09-أبريل-2019

تتزايد نسب استهلاك المخدرات عبر الحقن (Getty)

 

ينصب الحديث عن إدمان المخدرات، في أغلب الأحيان، على خطورته وسبل تلافيه ولكن نادرًا ما يتم التطرق لنوع المخدّر والحال أن إدمان الحقن هو من أخطر أنواع الإدمان في العالم. إذ لا يمثل تعاطى المخدرات عن طريق الحقن خطرًا محدقًا على الشخص المتعاطي فقط بل يمتد الخطر إلى المجتمع حينما يتحول جسد المتعاطي إلى تجمع غير محدود من الفيروسات الخطيرة التي تنتقل عبر الحقن من شخص لآخر. والمأساة الكبرى هو أن تنتقل هذه الأمراض الفتاكة من المدمن إلى شخص بريء آخر في محيط أسرته لتنتشر بعد ذلك في دائرة أكبر.

اقرأ/ي أيضًا: جدل "تحرير" القنب الهندي يتجدّد في تونس

القنب الهندي.. بداية الطريق

أيمن، وهو أحد شباب مدينة القصرين ممّن أدمنوا استهلاك مخدّر القنب الهندي (الزطلة)، قابلناه للحديث عن إدمانه للمخدرات منذ 11 سنة، وهو يرى أن سنوات الاستهلاك خلفت له أثرًا نفسيًا عميقًا قبل الأثر الجسدي. يذهب كل يوم إلى صديقه المكنى بـ"القعقاع"، وهو مروّج لمادة "الزطلة"، ليشتري منه بقيمة تقارب 10 دنانير.

يعتقد أيمن أنه لا خلاص له من الإدمان قائلًا: "لا يستطيع عقلي الصغير استيعاب حقيقة أنني قد أنجح في يوم ما من التخلص من إدمان الزطلة. إن درجة الحاجة إليها في نفسي ترفض استيعاب أنه يوجد أمل في التخلص من هذه الآفة، ولكن رغم ذلك فأنا أنتظر معجزة لاقتناعي بأنني لا أستطيع المواصلة".

أيمن (مدمن مخدرات): لا يستطيع عقلي الصغير استيعاب حقيقة أنني قد أنجح في يوم ما في التخلص من إدمان" الزطلة"

اليوم وحسب آخر الإحصائيات، لم تعد المخدرات حكرًا على فئة الشباب بل تجاوزت ذلك لتشمل أطفالًا في المعاهد والمدارس أيضًا. وقد كشف بحث تجريبي لإدارة الطب المدرسي والجامعي في وزارة الصحة حول "تعاطي التدخين والكحول بالمؤسسات التربوية"، أن 50 في المائة من تلاميذ المؤسسات التربوية بتونس جربوا مادة مخدرة علاوة على التدخين والكحول. وأظهرت ذات الدراسة أن 12 من بين 30 تلميذًا يتعاطون مادة "الزطلة" داخل المعاهد الثانوية والمدارس الإعدادية.

كيف تقاوم الدولة الإدمان؟

في إطار بحثنا حول ظاهرة الإدمان في تونس، وجدنا صعوبة في التعرف على مراكز مكافحة الإدمان بسبب عدم اعتمادها لاستراتيجية للتعريف بوحداتها ووظائفها ما جعل عديد الناس لا تعرف أصلًا بوجود هكذا مراكز. ومراكز مكافحة الإدمان هي مركز الملاسين الذي فتح أبوابه قبل سنتين، ومركز صفاقس لمعالجة الإدمان وهو المركز الوحيد المعالج وذلك إضافة للجمعية التونسية للإرشاد والتوجيه حول السيدا والإدمان.

عند زيارتنا لهذه الجمعية وجدنا صالح، منسق إداري، لا يزال بمكتبه المليء باللافتات التوعوية حول مخاطر الإدمان والسيدا. رجل قارب الخمسين من العمر، تجاعيد تحيط بعينيه وتختفي خلف نظاراته أعطت وجهه سنًا أكبر من سنه الحقيقي.

صالح (ناشط جمعياتي): نحن نتعامل مع فئة في المجتمع مهددة بالسجن لذا فعملية إقناعهم بزيارتنا أو حتى الحديث إلينا هي عملية صعبة للغاية

اختار صالح هذا العمل لوعيه بأهميته، مؤكدًا في حديثه معنا أن العمل مع المدمنين "خطير وحساس ويحتاج نفسًا طويلًا وصبرًا لتحقيق الأهداف معهم". ويضيف قائلًا: "نحن نتعامل مع فئة في المجتمع مهددة بالسجن لذا فعملية إقناعهم بزيارتنا أو حتى الحديث إلينا هي عملية صعبة للغاية".

ويقول محدثنا في تصريحه لـ"ألترا تونس" إن الجمعية تأسست عام 1992 وتضم اليوم أكثر من 4 فروع بما يغطي كامل الجمهورية، مشيرًا إلى أنها تفتح أبوابها لكل الحالات من جميع الأعمار.

وتحدث إلينا عن وجود تداخل بين السيدا والإدمان، وهو ما جعل الجمعية تختص فيهما معًا على اعتبار أن الإدمان قد يتسبب في نقل أمراض خطيرة مثل السيدا والتهاب الكبد الفيروسي، وفق تأكيده. وأضاف أن الجمعية خلصت في دراسة أنه يوجد ما يقارب 10 آلاف مدمن حقن المخدرات في تونس، مبينًا أن نصفهم يقطنون في العاصمة.

وأفادنا صالح أن الجمعية تعتمد استراتيجية المراحل في مكافحتها للإدمان، مشيرًا إلى السعي في مرحلة أولى للتقليل من خطر الإصابة بالأمراض الخطيرة المعدية وذلك عبر توزيع إبر نظيفة على المدمنين حتى لا يضطروا إلى استعمال إبر مستعملة وذلك بالاستعانة بـ"مربي نظير".

اقرأ/ي أيضًا: التدخين في تونس: من السّبسي إلى الشيشة الإلكترونية

بشير.. من مدمن إلى "مربي نظير"

بشير، أحد الذين وجدناهم في مركز "شمس" وهو أحد فروع الجمعية، قضى أكثر من 17 سنة في المهجر ثم عاد إلى تونس مدمنًا للمخدرات باستعمال الحقن. ست سنوات سوداء في عالم الإدمان، هكذا وصفها في حديثه معنا، مشيرًا إلى أن قراره بتغيير حاله أوجده في هذا المركز ليقضي فيه سنتين كاملتين قبل أن يتمكن من الإقلاع نهائيًا على المخدرات. يقول: "لقد عانيت كثيرًا، انقطعت عشرات المرات وعدت ولكن القناعة الدفينة بضرورة إنقاذ نفسي قادتني إلى سبيل النجاة".

وعن عمق الوجع النفسي والجسدي لإدمان الحقن، يتحدث بشير لـ"ألترا تونس": "لقد وصلت إلى نقطة كنت أظنها نقطة اللاعودة، كنت بائسًا وحزينًا ومتسخًا ولم أكن أبالي. كنت دائمًا في وضعية بحث عن المخدرات و حتى لو حصلت على جرعة فإن أثرها سريعًا ما يزول وأعود إلى البحث مرة أخرى. وأنا أبحث تجدني لا أبقي مكان في جسدي لا أهرشه. كانت أياما صعبة جدًا، أصبح جسدي مخربًا بالإبر ولا تزال علاماتها إلى الأن، بل أضطر أحيانًا جراء كثرة أماكن الإبر في جسدي لتغيير مكان الوخز".

بشير (ناشط جمعياتي كان مدمنًا للمخدرات): ما سببته لي المخدرات جعلني أتمسك بهذا النشاط الذي أحاول من خلاله إنقاذ ما يمكنني إنقاذه من الشباب قبل السقوط في فخ الإبر

اليوم يعمل الرجل الأربعيني كـ"مربي نظير"، وهي خطة أوجدتها الجمعية لتسهيل التعامل مع الشباب المدمن. وتقوم هذه الاستراتيجية على الاعتماد على المدمنين الذين إستطاعوا التخلص من الإدمان في إقناع المدمنين الآخرين على الخضوع للعلاج.

يحدثنا بشير عن عمله قائلًا: "ما سببته لي المخدرات جعلني أتمسك بهذا النشاط الذي أحاول فيه إنقاذ ما يمكنني إنقاذه من الشباب قبل السقوط في فخ الإبر" مشيرًا إلى أنه يتجول في جميع أنحاء الجمهورية لربط علاقات ثقة وصداقة مع المدمنين ليتمكّن من إعطائهم إبر نظيفة وجديدة في مرحلة أولى ثم محاولة إقناعهم بضرورة الخضوع للعلاج في مرحلة ثانية.

يفتح بشير بحماس محفظته ليخرج منها بعض الأوراق متابعًا حديثه: "هذا مثال لملف مدمن حيث نعوض الأسماء بأرقام. وأقوم بتعمير جميع المعلومات في صورة قبول المدمن للعلاج". ومن بين الأسئلة الموجودة في نموذج الملف سؤال "هل سبق إن استعملت إبرة مستعملة؟"، وإذا كان الجواب "بنعم"، تصبح حالة المدمن مستعجلة.

الإقلاع عن المخدرات.. أمر ممكن!

هيام بوكسولة، الإخصائية في الطب النفسي والكاتبة العامة للجمعية التونسية للإرشاد والتوجيه حول السيدا والإدمان والتي تعمل في مركز "شمس" منذ 8 سنوات، تعتقد أن الإدمان مشكل معقد جدًا خاصة وأنه يصنف كمرض مزمن.  تقول في حديثها لـ"ألترا تونس" إن مقر الجمعية يستقبل يوميًا الكثير من الشباب لتسلم حقن جديدة، موضحة أن الشباب يتحصلون على هذه الحقن بمجرد إعطاء إسم مستعار. وأضافت أن الجمعية تحاول من خلال هذه الاستمارات التعرف على عدد المدمنين.

وغالبًا ما يكون، في الأثناء، الشباب المهمش في الأحياء الفقيرة هم ضحايا إدمان المخدرات بدرجة أولى، يبدأ الأمر بسيجارة عادية ثم تعاطي الكحول بعد ذلك يأتي دور المخدرات أو ما يعبر عنه بـ"الزطلة" إلى أن يصل الشاب إلى مرحلة الحقن.

تؤكد بوكسولة، في هذا الجانب، على صعوبة التعاطي مع المدمنين "إقناعهم بأن هناك أمل في الإقلاع أمر صعب للغاية والحقيقة أنه يوجد فعلًا أمل للعلاج من الإدمان. ونحن نحاول من خلال جلسات العلاج على تقوية هذا الشعور بإمكانية الإقلاع عن المخدرات".

هيام بوكسولة (إخصائية في الطب النفسي): الإقلاع عن المخدرات أمر ممكن جدًا ولكن المحافظة على هذا الإقلاع من أصعب المراحل

وتعتبر الإخصائية في الطب النفسي أن أصعب العراقيل التي تواجه المدمنين المقبلين على العلاج هي نقطة العودة مبينّة أن المدمن ينجح بعد أشهر من العلاج في التغلب على حاجته للحقن "لكن المشكلة الكبرى في عودته لحياته الطبيعية، ففي أول لقاء مع أصدقائه ومع أول حقنة، ينسى أشهر العلاج ويطغى عليه إحساس بالفشل وهو ما يصعب علينا الأمور لاحقًا".

يُشار إلى أن أكثر من 20 بالمائة في المائة من مدمني الحقن بدأ إدمانهم قبل سن 14 عامًا وهو سن متقدم جدًا مقارنة بنوع المخدرات، وتفيد محدثتنا أن "السوبيتاكس" هو أكثر المواد استهلاكًا لأنه الأقل سعرًا والأخف عقوبة.

وتعتبر بوكسولة، في ختام حديثها، أنه من خلال تجربتها فالإقلاع عن المخدرات أمر ممكن جدًا ولكن المحافظة عليه من أصعب المراحل داعية إلى توجيه الشباب بعد الإقلاع نحو الإدماج والتشغيل.

تبقى ظاهرة إدمان المخدرات في تونس ظاهرة مستفحلة خاصة بالنظر للأرقام التي تكشف حالة الإحباط المتفشية داخل الأوساط الشبابية وارتفاع نسب الاستهلاك، لكن في مقابل لا نجد في تونس سوى مركز وحيد لعلاج الإدمان إضافة لبعض الجمعيات للتوعية وذلك في ظل غياب إستراتيجية وطنية واضحة لمكافحة هذه الظاهرة الخطيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع

تونسيون أدمنوا "العالم الأزرق" ثم غادروه دون رجعة