01-فبراير-2019

على المجتمع الوعي أن الشعور بالحب أمر طبيعي بل وجميل أيضًا (صورة تقريبية/ كريستيان فياريغ/ Getty)

 

مقال رأي

 

لم يكن الجدل الذي سبق التقرير الاستقصائي "Amour et sexe au Maghreb" (الحب والجنس في المغرب العربي)، ورافقه بل تواصل أيامًا بعد بثّه على قناة "M6" الفرنسية الأحد 27 جانفي/ كانون الثاني 2019، أمرًا مستغربًا أو حدثًا غير متوقع أو منتظر. فكلمة "جنس" لوحدها كفيلة، في مجتمعاتنا العربية عمومًا ومجتمعنا التونسي خصوصًا، لإشعال حروب افتراضية ونزاعات أهلية قد تصل أحيانًا حدّ النعت بالفسوق والخروج عن تعاليم الدين.

ما جاء في التقرير الفرنسي يعكس بدرجة أولى التناقض التونسي أو ربّما انفصام شخصية التونسي في أبهى تجلياته

اقرأ/ي أيضًا: رتق غشاء البكارة.. جدل بين التونسيين بعد بث وثائقي فرنسي

فكيف إذا ما اجتمعت كلمات "الحب" و"الجنس" و"غشاء البكارة"، في مكان واحد. إنها كارثة وطنية أو ربما لعنة إلهية حلّت علينا كعقاب لما يفعله البعض منا. هذا الثالوث في حضارات نجحت في تجاوز معتقداتها البالية يعدّ سرًا من أسرار قداسة الحياة وجمالها، ولكنه في مجتمعنا يعدّ الثالوث المحرّم الذي سيقودنا بالسلاسل إلى نار الجحيم ويجعل بلادنا تعاني الأمرين كعقاب إلهي لاقترافنا جريمة الحب.

وبالرغم من تعدّد التأويلات والقراءات للتقرير الفرنسي الذي تناول الجنس والحب في تونس والمملكة المغربية، ومحاولة توجيه النظر إلى كيفية تناوله للموضوع ودوافعه وأسبابه، فقد نجح التقرير في فضح عقلية ذكورية بطريركية تطغى على مشهد مجتمعي يعيش ضياعًا بين رغبته في ممارسته حريته الجنسية والجنسانية وتقيّده بالعادات والتقاليد.

التقرير تضمّن عديد المشاهد التي وإن ادعى كثيرون صدمتهم منها، فقد سلّطت الضوء على علاقة التونسي بالجسد أولًا ومن ثمّ بالمرأة والحب والجنس، ولعلّ أبرز هذه المشاهد التي بقيت عالقة في أذهان العديدين ما قالته والدة فتاة تونسية مقبلة على الزواج، بخصوص التأكد من ما وصفته بـ"شرف" ابنتها ليلة الزواج، أو ما صرّح به شاب تونسي جالس في مقهى عندما أكد أنه لن يتزوج فتاة "2eme main"، أي سبق أن أقامت علاقة جنسية مع شخص آخر، وإن كان يمنح نفسه حق إقامة علاقات جنسية متعددة ويمنعها عن المرأة.

فهمنا لأجسامنا سيفتح أمامنا آفاقًا جديدة تتعلّق بفهمنا لجنسانيتنا

ما جاء في التقرير يعكس بدرجة أولى التناقض التونسي أو ربّما انفصام شخصية التونسي في أبهى تجلياته، التونسي بمختلف أفراده الذي يمكّن الذكر من إثبات فحولته من خلال تعدّد علاقاته الجنسية أولًا وثانيًا عندما تُثبت عذرية الفتاة التي سيتزوجها، فسيّد في فحولة الرجل التونسي لا يمكن أن يقبل امرأة سبق لها أن شاركت سرير غيره. هو لن يبحث في المرأة التي سيتزوجها عن شريكة وصديقة تسنده إزاء صعوبات الحياة، ولكنه يبحث عن "أنثى" يقال عنها إنها "شريفة" لم يسبق أن لمسها رجل، وسيكون من الأفضل إن لم تكن قد أحبّت أي شخص قبله، حتى لا يُمس في ما يعتقد أنها رجولته.

هذه المعضلة والعقلية المسيطرة على المجتمع التونسي، رغم وجود بعض الاستثناءات النادرة، تطرح بشدة ضرورة معالجة علاقاتنا مع ثلاث محاور رئيسية لا يمكن أن تكتمل الحياة، أو عيش الحياة كما ينبغي، دونها، وهي الجسد، الحب والجنس.

اقرأ/ي أيضًا: هل تبيح عدم عذرية الزوجة طلب الطلاق لدى المحاكم التونسية؟ (تحليل قانوني)

في بادئ الأمر، نظرتنا إلى أجسادنا تحتاج إلى تغيير جذري ينطلق من خلال إدراك أهمية الجسد وتأثيره على كيفية تفكيرنا وفهمنا للأمور. بداية لا بدّ أن نفهم أجسادنا، أن لا نخشى النظر في المرآة عراة وأن نحفظ عن ظهر غيب ما يتميّز به، أن نفهمه ونتعلّم الإصغاء إلى ما يطلبه منا عوض احتقاره بتعلّة أن الجسد لا يساوي شيئًا مقارنة بالروح. فالفيسلوف الألماني نيتشه يقول على لسان "زارادشت"، "إنني بأسري جسد لا غير.. هذا الجسد لا يتبجّح بكلمة أنا لأنه هو أنا بالفعل". هذا المنطق يؤكده المفكر المغربي سعيد ناشيد في كتابه "التداوي بالفلسفة" عندما يكتب "أسلوب تفكيرنا ثمرة كلّ الخبرات التي تتعرّض لها أجسادنا في الحياة اليومية، من خبرات حسية وحركية وغذائية ونفسية وعصبية وتواصلية إلخ. لا يوجد عقل مقابل الجسد، لا يوجد جسد مقابل العقل، بل جسدك هو عقلك كما يقول نيتشه".

فهمنا لأجسامنا سيفتح أمامنا آفاقًا جديدة تتعلّق بفهمنا لجنسانيتنا، فنحن غير قادرين على استيعاب ما يختلج المرء من مشاعر وأحاسيس جنسية دون أن ندرك جسدنا، وهنا تبرز الحاجة الملحّة للتربية الجنسية التي أصبح غيابها أحد أبرز أسباب تفشي الجهل والعنف الجنسي. فالخجل من الجسد وبالتالي من المسائل الجنسية المرتبطة به يجعل آباء وأمهات يعجزون عن الإجابة على أشهر سؤال قد يطرحه الطفل "كيف جئت إلى هذا العالم؟".

 نحن اليوم نحتاج إلى صفعة، أو ربما صفعات، علّ مجتمعنا الذكوري العزيز يعي أخيرًا أن الأجساد هي ملك لأصحابها 

وإزاء غياب المعلومة الجنسية من مصادر علمية دقيقة، تصبح المعلومات المتداولة والمتاحة بسهولة للأطفال اليوم، هي مصدر الناشئة في بحثهم عن إجابة مقنعة لتساؤلهم الحارق. وهذه المعلومات في معظمها تكون مغلوطة وإما مبنية على معتقدات سخيفة أو على الأفلام الإباحية.

وربما، عندما نصل إلى مرحلة ما في يوم ما (نرجو أن لا يكون بعيدًا جدًا)، نكون فيها قد تصالحنا مع أجسادنا وأدركنا أهمية التربية الجنسية، سيقتنع هذا المجتمع المتزمت الذي مازال يعيش على أطلال شرف "غشاء البكارة"، أن الشرف ليس في تلك القطعة البسيطة التي يمكن أن تزول بسبب حادث بسيط جدًا أو ربما قد تخلق الفتاة من دون غشاء أصلًا أو بغشاء مطاطي، ربما سيقتنع حينها الذكر التونسي أن بطولاته وملحماته "الوهمية" ليست على فراش ينبغي أن يشاهد فيه قطرات من الدم كي يقتنع بشرف من يُفترض أنه اختارها شريكة لحياته.

هذا الافتراض، الذي يبقى حلمًا صعب المنال، قد يكون خطوة أولى في تغيّر نظرة المجتمع للعلاقة الجنسية بين حبيبين. فما دام هذا المجتمع المنغلق على أمراضه النفسية مازال يعتبر الحب جريمة وممارسته كارثة وطنية – بالنسبة للفتيات طبعًا – ويدين من يقع في الحب، فلا يمكن أن نتحدث عن بناء مجتمع سليم لا يخاف مشاعره فيخبئها ويعوضها بأحاسيس يحاول من خلالها التغلب على خوفه، فتنتج كراهية الجنس الآخر والإساءة إليه والعمل على التقليل من شأنه (خاصة إذا كان هذا الأخر امرأة). فالحب، وإن اختلف الفلاسفة في تفسيره، بين من يعتبره ضرورة طبيعية ومن يرى ضرورة تحريره، يبقى لغزًا محيرًا ولكنه لغز جميل من شأنه أن يمنح من يشعر به الإحساس بأنه قادر على مواجهة العالم، ويبقى سببًا من الأسباب التي تزيّن الحياة برغم كلّ ما يمكن أن يصاحبه من حزن وألم وخيبات، فهو شعور عارم إنكاره ودفنه هو الجريمة الحقيقية.

أما ممارسة الحب، أو الجنس، فعندما تكون بين حبيبين بلغا سنّ الرشد، وبرضا كلّ منهما، فلا يمكن لها إلا أن تعبّر عن التقاء جسدين وروحين في جسد واحد كي يصبحا روحًا واحدة، وعلّها تكون إحدى لحظات الالتقاء النادرة والأكثر قدسية.

أما تجريمها فهو لا يعكس سوى نظرة متخلفة لا ترى في هذه العملية أكثر من إجراء طبيعي ضروري لمواصلة التكاثر وضمان استمرار البشرية. لهذا نحن اليوم نحتاج إلى صفعة، أو ربما صفعات، علّ مجتمعنا الذكوري العزيز يعي أخيرًا أن الأجساد هي ملك لأصحابها لهم حرية التصرف فيها كما يشاؤون، وأن الفرد له أن يعيش بالشكل الذي يراه مناسبًا له في كنف احترام حرية غيره دون أن يكون عرضة لضغوط تفرضها تقاليد بالية، وأن الشعور بالحب أمر طبيعي بل وجميل أيضًا، وأن المرء له أن يختار الزواج من عدمه.. وأن الفرد له أن يختار الحياة التي يريد أن يعيشها وله الحق في أن يعيش الحياة فعلًا، لا أن يعيش في أطر المسموح به والحلال والحرام.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس: الجنس متاح لمن استطاع إلى "اللّوكال" سبيلًا..

ضحايا الاغتصاب في تونس.. قصص الوجع الدائم