28-مارس-2024
فلوجة 2

تحوّلات في مسلسل فلوجة.. في الجزء الثاني (الحوار التونسي)

 

لا يزال  مسلسل فلوجة يحظى في موسمه الثاني بتفاعل واسع من قبل متابعيه، وبصرف النظر عن الأرقام والإحصائيّات والتقييمات العلميّة والانطباعيّة التي توحي ببعض التراجع في الإقبال، فإنّ مخرجة هذا العمل الفنّي سوسن الجمني قد تمكّنت من إثارة جدل واسع حول مسائل عديدة تتّصل بصورة التلميذ التونسي ومنزلة المربي، وتنفتح بدرجات متفاوتة على دور الولي والمؤسّسة الأمنيّة وغيرها من الأطراف ذات الصلة بمشاغل المراهقين وهمومهم.

لا يزال مسلسل فلوجة يحظى في موسمه الثاني بتفاعل واسع من قبل متابعيه، ولا شكّ أنّ فلّوجة أقرب ما يكون إلى "دراما المراهقين" الذي ما انفكّ جمهورها يتّسع من سنة إلى أخرى

لا شكّ أنّ فلّوجة أقرب ما يكون إلى "دراما المراهقين" الذي ما انفكّ جمهورها يتّسع من سنة إلى أخرى، ولعلّ ما يقوم دليلاً على ذلك إقبال اليافعين في تونس على المسلسلات الكوريّة والأمريكيّة التي تنتمي إلى هذا الصنف.

ويساهم موضوع مسلسل فلوجة ونوعه الدراميّ في تحديد خصوصيّة المتلقي للعمل من حيث الفئة الاجتماعيّة والعمريّة، وهو ما يمكن التحقّق منه من خلال التعليقات المبثوثة في الصفحات الخاصّة بهذا المسلسل على منصّات التواصل الاجتماعي.

ماهي أسباب التباين في تقييم مسلسل فلوجة؟ وهل ثمّة ما يفسّر تغيّر الانطباعات رفضًا وقبولاً من الموسم الأوّل إلى الموسم الثاني وبين حلقة وأخرى أحيانًا؟

وتحثّ هذه المعطيات على التساؤل عن أسباب التباين في تقييم هذا العمل الفنيّ، هل يرجع الأمر إلى الانزياح الجماليّ أو إلى المسافة الذوقيّة بين المتفرّجين، أم يعود إلى التباعد بينهم في المرجعيّات الثقافيّة والأخلاقيّة، وهل ثمّة ما يفسّر تغيّر الانطباعات رفضًا وقبولاً من الموسم الأوّل إلى الموسم الثاني وبين حلقة وأخرى أحيانًا؟

  • المسافة الجماليّة ودورها في تباين التقييمات

لئن كان "فلوجة" متمحّضًا من حيث التصنيف الدرامي لفئة المراهقين فقد بدا مفتوحًا على كلّ الأعمار صغارًا ويافعين وكبارًا، وقد ساهمت في ذلك عدّة عوامل نذكر منها اثنين، أوّلها انفتاح عالم المراهقين على أطراف أخرى منهم الأولياء والمربّون، فالتداخل أمر لا فكاك منه، فيتحوّل التصنيف العمري حينئذ إلى عمليّة متعسّفة أحيانًا، فما يشغل الطفل والمراهق يشغل بالضرورة أمّه وأباه، وثانيها عرض العمل الفني ولم يقم أفراد العائلة عن طاولة الإفطار في رمضان وهو ما يجعله يدخل البيوت دون استئذان.

لئن كان "فلوجة" متمحّضًا من حيث التصنيف الدرامي لفئة المراهقين فقد بدا مفتوحًا على كلّ الأعمار صغارًا ويافعين وكبارًا، وقد ساهمت في ذلك عدّة عوامل، أوّلها انفتاح عالم المراهقين على أطراف أخرى

تفصل بين المتفرجين وفق هذين المعطيين مسافة قصيرة في قاعة الجلوس ومسافات ذوقيّة بعيدة في مستوى التلقي، فتمرّ اللقطة الحميميّة الواحدة فتوقع في النفوس ردود أفعال متباينة، فتستهوي الفتاةَ اليافعة وتشدّها إليها، وتُحرج الأم المحافظة، وتثير غضب الأب، فَيَهُمّ بتغيير القناة، لكنّة يلقى صدًّا من الأبناء، فينصرف متأفّفًا ساخطًا أو يبقى على مضض ممارسًا ألوانًا من الضغط والرقابة.

ويقول "ريّان" معلّقًا على مشهد عناق بين محمد مراد (kader/ كادار) ورنيم علياني (أمل) "اللقطة هاذي تْسببتلي (=تسبّبت لي) في فَكان تلفون وتسكير التلفزة وعركه مع العائلة".

 

تباين ردود الأفعال

 

ولمزيد تفسير التباين بين ردود أفعال المشاهدين، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الذاكرة الذوقيّة في المسلسلات التونسية قد نشأت نشأةً محافظة ساهم في تشكيلها عدد من الكتاب والمخرجون أهمّهم علي اللواتي وصلاح الدين الصيد في أعمال درامية من قبيل الخطّاب على الباب، ومنامة عروسيّة، وحسابات وعقابات، وقمرة سيدي المحروس، وقد قامت جماليّةُ هذه الأعمال على التشويق بفضل البناء التدريجي المحكم للأحداث والصراع بين شخصيّات تفرقها المصالح والقيم، وفي المقابل قامت جماليّة "فلوجة" على المشاهد الفُجائيّة والمواقف القائمة على تخييب التوقّع وإثارة الدهشة وعامل المفاجأة.

الذاكرة الذوقيّة في المسلسلات التونسية نشأت نشأةً محافظة ساهم في تشكيلها عدد من الكتاب والمخرجون أهمّهم علي اللواتي وصلاح الدين الصيد وقامت جماليّةُ أعمالهم على التشويق بفضل البناء التدريجي المحكم للأحداث

  • من إثارة التشويق إلى إثارة الدهشة

يمكن إقامة الدليل على المفاجآت والصدمات من خلال ثلاثة مشاهد على الأقلّ حضرت في فاتحة الجزء الثاني، أولّها تمثّل في نيل "قادار" مروّج المخدّرات حكمًا بعدم سماع الدعوى بعد اتهامه باغتصاب قاصر ممّا تسبب لها في الحمل، رغم دعم هذه القضيّة بمؤيّدات قويّة منها تحليل ADN، ولرفع الدهشة عن المتلقّي تمّ تبرير ذلك بعمليّة تزوير، تجلّت في مشهد وجيز جدّا خاطف تمثّل في أموال قدّمها الجاني لإطار شبه طبّي.

الصدمة الثانية أو الصدفة تعلّقت بتعيين ابراهيم (نضال السعدي) الأستاذ ذي الملمح السلفي للعمل بنفس المعهد ونفس الفصل الذي تدرس فيه رحمة (رحمة بن عيسى)، وكان قد آواها في بيته حينما هجرت عائلتها بعد تعرضها لحادثة اغتصاب، ثمّ تزوّجها صوريًّا ليرفع عنها الحرج الأخلاقيّ وطلّقها في وقت وجيز، تجسدت المفاجأة في ردّ فعل الشخصيتين لمّا التقيا في أوّل حصّة من السنة الدراسيّة.

جماليّة مسلسل فلوجة تقوم على المشاهد الفُجائيّة والمواقف القائمة على تخييب التوقّع وإثارة الدهشة وعامل المفاجأة، ويمكن إقامة الدليل على المفاجآت والصدمات من خلال ثلاثة مشاهد على الأقلّ حضرت في فاتحة الجزء الثاني

الصدمة الثالثة بدت أقوى، وتجلّت في أوّل لقاء بين الأستاذة "نور" (سارة التونسي) والشرطيّ "شكري" (محمد علي بن جمعة) أمام منزلها وداخله، فكشفت عن علاقة مودّة وتعاون بعد عداء في الجزء الأوّل، اللافت أنّ هذا المشهد لم تسبقه مقدّمات تساهم في توضيح ملابسات التحوّل من النقيض إلى النقيض، فنهض الحوار بينهما في فكّ لغز التحوّل.

المفاجأة وتخييب التوقّع تجلّى في حوادث عديدة أخرى في بقيّة الحلقات منها ردّ فعل والد رحمة الذي لاذ بالحزن وأدمن الكحول وحمّل ابنته الضحيّة مسؤوليّة ما تعرّضت له وطردها من البيت، كما تواصلت الأحداث غير المتوقّعة من خلال تمسّك "أمل" التلميذة المتفوقة بالشاب "قادار" ووقوعها فريسة السذاجة والإغواء العاطفيّ رغم معرفتها بانحرافاته.

فلوجة

 

أمّا الأستاذة "نور" (الممثلة سارة التونسي) فقد تجلّت من خلال مسيرتها جلّ المفاجآت الصادمة آخرها انتقالها للعمل في الريف لتنجو من الحب العُصابي والتعلّق غير الطبيعيّ الذي جعل تلميذًا مراهقًا يتجرّأ على محاصرتها ومحاولة اختطافها، وتواصل سلوكها غير المتوقّع في تعمّدها إنكار ما تعرّضت له من تهديدات واعتداءات إجراميّة صادرة عن والد إحدى تلميذاتها، فتتمكّن من كسب وده كما فعلت مع الشرطي والد "نوح" كأنّها تجسّد مقولة "أحسن إليهم تستعبدهم".

لم تراهن سوسن الجمني نصًّا وإخراجًا على بنية الأحداث في تتابعها وتناسقها بقدر ما راهنت على طبيعة الأحداث وقوّة تأثيرها، فهي لا تحرّك في المتلقّي ذائقة التشويق وإنما تحرّك فيه مشاعر الصدمة والدهشة والاستغراب

وتتواصل الأحداث القائمة في تتابعها على المفاجأة والعبث بتوقّعات المتلقّي من خلال شخصيّة البوليس (محمّد على النهدي) الذي تبيّن تورّطه في بيع المخدّرات وشخصيّة صديق "قادار" ظاهريًّا (نوردو) الذي خرج من السجن وأصبح مقرّبًا منه، فيتّضح لاحقًا أنّه أمنيّ في مهمّة سريّة لفكّ خيوط عصابة المخدّرات من جذورها.

  • المواعظ والأمثال.. هل تُكفّر سوسن الجمني عن ذنب أخلاقي؟

لم تراهن سوسن الجمنيّ نصًّا وإخراجًا على بنية الأحداث في تتابعها وتناسقها بقدر ما راهنت على طبيعة الأحداث وقوّة تأثيرها، فهي لا تحرّك في المتلقّي ذائقة التشويق وإنما تحرّك فيه مشاعر الصدمة والدهشة والاستغراب.

فقد المشاهد في الجزء الثاني من مسلسل فلوجة إيقاعه السريع، فناب السكون والشرود عن الحركة وقامت لقطات التأمّل والتألّم والبكاء الصامت على الصراع فعلاً وملفوظًا

وقد أثر ذلك في طبيعة المشاهد التي فقدت إيقاعها السريع، فناب السكون والشرود عن الحركة وقامت لقطات التأمّل والتألّم والبكاء الصامت على الصراع فعلاً وملفوظًا، بل إنّ الخروج من السكوت إلى الكلام لم يكن في الكثير من المواقف مشحونًا بحرارة الحجاج والسجال بقدر ما كان مُثقلاً بالحكم والمواعظ على ألسنة الكثير من الشخصيّات، وخاصّة على لسان مديرة المعهد (نعيمة الجاني) وأستاذ الفيزياء "إبراهيم" (نضال السعدي) ووالدة رحمة (ريم الرياحي)، فها هي تلوم زوجها على تقصيره معها وإعراضه عن القيام بواجبه زوجًا وأبًا، فتلقي المواعظ والأمثال منهيةً كلامها بقولها في نبرة حكميّة "ناس بكري (القُدامي/ الأجداد) قالوا، طول العشرة يعرّفك الذهب من القشرة"، وفي أسلوبها ما يوحي بأنها توجّه الكلام إلى سائر الأزواج والآباء. ولا تمرّ حلقة من المسلسل إلا وقد شحنتها سوسن الجمني بمشهد أو أكثر يتضمّن دروسًا ونصائحًا.

الخطاب الوعظي

 

وتتواصل النغمة الوعظيّة خاصّة من خلال كلام مطوّل دام ثلاث دقائق كاملة تضمّن حوالي 130 كلمة، ألقته "رحمة" فيما يشبه التيرادة المسرحيّة يتضمّن تأنيبًا لكلّ من تُخوّل له نزواته الإقدام على الاغتصاب وتدعو الضحيّة إلى الإسراع بالتظلّم عبر السبل القانونيّة، فتقول مخاطبة "قادار" بإيقاع حزين بطيء جنائزيّ: بابا بين حياة وموت، شكون السبب؟، أنتِ.. قداش قعدت معاي نصف ساعة؟ ساعة؟، إنت عملت فيها جَوْ أما أنا النصف ساعة هذيكَ حطمتلي حياتي لْكُلْ، سْبعطاشْ سنا عمري وأنا حبله في الحرام، تْوقفتْ، تْمرمدت في المراكز، أمي مِ الغزُّولْ حبت تقتلك وشدّتْ الحبس، وبابا وَلَّى غاطس في الشْراب ثمَّاش ما ينسى الفضيحه، وُصلوا للطلاق، وتوه وْصُلْ للموت، رِيت روحك أش عملت فينا؟ أنت حطمتنا وقتلتنا عايله كامله، إنت قتلت كل حاجه باهية في حياتي، أما ماكش وحدك غالط، أنا زاده غلطت، أنا غلطت نهارت اللي ما تكلمتش وشكيت بيك بالوقت، أما مايْسالش صحيح حقّي ضيعتو أما يجي نهار ناخذو منك.. وتُواصل رحمة مخاطبة المغتصب "نْفَيّق فيك، (= أنصحُك) أنا جيتك اليوم وحكيتلك هذا لكل، باش نهار آخر كي تْخمم تعاود غطلتك مع طفله أخرى، اتذكر كلامي، تذكر اللي ثمه عايلة أخرى تنجم تموت.

يعدّ المسلك الوعظي في مسلسل فلوجة في ذاته تخييبًا للتوقّع، لا أقصد التوقّع الذوقيّ العامّ إنّما أقصد "العقد الذوقيّ" غير المعلن بين سوسن الجمني وسامي الفهري وجمهورهما في أعمال درامية سابقة، فقد ألف المتفرّجون حرص هذا الثنائي معًا أو كل بمفرده على دفع المراهقين إلى التعلّق بشخصيّة "البطل الآثمّ"  هذا شأنهما في أولاد مفيدة والفوندو وبراءة وغيرها من الأعمال التي وجدت انتشارًا ذوقيًّا واسعًا وصدًّا أخلاقيّاً حادًّا جعل هذين المخرجين مضرب الأمثال في عبارات من قبيل "هذا ما جناه علينا سامي الفهري وسوسن الجمني"، ويتردّد ذلك على الألسنة كلّما تمّ التطرّق إلى انحرافات المراهقين وبعض الجرائم الخطيرة في الواقع من اغتصاب وحمل خارج الأطر الزوجيّة وبيع مخدّرات وتعنيف للمربّين وتطاول على الأولياء.

ألف المتفرّجون حرص الثنائي سوسن الجمني وسامي الفهري معًا أو كل بمفرده على دفع المراهقين إلى التعلّق بشخصيّة "البطل الآثمّ"  وهذا شأنهما في أولاد مفيدة والفوندو وبراءة وغيرها من الأعمال

إنّ تعمّد سوسن الجمني شحن مسلسل فلوجة في جزئه الثاني بالمواعظ والأمثال يدعو إلى التساؤل، هل ساهم ذلك في الحدّ من القيمة الجماليّة الفنيّة للعمل، وهل كان هذا الاختيار حرًّا عفويًّا صادرًا عن إرادة المخرجة صاحبة السيناريو أم بسبب ردود الفعل الأخلاقيّة والقطاعيّة الساخطة المندّدة التي صدرت في بداية عرض هذا المسلسل في موسمه الأوّل؟