19-يوليو-2023
مسرحية مايراوش مهرجان الحمامات الدولي

مسرحية "ما يراوش" كسرت الصورة النمطية بأنّ فن العرائس موجه للطفل دون سواه واقتحمت عالم الشباب والكهول (الصفحة الرسمية لمهرجان الحمامات)

 

ضمن سهرة الثلاثاء 18 جويلية/يوليو 2023، أعادنا مهرجان الحمامات الدولي إلى الثوابت الأولى التي من أجلها بعث المهرجان منذ أكثر من نصف قرن من الزمن والتي يتم تجاهلها أحيانًا وهي بسط الأعمال المسرحية التونسية وتلك الوافدة من ثقافات العالم في حضرة الشعب التونسي. اعتقاد يشبه اليقين بأن المسرح وبأدواته المتعارفة والمختلفة هو وسيلة كشوف يبني العقول وينهض بالمجتمعات ويحفزها في اتجاهات سليمة وصائبة بأدوات جمالية بسيطة.

لكن هذه العودة إلى أرخبيل المسرح التونسي بدت عودة متفرّدة لم يسبق لركح مسرح المركز الثقافي الدولي بالحمامات أن شهدها، وذلك بعرض مسرحية "مايراوش" التي خرجت من تضاعيف هواجس المسرحيين التونسيين، بل يمكن القول إنها أثر ما بقي من عاصفة جمالية وعلمية وتجريبية، عاشها المركز الوطني لفن العرائس بتونس طيلة سنة 2022 من خلال تجربة مختبر العرائسيين الشبان الذي أحدثه المركز في صلبه من أجل كسر الصورة النمطية المتمثلة في أن فن العرائس منغرس في ثقافة الطفل دون سواها والذهاب بهذا الفن الأصيل إلى مداراته الأصلية وهي إنجاز أعمال عرائسية موجهة للشباب والكهول.  

مسرحية "ما يراوش" التي خرجت من تضاعيف هواجس المسرحيين التونسيين كسرت الصورة النمطية المتمثلة في أن فن العرائس منغرس في ثقافة الطفل دون سواها واقتحمت عالم الشباب والكهول

وكان المسرحي منير العرقي، صاحب التجربة الطويلة في الكتابة والإخراج والتأطير المسرحي، قد أشرف على هذا المختبر وأخرج العمل وتم عرضه في قاعات ومسارح مغلقة، أما عرض الحمامات فهي التجربة الأولى لفريق العمل ضمن الفضاءات المفتوحة.    

 

 

"ما يراوش" كان منطلقها نصًا مسرحيًا عالميًا كتب بالأساس في صميم تجربة المسرح الرمزي الذهني وهو "العميان" "للكاتب البلجيكي "مويس ماترلينك" الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1911. وقد وظف منير العرقي خبرته المسرحية الطويلة في تَوْنَسَة النص الأصلي وجعله ملفوظًا بلغة المقول اليومي التونسي "العامية" على اعتبار أن اللغة في العمل المسرحي لها وجهان: وجه جذّاب للمتلقي بتخير الملفوظات السارية في المجتمع، ووجه آخر مخيف مستتر حمّال للمفاجآت والترميز الخفي.

"ما يراوش" باعتباره نصًا ينتمي دلاليًا إلى حقول النصوص المسرحية الرمزية التي تتخير عادة تيمات إنسانية جامعة وجامحة الطرح الفكري والفلسفي، اختار لنفسه تيمة "العمى" وهي صعبة لتشعبها وتعدد المداخل إليها

أما الجانب الآخر المثير في مسرحية "ما يراوش" هو خلق تلك التوليفة بين الممثل المسرحي الحي وشخصية العروسة أو الدمية المحمولة الجامدة ونفخ الحياة فيها بأصابع الممثل وكامل جسده ووجدانه (التحريك) فيتحول المشهد إلى عملية اتصال وانفصال يسير بين العروسة والممثل في آن واحد، بين الحالات الدرامية للشخصيات وفي نفس الوقت القدرة على التجسيد والتحريك، إنه جدل جمالي لا مثيل له.  وهو ما أدهش المتلقي الذي لم تتسنَّ له مشاهدة عمل مسرحي تونسي على هذه الشاكلة. كما دلل أيضًا على أن مسرح العرائسيّ في تونس قادر على صناعة الفرجة المسرحية لمختلف الفئات العمرية.

 

 

"ما يراوش"، وباعتباره نصًا ينتمي دلاليًا إلى حقول النصوص المسرحية الرمزية التي تتخير عادة تيمات إنسانية جامعة وجامحة الطرح الفكري والفلسفي، اختار لنفسه تيمة "العمى" وهي صعبة لتشعبها وتعدد المداخل إليها. وقد وفّق فريق التمثيل والمحرّكون في نقل الألم الدفين للعميان وازدواجية حضورهم في الواقع كأجساد وانتمائهم إلى عالم البصيرة في آن واحد ومحاولة إدراكه وهم الممثلون المبصرون، إذ لم يكن التقمص بالأمر الهين على الفريق المسرحي الشاب.

يرفعنا المخرج منير العرقي نحو سموّ مسرحي يمس عمق الإنسان وجوهر وجوده فترى الممثلين المحركين في لحظات تجل يندر مشاهدتها في أعمال مسرحية تونسية 

التعلة السردية لطرح موضوع العمى كانت خروج مجموعة من العميان من التكية التي تأويهم للنزهة والتريض والتمتع بأشعة الشمس قبيل حلول الشتاء بجانب غابة مزدحمة الأشجار، مطلة على شاطئ فسيح  يقودهم شيخهم الهادي في إشارة رمزية إلى حكم الشيوخ، لكن سرعان ما يختفي هذا الشيخ الدليل ويعود العميان إلى تيههم ويدخلون في حالات درامية مربكة للأحاسيس فتجعلنا أمام كيانات متشظية، مألومة، مهدومة، مهزومة، محرومة.. 

 

 

وهنا يرفعنا المخرج منير العرقي نحو سموّ مسرحي يمس عمق الإنسان وجوهر وجوده فترى الممثلين المحركين في لحظات تجل يندر مشاهدتها في أعمال مسرحية تونسية، فبين الإيماء والاختفاء خلف العروسة والظهور العلني وتغير الأصوات وتناغم حركات الأجساد، هناك خيط رفيع يدفعنا للإطلاع على هوة بركانية يمكن لنا أن نسميها وحشة الإنسان في الحياة أو قلقه الوجودي الأبدي.

لقد كان العمل مليئًا بالترميز والإشارة لواقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي بعيدًا عن المباشراتية الفجة مثل الإشارة إلى حادثة الرش بسليانة والمسكوت عنه فيما يتعلق بقضايا الاغتصاب

 

 

مسرحية  "ما يراوش" كانت محمولة أيضًا على شاعرية مسرحية منحها النص المنطلق لفريق العمل الذي أوصلها بدوره للمتلقين وهي شاعرية متأتية من الانسجام بين الشخصيات التي تمثل نموذج الإنسان الذي يعيش معنا ونلتقيه يوميًا لكننا لا نراها وفي أغلب الأحيان نتعرف عليه من خلال شخصية في مسرحية ما، كما تتأتى هذه الشاعرية من الموسيقى المرافقة وتلك الانكسارات الضوئية الموحية ومدى مواءمتها للمشاهد وتعبيرها عن المشاعر المراد إيصالها.   

هذه التجربة الفنية التي أرساها  مختبر العرائسيين الشبان بالمركز الوطني لفن العرائس بتونس تؤسس لعتبة تاريخية مفصلية في تاريخ فنون العرائس وحمل هذه المؤسسة على المضي قدمًا في اتجاه مزيد التجريب 

الفريق المسرحي الشاب الذي أنجز هذه المسرحية يتكون من: هيثم وناسي، أسامة ماكني، أسامة الحنايني، فاطمة الزهراء المرواني، أميمة الماجدي، هناء الوسلاتي، ضياء المنصوري، إيهاب بن رمضان، محمد الطاهر العابد، عبد السلام الجمل وغيرهم. 

أما السينوغرافيا فكانت من إنجاز العرائسي حسان السلامي والكوريغرافيا لحافظ زليط، والإشراف على ورشة صنع العرائس المحمولة فكان للفنان العرائسي الأسعد المحواشي.  

وهو فريق بين تمرسه وانسجامه حوّل العمل المقدم فشقق الخطابات المسرحية الجمالية وأعاد ترتيبها على نحو مغاير وبروح تجريبية فريدة وقدمها بلغة مسرحية عرائسية جديدة بعيدة كل البعد عن السائد والنمطي.

إنّ هذه التجربة الفنية التي أرساها  مختبر العرائسيين الشبان بالمركز الوطني لفن العرائس بتونس تؤسس لعتبة تاريخية مفصلية في تاريخ فنون العرائس وحمل هذه المؤسسة الوطنية على المضي قدمًا في اتجاه مزيد التجريب ومن ثمة الإنتاج للكهول والترويج لفن راقٍ أصيل.