الدراميّة والنّزعة التبريريّة معًا يذكّران الباحث بواحدة من أشهر الجرائم التي حدثت سنة 1992 بولاية تكساس بالولايات المتحدة الأمريكيّة، حينما عمد شابّ في التّاسعة عشر من عمره إلى إطلاق النّار على شرطيّ، فأرداه قتيلًا عندما حاول إيقافه لمّا كان يقود سيّارة مسروقة "وكانت دعوى الرأفة/ التّخفيف التي رفعها المحامون المدافعون عنه قائمة على أساس الزّعم بأنّه كان واقعًا تحت التأثير الضّارّ لأحد الأعمال الفنيّة" (سيكولوجيا فنون الآداب، ترجمة شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة، عدد 258، سنة 2000، ص. 31).

حاتم عشّاش (طبيب مختص في الأمراض النفسية والعقلية): ظاهرة "البطل الآثم" في الدراما لا يمكن أن تكون عفويّة وهي تهدف إلى نشر العنف 

في هذا السياق يؤكّد حاتم عشّاش، الطبيب المختصّ في الأمراض النفسيّة والعقليّة، لـ"ألترا تونس" أنّ العنف في الأعمال الدرامية التونسية مؤثّر في سلوك الناشئة تأثيرًا قويًا، وأنّ ظاهرة "البطل الآثم" لا يمكن أن تكون عفويّة، فهي على حدّ تعبيره متعمّدة تهدف إلى نشر العنف وتحويله إلى مؤسّسة تنبني عليها كلّ أشكال التّواصل.

اقرأ/ي أيضًا: 10 أغاني جينيريك مسلسلات تونسية.. محفورة في البال

يتناغم هذا الرأي نسبيًا مع قول جلين ويلسون: "تَجَمّع قدر كبير من الشّواهد المؤيّدة للقضيّة الخلافيّة بأنّ العنف في وسائل الإعلام يعمل على زيادة السّلوك العدوانيّ في المجتمع. كما أنّ التّعرّض المتكرّر إلى العنف الخيالي (السينمائي والدرامي إلخ) يؤدّي إلى النظر للعدوان باعتباره أمرًا عاديًا، ويعمل على خفض خوفنا من عواقبه". ( سيكولوجيا فنون الآداب، ص. 22).

ورغم ميل العديد من الباحثين إلى الحسم في اعتبار العنف في الأعمال الدراميّة مساهمًا في إفساد النّاشئة، فقد ظلّت المسألة موضع جدل. إذ ردّت الممثلة وحيدة الدريدي بطلة "أولاد مفيدة" على هذا الاتّهام قائلة في تهكّم حول جدليّة الفنّ والواقع إنّ مسلسل سامي الفهري "عمل من المرّيخ جاء ليفسد المدينة الفاضلة " وفي كلامها إشارة إلى أنّ العنف متأصّل في الواقع التّونسيّ وحضوره هو مجرّد صدى لما يعيشه النّاس في "يوميّاتهم الإجراميّة".

سلطان الأخلاق ونداء المتعة

اتّجه التّركيز في مواجهة "أولاد مفيدة" على السّلاح الأخلاقيّ، فهو وفق بيان المنظّمة التونسيّة للتربية والأسرة الصادر يوم 11 ماي/أيار 2019، يشجّع شأنه شأن العديد من البرامج على "التّسيّب والانحلال والكسل وسوء الأخلاق"، وقد بلغ الرّفض ذروته من خلال إطلاق حملة مقاطعة يبدو أنّها لم تنجح لأسباب فنيّة يمكن إيجازها، من باب التّثمين، في عناصر ثلاثة.

العنصر الأوّل الأداء المتميّز لأبطال المسلسل، ياسين بن قمرة (بدر) ونضال السّعدي (بيرم) ونسيم زيادية (إبراهيم) ووحيدة الدريدي (مفيدة). وقد ارتقى هذا الأداء إلى الدرجة التي يتطلّع إليها المخرجون، وهي "الإيهام بالواقع" ممّا يضمن انشداد المتلقّي ودفعه نحو "الاندماج" وإيقاعه في أعلى مستويات التأثّر و" التّهيّج العصبيّ".

لم تنجح حملة مقاطعة مسلسل "أولاد مفيدة" لأسباب فنية غالبًا تعود للأداء المتميز لعدد من أبطال المسلسل والصورة المبهرة والسيناريو التشويقي

العنصر الثّاني يتّصل بالصّورة الصافية المبهرة الأخّاذة، فقد حرص "عمر بوحولة" مدير التّصوير على الاستفادة من أحدث التقنيات وحسن توظيف التكنولوجيا الرّقميّة وهو ما جعل المَشاهد واضحة جميلة وجذّابة.

العنصر الثّالث يتّصل بالسيناريو، فقد حرص كاتبه سامي الفهري والمساهمان فيه سوسن الجمني ومطيع الدريدي في بناء أحداث تتتابع تتابعًا تدريجيًا محكمًا زمنيًا ومنطقيًا، فتحقّق بذلك أوكد شرط من شروط الإمتاع، وهو إثارة الانتباه وحبس الأنفاس وإحداث التّشويق الذي يشدّ المشاهد شدّا ويجعله في انتظار محموم  لمعرفة بقيّة أطوار المسلسل.

هذه العناصر وغيرها قد تفسّر الإقبال الباهر على "أولاد مفيدة" ذلك أنّ الإنسان ميّال إلى ما يثير انفعالاته إثارة تُجدّد حياته، في واقع غالبًا ما يكون رتيبًا يوحي بالزوال سواء تعلّق الحال برتابة اكتفاءٍ واستقرار أو رتابة تطبيع مع اليأس والخصاصة.

جمهور "أولاد مفيدة" صنيع "عندي ما نقلك"

إنّ التناقض بين الموقف الأخلاقي والإقبال الجمالي على مسلسل "أولاد مفيدة" لا يبيح لنا اتّهام التونسي بالازدواج في الشّخصيّة، فقد يرجع هذا الإعجاب بـ"البطل الآثم" في "مسلسلات العنف إلى أسباب أعمق منها أنّ الإنسان ليس خيرًا محضًا أو شّرّا محضًا. لذلك استأنسنا برأي أحمد القاسمي، أستاذ سيميائيات الأدب والسّينما بكلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة، وهو من كتّاب السّيناريو التّلفزي والمسرحية والرّواية (مؤلّف روايات "الرجل الذي نهشته الكلاب" و"مسافرون" و"zapping") ومن مخرجي الفيلم السّينمائي (مخرج فيلمي "تقريب أزواج" سنة 2009 و"سرور" سنة 2010)، وقد نشر عديد البحوث المحكمّة في جماليات الأدب والسّينما بالدّوريات العربية والدّولية.

أحمد القاسمي (أستاذ سيمائيات الأدب والسينما): سعت الدراما التونسية إلى مجاراة الذوق العام عبر شخصيات تخترق أحد التابوهات (الجنس/المخدرات/الجريمة) وهو اختراق غير مكلّف

أرجع القاسمي في حديثه لـ" ألترا تونس" التغيّر في وجه الدراما التونسيّة إلى التنافس على تحقيق الرّبح الأقصى ممّا جعل القنوات التلفزيّة تسعى إلى مجاراة الذوق العام من هنا كان اتجاهها، على حدّ تعبيره، إلى الشخصيات التي تخترق أحد "التابوهات" بعينه (الجنس/ المخدرات/ الجريمة) فظهر هذا البطل الآثم وهو اختراق غير مكلِّفٍ، أمّا كسر "تابوه" الدين فيهيج الرأي العام وكسر تابوه السياسة فيزعج دوائر القرار والنفوذ.

أحمد القاسمي أستاذ سيميائيات الأدب والسّينما بكلية الآداب والفنون والإنسانيات منوبة

اللّافت أنّ "الذائقة" التي تُقبل على تلك الأعمال الدراميّة المشحونة بالمشاهد الإجراميّة هي صنيع نفس القنوات التي تنتج أعمالًا دراميّة أبطالها آثمون. في هذا المعنى، يحدثنا القاسمي قائلًا: "إن شئنا صورة تلخص المشهد قلنا إن مسلسلاتنا اليوم تمثل عملية تسريد لمضمون تلفزيون الواقع شأن "المسامح كريم" أو "عندي ما نقلك" وهي برامج تجعل الفضائحي غاية في حد ذاته وإثارة وفخاخًا تنصب للإيقاع بأكبر عدد من المشاهدين. من هنا تضطلع هذه الدراما بدور سلبي للغاية، ومع تراجع الدور الموكل للعائلة والمدرسة في التربية أضحت هذه القنوات المربي الرئيسي لناشئتنا".

تبيّن من خلال هذا التّحليل وتلك الآراء أنّ العديد من المسائل يعزّ الحسم فيها إمّا لطابعها الإشكالي أو لبعدها الإنساني الذي يُبيح التنسيب وتعدّد وجهات النّظر، لكن ما يمكن أن نطمئنّ إليه في الختام أنّ الدراما التونسية شأنها شأن العديد من الفنون والآداب تشهد منذ اندلاع الثورة التونسيّة انتعاشة كبرى كميًا ونوعيًا، ولأنّ هذه الانتعاشة من بنات الحريّة فإنّ الحرية وحدها كفيلة بترجيح الأفضل والأبقى والأمتع بسلطة النّقد والتقييم لا بسلاح المنع والتّحريم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السينما التونسية ما بعد الثورة: سرديات الواقع.. بجماليّات جديدة

المدن العتيقة في الدراما والسينما: تيمة نجاح وأكثر من ديكور