أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، هي تلك المسافة التي تفصل بين فلسطين وتونس. مسافة طويلة لم تمنع أن تكون تونس مقرًا لمنظمة التحرير الفلسطينية لقرابة 11 سنة من 1982 إلى 1993، حيث استضافت تونس زهاء 8 آلاف فلسطيني إضافة لقيادة المنظمة، وعلى رأسها أبو عمار وأبو جهاد وأبو اياد بعد الخروج القسري من لبنان. إنها فترة أوسلو، والتحولات الكبرى.
من بيروت إلى حمّام الشطّ
في الحرب الأهلية اللبنانية، وإثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان صيف 1982، صمدت منظمة التّحرير في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلي، لكن لم يكن هناك مناص من مغادرة لبنان. في لبنان بعد مغادرة المنظمة، وقعت مجازر رهيبة بحق الفلسطينيين من الإسرائيليين. ولم يكن خيار التوجّه نحو تونس خيارًا سهلًا، تونس ليست من دول الطّوق، ولا يمكن من هناك مواصلة الكفاح المسلّح ضد الاحتلال. ولكنّها لم تكن إلا الخيار الممكن والأنسب في ظلّ التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط حينها. وقد كانت تونس حينها مقرًا لجامعة الدول العربية بعد اتفاقية كامب ديفيد المرفوضة عربيًا آنذاك.
ولم يكن استقبال الدولة التونسية بدون تزكية دولية ودون شروط. حيث تمثل تونس إحدى أهم حلفاء المعسكر الغربي حينها في العالم العربي، ولم يكن من الممكن أن يكون استقبالها لمنظمة التّحرير الفلسطينية بدون تزكيته وموافقته وتحديدًا الولايات المتّحدة وفرنسا. وهو ما أكّده لاحقًا مدير الأمن التونسي السابق أحمد بنّور. وفي هذا السياق، يقول العارفون إن فيليب حبيب المبعوث الخاص للرئيس ريغان هو من اقترح تونس كمأوى لمنظمة التحرير الفلسطينية.
من جانب آخر، اشترطت الدولة التونسية على القيادة الفلسطينية عدم التدخّل في الشأن الداخلي التونسي، وربما يعود ذلك لحالة التوتر والتي بلغت حدّ الانفجار في الدولتيْن السابقيْن اللتيْن احتضنتا المنظمّة، الأردن ولبنان. كما تم الاتفاق بين قيادة المنظمة والدولة التونسية على مراقبة دخول الأسلحة الفلسطينية وتسجيلها وهي أساسًا أسلحة فردية. كما كانت الحراسة مشتركة تونسية-فلسطينية لحماية مقرّ القيادة في مدينة حمام الشطّ.
فيليب حبيب المبعوث الخاص للرئيس ريغان هو من اقترح تونس كمأوى لمنظمة التحرير الفلسطينية
وقد تَحدّد مقرّ قيادة المنظّمة في مدينة حمّام الشطّ وهي مدينة صغيرة على ساحل الضاحية الجنوبية للعاصمة، فيما وُضعت قوات جيش التحرير الفلسطيني في معسكر في وادي الزرقاء (62 كيلومترًا غرب العاصمة تونس). وقد لقي احتضان آلاف الفلسطينيين إضافة لقيادات المنظّمة حفاوة شعبية عارمة. كما كانت وسيلة بورقيبة زوجة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، من أهم الشخصيات التي شجعت احتضان بلادها للفلسطينيين وعملت على دعمهم ومساعدتهم بحكم حجم تأثيرها الكبير على الرئيس، وهو أمر يشهد له التاريخ التونسي المعاصر في أكثر من مناسبة.
مسلسل اغتيال القادة
لم يكن صباح الثلاثاء 1 أكتوبر/تشرين الأوّل 1985 عاديًا في حمّام الشطّ، حيث كانت المدينة الساحلية الهادئة في الضاحية الجنوبية للعاصمة، عند الساعة العاشرة صباحًا تحديدًا، في مرمى صواريخ ثماني طائرات إسرائيلية. حيث قام سلاح الجوّ الاسرائيلي باستهداف مقرّ قيادة منظمة التّحرير أو ما كان يُعرف بمقرّ عرفات، بوابل كبير من القنابل في عمليّة اسماها "الساق الخشبية". وكانت تستهدف اجتماعًا للقيادات العسكرية للمنظّمة. بيد أن الإجتماع تقرر قبيل العملية لعدم تمّكن عدد من الضباط من الوصول إلى تونس بسبب حجوزات الرحلات الجوية. كما لم يكن عرفات موجودًا في مقرّه. ولو نجحت العملية حينها في تحقيق أهدافها، للقي جميع القيادات العسكرية للمنظّمة مصرعهم فيما كانت ستكون أكبر ضربة لمنظمة التحرير.
وقد أدّت العملية بمحصّلتها، حسب تقرير السلطات التونسية المقّدم للأمم المتحّدة، إلى استشهاد 50 فلسطينياً و18 مواطناً تونسياً وجرح 100 شخص، وخسائر مادية قدرت بـ (5.821.485 دينارًا تونسيًا، أو 8.5 ملايين دولارًا أمريكيًا). وكشفت هذه العملية عن اختراق الموساد لصفوف المنظّمة بالموازاة مع هشاشة منظومة الدفاع الجوّي التونسي. وقد أعلنت إسرائيل مباشرة إثر تنفيذ العملية عن مسؤوليتها عنها، بالوقاحة المعروفة عنها دائمًا. في المقابل، قام الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة باستدعاء السفير الأمريكي لإبلاغ احتجاجه. وقامت الخارجية التونسية برفع شكوى لدى مجلس الأمن، استطاعت تونس عبر قنواتها الديبلوماسية إقناع الولايات المتحّدة بعدم استعمال حق النقض الفيتو لإسقاط قرار الإدانة. وهو قرار أدان العملية، دون إدانة صريحة لدولة "إسرائيل"، من دون إشارة للهدف المستهدف وهو مقرّ القيادة الفلسطينية. وقد اعتبرت الحكومة التونسية هذا القرار نصرًا دبلوماسيًا لها. أما الإسرائيليون، فلم يكترثون للأمر.
ولم تكن لتندمل جراح مجزرة حمام الشطّ حتى تلقّت منظمة التحرير ضربة موجعة باغتيال القائد خليل الوزير الملقب بأبو جهاد في ابريل/نيسان 1988. حيث قامت فرقة كوماندوس قدمت عبر زوارق بحرية باقتحام المنزل الذي يقيم فيه أبو جهاد في مدينة سيدي بوسعيد، في الضاحية الشمالية للعاصمة، واغتالته رفقة حرّاسه. ووفق تقرير نشرته صحيفة يديعوت احرونوت نهاية 2012 بعد رفع الرقابة العسكرية لحظر النّشر، فقد ضمت القوات الخاصة التينفذ عملية الاغتيال 26 فردًا من بينهم الوزير وقائد الأركان السابق موشيه يعلون. وقالت أم جهاد في شهادتها إن عناصر الكوماندوس أفرغوا رشاشاتهم في جسده الذي تلقى زهاء 70 رصاصة، وهو ما يعكس حالة النقمة وراء اغتيال الرّجل الذي يُعرف بأنه مهندس انتفاضة 87 التي لم تُخمد باستشهاد أحد رجالها الأبطال.
كان موشيه يعلون من ضمن فرقة الكوماندوس التي اغتالت أبو جهاد في مكان يبعد كلم واحد عن القصر الرئاسي التونسي
ولم يقف مسلسل الاغتيالات عند أبو جهاد، ففي 14 يناير/ كانون الثاني 1991 تم اغتيال 3 قادة من المنظمة هم صالح خلف المكنى بـ"أبو اياد" وأبو الهول وفخري العمري على يد العميل حمزة أبو زيد، أحد عملاء مجموعة أبو نضال. وقد حمّلت منظمة التحرير الموساد عملية الاغتيال. وقد وجّه المرافق الخاص لأبو إياد لاحقًا أصابع الاتهام للرئيس الليبي السابق معمر القذافي، في الوقوف وراء العملية. وقد سلّمت السلطات التونسية منذ العملية لمنظمة التحرير التي نقلته لليمن لإحدى مخيّماتها حيث تمّ التحقيق معه وإعدامه.
بن علي والموساد
وفي سنة 1987 وبينما كان العالم يترقّب نهاية الحرب العراقية الإيرانية وحينما كانت تونس تعيش انقلابًا قاده بن علي ضد بورقيبة، اندلعت في هذه السنة الانتفاضة الفلسطينية الكبرى والتي أعادت تموقع الملف الفلسطيني/الإسرائيلي على رأس الأجندة العالمية في منطقة الشرق الأوسط. وقد أعلنت منظّمة التحرير من الجزائر في السنة الموالية استقلال فلسطين وتحديدًا في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1988. وقد تكثفت إثر ذلك المبادرات والمجهودات الدولية والإقليمية لإيجاد حلّ للقضية المعقدة في المنطقة. وبالموازاة مع ذلك، صعدت بقوّة حركة المقاومة الإسلامية حماس من خارج رحم منظمة التحرير التي بدأت تفقد حصرية تمثيلها للفرقاء السياسيين وللفلسطينيين عمومًا.
وقد تزامن وجود منظمة التحرير في تونس مع أزمات عديدة عاشتها البلاد منها أحداث الخبز سنة 1984 وحالة الانهيار الاقتصادي وثم انقلاب 7 نوفمبر 1987 الذي أطاح بالرئيس بورقيبة ومن ثمّ بداية سنوات الجمر ضد المعارضة. فبعد رحيل مزالي وهو الوزير الأول التونسي في النصف الأول في الثمانينات ومن ثمّ انقلاب بن علي سنة 1987، لم تحافظ العلاقات بين السلطات التونسية والمنظمة على نفس حرارتها، وهو ما ذكره أبو اياد لأحمد بنّور مدير الأمن التونسي السابق حينما أسرّ الأول له حينها بأن السلطات التونسية لم تعد تستقبل القيادة الفلسطينية وتحتفي بها. وفي هذا الإطار، تذهب عدة أطراف في اتجاه تأكيد تورّط الرئيس بن علي في التعامل مع الموساد في عملية اغتيال أبو جهاد خاصة، إذ أن اقامته لا تبعد إلا كيلومتر واحدا عن القصر الرئاسي. وقد عاد ملفّ تورّط نظام بن علي في التعامل مع الموساد للسطح بقوّة إبان الثورة التونسية.