10-أكتوبر-2023
مبنى مدينة الثقافة في تونس مزينًا بالعلمين التونسي والفلسطيني

مبنى مدينة الثقافة في تونس مزينًا بالعلمين التونسي والفلسطيني (ياسين القايدي/الأناضول/Getty)

مقال رأي 

 

والحرب في فلسطين وما جاورها تتجه للاتساع بعد الهجمات غير المسبوقة التي شنتها قوات حماس ضد المستوطنات والمعسكرات الإسرائيلية، يبدو واضحًا أن الفرز القديم الذي كاد أن يخبو بين أنصار قضية فلسطين وأنصار التطبيع مع الكيان الصهيوني يشهد ترسيخًا جديدًا. يأتي ذلك في ظرف مضى فيه التطبيع خطوات كبيرة مشرقًا ومغربًا، ما يضع حدا لتطوير المحاولات الجارية، ويعزل بنجاعة كبيرة إسرائيل مجددًا عن محيطها العربي.

الهجمات غير المسبوقة التي شُنت ضد المستوطنات والمعسكرات الإسرائيلية تضع حدًا لتطوير محاولات التطبيع الجارية وتعزل بنجاعة كبيرة إسرائيل مجددًا عن محيطها العربي

ما هي قيمة أي موقف سياسي تتخذه دولة عربية كتونس وتعلن فيه وقوفها مع الفلسطينيين دون "رغم" و"لكن" و"ربما"؟

قيمة كبيرة، لأن تكالب "العالم المتحضر" ضد الفلسطينيين سيعلو ويشتد، وسيكونون في حاجة شديدة لمن يقول إنه معهم، يساندهم، ويقف معهم، حتى على بعد آلاف الأميال من تراب فلسطين. أعتقد أن موقف تونس الذي عبر عنه قيس سعيّد بكل الوضوح الممكن منذ اليوم الأول للمعركة يلبي الآن هذه الحاجة، بل إن هناك قيمة مضاعفة لهذا الموقف، وهو استناده إلى تعاطف شعبي جارف من قبل التونسيين مع قضية فلسطين، تلك القضية الداخلية التونسية الكبرى.

 

لا يحتاج المكافحون من أجل حريتهم فقط إلى الأسلحة والعتاد، فهم يحتاجون لمن يساندهم ويشد عضدهم حتى بالكلمة والموقف. لم تشذ أي حركة تحرر عن ذلك أبدًا، مهما كان عنفوانها ومهما كدست أو تسنى لها من إمكانيات عسكرية. هذا دور مواقف المساندة التي تطلقها دولة ما تشعر أن القضية قضيتها، ومن قديم الزمان.

ما هي قيمة أي موقف سياسي تتخذه دولة عربية كتونس وتعلن فيه وقوفها مع الفلسطينيين دون "رغم" و"لكن" و"ربما"؟.. قيمة كبيرة، لأن تكالب "العالم المتحضر" ضد الفلسطينيين سيعلو ويشتد

يكفي النظر إلى الدول  "المتحضرة" والأقل تحضرًا الأخرى البعيدة عن مسرح المعركة والتي أعلنت مساندتها المطلقة للكيان الصهيوني، وتلك التي أعلنها إعلاميون ومثقفون غربيون لإسرائيل، بالرغم من علمهم بأنها دولة عنصرية ظالمة تقتل النساء والأطفال حتى خارج الحرب. يقع إطلاق هذه المواقف للقول إن إسرائيل اليوم غير معزولة عن أصدقائها، وإنهم يقفون معها في هذه الظروف الصعبة. ربما لن يرسلوا لها شيئًا من عتاد أو ذخيرة، ولكن المساندة المعنوية تفعل أحياناً أكثر من العتاد والذخيرة. إنها تشحن القوة المعنوية التي يخوض بها المقاتلون حروبهم، وتعطيهم دفعًا أخلاقيًا يقول لهم إنهم مظلومون، وإننا نشعر معهم بنفس الظلم وكأنه مسلط علينا، وإننا لن نصدق أبداً ما يقوله أعداؤهم وأصدقاء أعدائهم.

هذا ما يبدو أن معارضي قيس سعيّد لا يولونه اليوم ما يستحق من قيمة. بالنسبة للكثير منهم، لا يمكن أن تساند فلسطين وأنت تقمع معارضيك. أخلاقيًا، هذا أيضًا موقف صحيح. يقول آخرون إن قيس سعيّد لا يمكن أن يمنح شيئًا للفلسطينيين في معركتهم اليوم، وهذا بالاعتبارات المادية موقف لا يبعد كثيرًا عن الصواب. أخلاقيا أيضًا، لا يمكن أن تنتفض ضد ظلم بعيد وأنت تمارسه عن قرب وبطريقة مباشرة على مواطنيك، تلقي بهم في السجون دون محاكمة وتضطهدهم دون وازع من أخلاق أو قانون.

في نفس الوقت الذي كان قيس سعيّد يعلن مساندته للفلسطينيين، كان مناضل معارض له مثل جوهر بن مبارك ينقل إلى المستشفى بسبب انعكاسات إضراب الجوع الذي يخوضه منذ أيام عديدة. هذا سلوك لا يمكن أن ينبع من نفس كارهة للظلم

كل هذا كلام صحيح في مجمله، ذلك أنه في نفس الوقت الذي كان قيس سعيّد يعلن مساندته للفلسطينيين، كان مناضل معارض له مثل جوهر بن مبارك ينقل إلى المستشفى بسبب انعكاسات إضراب الجوع الذي يخوضه منذ أيام عديدة. هذه مأساة وسلوك لا إنساني لا يمكن أن ينبع من نفس كارهة للظلم. وبما أن الظلم هو نفسه حيثما كان وبغض النظر على من يقع تسليطه، فإن الأمر لا يمكن أن ينبع إلا من مزايدة سياسية هدفها تجديد شعبية قيس سعيّد على حساب الفلسطينيين وعلى حساب معارضيه أيضًا، في حين تمارس سلطاته اعتداءات قاسية على القضاة والمعارضين وكل من يشتم منه نشاط معارض لحكمه المطلق.

هل يمكن منع ذلك حقًا؟ هل يمكن لهذه "المزايدة" ألا تجري؟ وهل يمكن لضحايا الحكم الفردي والاستبداد القبيح ألا يعيشوا الظلم مضاعفًا في مثل هذه الظروف، عبر هذه "المزايدة"؟ أخشى أن ذلك غير ممكن، وأحسب أن اشتعال الأوضاع في فلسطين لا يمكن إلا أن يجعل مأساتهم تتراجع إلى مراتب اهتمام أخيرة لدى الرأي العام. من بيده شيء يفعله حيال ذلك اليوم؟ أخشى أن الإمكانيات محدودة وستزداد تقلصًا كلما ازداد الوضع اشتعالًا في فلسطين وما جاورها.

تاريخيًا، كانت قضية فلسطين، لأهميتها بالنسبة للوجدان التونسي، محل مزايدة مستمرة بين الحكام والمحكومين في تونس. كيف يمكن على سبيل المثال أن نفهم قرار بورقيبة بإرسال قوات إلى مصر وسوريا في 1967 (لم تصل هذه القوات أبدًا) في نفس الوقت الذي كان ينكل فيه بمعارضيه؟

تاريخيًا، كانت قضية فلسطين، لأهميتها بالنسبة للوجدان التونسي، محل مزايدة مستمرة بين الحكام والمحكومين في تونس. كيف يمكن على سبيل المثال أن نفهم قرار بورقيبة بإرسال قوات إلى مصر وسوريا في 1967 (لم تصل هذه القوات أبدًا) في نفس الوقت الذي كان ينكل فيه بمعارضيه؟ وكيف يمكن أن نفهم معارضة زين العابدين بن علي للموقف المدين للعراق غداة غزوه الكويت وهو يشرع في الوقت نفسه في الإعداد للمجزرة التي نعرف ضد معارضيه؟

في أحد وجوهها، تبدو هذه الوضعية واعدة بشيء مهم واحد على الأقل: أن أي حكومة في تونس لن تجرؤ يومًا على التطبيع مع الكيان الصهيوني. ربما كان الوضع مختلفًا لو لم يكن شخص كقيس سعيّد في الرئاسة اليوم، فقد كانت إسرائيل حاضرة بقوة في انتخاباتنا قبل أربع سنوات.

في تونس، نحن في صورة حكم ومعارضة يعتبران قضية فلسطين قضية وجدانية وأخلاقية صميمة، ويتصارعان بقوة فيما عدا ذلك كله. هذا بالضبط ما يحتاجه الفسطينيون منا اليوم: أن نتصارع على كل شيء، إلا على عدالة قضيتهم

لا شك عندي أن قيس سعيّد سيحسن استغلال انشغال العالم بالحرب التي انطلقت والتي تتوسع يومًا بعد يوم لاكتساح فضاءات جديدة وترسيخ حكمه الفردي، مثلما لا شك عندي أنه في بلدان أخرى لا تمثل فيها فلسطين ركن الوجدان الوطني، فإن المعارضين يلجؤون إلى أصدقاء الصهيونية للتغلب على خصمهم. هذا أمر لن يحصل في تونس أبدًا.

نحن ببساطة في صورة حكم ومعارضة يعتبران قضية فلسطين قضية وجدانية وأخلاقية صميمة، ويتصارعان بقوة فيما عدا ذلك كله. هذا بالضبط ما يحتاجه الفسطينيون منا اليوم: أن نتصارع على كل شيء، إلا على عدالة قضيتهم. 

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"