22-يوليو-2023
قيس سعيّد

يذهب قيس سعيّد الذي يحارب طواحين الهواء منذ سنتين بالجمهورية إلى الانفصال عن الواقع شيئًا فشيئًا

مقال رأي 

 

لا أعرف إن كان خير ما نختم به السنة الثانية من مسك الرئيس التونسي قيس سعيّد بالسلطة منفردًا، تصريح رئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر الذي تحدث عن اكتشاف مؤامرة لتفجير الهيئة من الداخل أم هو أسوأ ما يمكن أن يتعلق بمؤسسة ارتبط بما بقي منها أمل المحافظة على مسار ديمقراطي حتى وإن يعرف انتكاسة عميقة.

بَيْدَ أنّ هذا التصريح جاء ليدعم أهم إنجاز قام به الرئيس سعيّد منذ مسكه دواليب الحكم، وهو إدراك  التماهي الذي تعيشه المؤسسات بشخصيته السياسية التي لا تفوّت فرصة للحديث عن مؤامرات تحاك هنا وهناك لتعطيل مسيرة الإصلاح وتحاول تأجيج الأوضاع الاجتماعية لضرب السلم الاجتماعية، دون البحث ولو في جوانب الجمهورية الجديدة، التي أسسها منذ أخذ قرار الاستيلاء على السلطة في 25 جويلية/يوليو  2021، عن آليات التفكير المنطقي الذي يرجع الأزمات إن وجدت إلى أسبابها العلمية والمنطقية، وإن انتفت هذه الأسباب يمكن البحث بعد ذلك عمّا يمكن أن يكون مؤامرة.

الجمهورية الجديدة التي بشّر بها قيس سعيّد هي تصوّر شخصي لما يمكن أن تكون عليه قيم الجمهورية التي لا تقترن أساسًا بالمنجز السياسي والاقتصادي بقدر ما ترتبط بالتصور القيمي الذي تقود به السلطة حتى وإن تم اختزالها في شخص واحد

لقد نطق بوعسكر بما يمكن أن يقوله العاجز عن أداء دوره ليرمي بفشله على ظهر المؤامرة، لأن السؤال الملحّ الذي لم تجب عنه مؤسسة الانتخابات منذ آخر استحقاق انتخابي، لماذا شهدت الانتخابات التشريعية أضعف نسبة مشاركة منذ 2011 وهي من أضعف نسب المشاركة في انتخابات عالميًا؟ وكيف يكافَأ الفشل بمواصلة ترؤُّس الهيئة؟ ألم يكن للهيئة دور في تدني هذه النسبة؟ لماذا عزل بوعسكر هيئته عن العالم؟ إنها جزء بسيط من عدد كبير من الأسئلة التي تطرح حول مؤسسة من مؤسسات حكم الرئيس قيس سعيّد والتي تقابل بالصمت والمضي إلى الأمام، وهي سياسة لم يُشهَد لها مثيل في العشرية الماضية رغم كل ما يقال حول الخلافات والصراعات التي كانت تشق كل مؤسسات الدولة نتيجة غياب الثقافة الديمقراطية.

 

 

إن الجمهورية الجديدة التي بشّر بها سعيّد بعد إلغائه دستور 2014، هي تصور شخصي ذاتي لما يمكن أن تكون عليه قيم الجمهورية التي لا تقترن أساسًا بالمنجز السياسي والاقتصادي بقدر ما ترتبط بالتصور القيمي الذي تقود به السلطة حتى وإن تم اختزالها في شخص واحد. فالجمهورية تقوم على مبادئ دولة القانون والتعددية وتعمل من أجل كرامة الإنسان وتنمية شخصيته وخاصة التضامن والتآزر والتسامح بين الأفراد والفئات والأجيال، وهي مباديء تنزل مع مرور الوقت في شكل سياسات عمومية وقوانين، لكنها قبل ذلك يجب أن تكون مضمون تواصل بين من أراد مسك السلطة وبين الجماهير، فلو عدنا إلى أهم خطابات سعيّد التي لم تكن كثيرة منذ توليه السلطة لوجدنا وبشكل موضوعي كل معاني القطيعة بينه وبين كل هذه المبادئ والقيم.

نتذكر أنّ سيطرة سعيّد على السلطة أتت بعد استفحال أزمة كورونا وعجز مؤسسات الدولة آنذاك عن جلب التلاقيح وارتفاع عدد الوفيات وقرب انهيار المنظومة الصحية العمومية.

كان اتخاذ الخطوات المتعسفة على الدستور والقانون يمكن أن يكون أكثر قابلية لو رافقته خطابات تجذر قيم التضامن بين التونسيين وخاصة تنمية الحس الوطني لديهم لا الخطابات التي تقسمهم بين وطنيين وخونة

وكان اتخاذ الخطوات المتعسفة على الدستور والقانون يمكن أن يكون أكثر قابلية لو رافقته خطابات تجذر قيم التضامن بين التونسيين وخاصة تنمية الحس الوطني لديهم، ليس من باب التصنيفات القديمة التي تقسم الناس بين وطنيين صادقين وبين خونة وعملاء، أي التصنيف الأمني الذي ارتبط تاريخيًا بأنظمة فشلت في النهاية في تحقيق نهضتها لأنها لم تتسلح بكل قواها الاجتماعية، بل من باب بعث أمل فيهم بأنهم قادرون على تغيير وضعهم المتردي ليس بالتمني بل بالعمل.

وحتى نعود إلى سير الجمهورية الجديدة عكس ما يتطلبه الواقع والمتغيرات والعصر، عشنا في السنتين الماضيتين في دولة تنحو أكثر نحو الانغلاق والإنكار، انغلاق أمام الإعلام والتواصل حيث كنا ومازلنا أمام رئيس لم يدلِ بحوار منذ توليه السلطة وأمام رئيسة حكومة لا تتحدث إلى الإعلام ووزارات لا تسمع في أروقتها لا فحيح الأفاعي ولا زقزقة العصافير، ومجلس نواب صنّف الإعلام بين وطني وغير وطني ورفض دخول الصحفيين في أولى جلساته في تصرف يحاكي ما تسير عليه القيادة. 

عشنا في السنتين الماضيتين في دولة تنحو أكثر نحو الانغلاق والإنكار أمام الإعلام إذ كنا ومازلنا أمام رئيس لم يدلِ بحوار منذ توليه السلطة ورئيسة حكومة لا تتحدث إلى الإعلام وبرلمان صنّف الإعلام بين وطني وغير وطني ورفض دخول الصحفيين في أولى جلساته

وهو تصرف غريب عن العمل السياسي المبني على التواصل حتى خلصنا إلى أن السلطة الحالية لها موقف واضح من الإعلام التقليدي لا يحتاج إلى مزيد الإثبات، ورغم اتباعها طريقة التواصل المباشر مع الجماهير عبر صفحات التواصل الاجتماعي، لكن هذه الوسيلة أيضًا لم تقدم مضامين تدعم قيم الجمهورية بل في كثير من الأحيان تسببت في منزلقات خطيرة كادت تؤدي إلى العنف مثلما حدث بعد بيان الرئاسة حول المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في فيفري/شباط الماضي، وهو تصرف غريب يحاول تقديم مقاربات تعتني بالشكل وتغفل المضمون، فالتواصل عبر الإعلام هو أبعد من مجرد آلية من آليات العمل السياسي بل هو أيضًا تجذير لقيم المساءلة بين الحاكم والمحكوم وهو من أساسيات المواطنة في الجمهوريات الحديثة.

 

 

إنّ تغيير الجمهوريات الذي يرفق عادة بتغيير الدساتير ليس بالضرورة قطعًا مع تواصل الدولة ومؤسساتها، يقول زعيم نهضة ماليزيا مهاتير محمد في كتابه "طبيب في رئاسة الوزراء" سأكون مقصّرًا إن لم أنسب إلى من سبقوني فضل التقدم الاستثنائي لماليزيا فهم وضعوا الأساس وأنا بنيت عليه فحسب"، وهو عكس ما تعاملت به السلطة الحالية مع ما حدث منذ 2011 باعتبار أنها صنفت سنوات الماضي بمثابة الفصل الذي يجب أن يُمحى من تاريخ الدولة التونسية لذلك سارع أنصار الرئيس إلى توشيحها بالسواد، وإن كانت العاطفة من تقود الجماهير فإن للقيادة رؤية وتصرف أكثر واقعية ولها الملكة الكافية لتقييم التجربة موضوعيًا ما يمكنها من المحافظة على مكاسبها وتقويم أخطائها وإلا فلا يمكن الحديث عن مراكمة التجارب التي تنتهي إلى بناء قيم حقيقية صلبة بين أوساط الشعب الواحد.

العقل السياسي يتكون بعد مراكمة التجارب الحقيقة داخل عالم السياسة وليس فقط الذي يعيش وسط النظريات، فلو كانت النظريات وحدها كفيلة بتغير الواقع لسلم الناس مصيرهم إلى جهابذة التنظير

لقد قالها سعيّد عندما كان خارج دائرة السياسة وأضواء السلطة حين طالب بمغادرة الطبقة السياسية سلطةً ومعارضةً بعد اغتيال النائب السابق محمد البراهمي. أثبتت الأيام بعدها أن سعيّد كان يعني ما يقول، فبالنسبة إليه كلّ الطبقة السياسية فاسدة ومتآمرة وتبحث عن مصالحها، فأصبحت صورة السياسي بالنسبة إلى المواطن مرادفًا للانتهازية واللهث وراء المناصب والامتيازات.

وإن لم يكن سعيّد هو من صنع هذه الصورة التي تكونت نتيجة تصرف جزء من الطبقة السياسية في السنوات الماضية، فإنه الآن مسؤول عن تعميقها وخاصة عدم تقديم جملةٍ سياسية بديلة مثقلة بالمعاني والقيم ولا بديلٍ لرجل السياسة الحامل لفكرة ومشروع، فكل ما يقال عن  "بناء جديد" و"الشعب يريد ويعرف ما يريد" إنما هي جمل لا ترتقي لِأنْ تكون جملًا سياسية. فالشعب ليس كتلة منسجمة وإنّما تتفاعل داخله رغبات وتصورات وتناقضات على السياسيّ أن يدركها ويحاول أن يقودها على تناقضاتها إلى مشروع مشترك. ولا يثمر هذا المشروع إلا من عقل سياسي. والعقل السياسي يتكون بعد مراكمة التجارب الحقيقة داخل عالم السياسة وليس فقط الذي يعيش وسط النظريات، فلو كانت النظريات وحدها كفيلة بتغير الواقع لسلم الناس مصيرهم إلى جهابذة التنظير.

إنّ محاولة قتل مفهوم السياسة داخل أوساط المجتمع في تونس هي تأسيس للعدمية في كل شيء، فالسياسة ليست شرًا في حد ذاتها بل هي طريقة اخترعتها البشرية لإدارة شؤونها

إنّ محاولة قتل مفهوم السياسة داخل أوساط المجتمع هو تأسيس للعدمية في كل شيء، فالسياسة ليست شرًا في حد ذاتها بل هي طريقة اخترعتها البشرية لإدارة شؤونها. فالمواطن الذي يقول لك اليوم "أخطانا من السياسة" إنما هو ضحية لهزائم السياسة الحقيقة التي يمكنها أن تغير واقعه. 

وهكذا سارت المجتمعات إلى تطورها رغم ربط مصيرها أحيانًا بشخص أو رمز سياسي، فلا يمكن غرس قيم العمل في مجتمع إن لم يكتسب ثنائية الجهد والمكافأة التي تنتشله من حالة الإحباط وتذهب به بعيدًا عن عقلية التواكل وانتظار "الثروات المنهوبة التي ستسترجع من الذين سرقوا مقدرات الدولة"، ولا يمكنك فعل ذلك إلا بخطاب وفعل سياسي يعكس هذه القيم.

يذهب سعيّد الذي يحارب طواحين الهواء منذ سنتين بالجمهورية إلى الانفصال عن الواقع شيئًا فشيئًا، فليس أخطر على الشعوب من العيش خارج دائرة الإنتاج نتيجة العجز المرفوق بالإحباط نتيجة غياب الهدف والمشروع، وحتى لا يكون هذا الشعب، مثلما يصور على أنه كتلة منسجمة، ضحية فقط ولا يتحمل مسؤوليته في اختياراته، يجب استعادة خطاب الأمل سلطة ومعارضة وأن تعود إلى الجمهورية معانيها ومبادؤها التي يتقاسمها الجميع.

يذهب سعيّد الذي يحارب طواحين الهواء منذ سنتين بالجمهورية إلى الانفصال عن الواقع شيئًا فشيئًا، فليس أخطر على الشعوب من العيش خارج دائرة الإنتاج نتيجة العجز المرفوق بالإحباط نتيجة غياب الهدف والمشروع

وهي ليست فقط كلمات طوباوية بل هي حتمية تاريخية للشعوب التي خرجت من الرداءة إلى الرخاء مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وتركيا وغيرها من البلدان التي كانت قريبة منا في وقت من الأوقات لكنها تجاوزتنا الآن بمراحل لأن المنطلق الحقيقي كان ولا يزال التسلح بكل القوى الداخلية لعبور كل المطبات والعواصف التي يعرفها العالم، وما أكثرها.     

قد تغتر السلطة الحالية بخروجها شيئًا فشيئًا من العزلة الدولية بعد التوقيع على مذكرة تفاهم شاملة مع الاتحاد الأوروبي بنيت أساسًا على قضية الهجرة غير النظامية ومباركة القوى الأخرى ضمنيًا للأمر الواقع الحالي، لكنه طريق طبيعي مرت به كل الأنظمة التي أغلقت قوس الديمقراطية وقضت على كل ممارسة سياسية تعددية لكنها رجعت في النهاية وأثناء الأزمات الحقيقة إلى بيتها الداخلي فهو عامل القوة الأساسي الذي من خلاله يمكن مناشدة التطور والرقي. فلا يمكن بناء الجمهورية الحقيقية دون بناء الإنسان المتشبع بقيمها المتصالح مع ذاته ومع محيطه والمتعدد في فكره وتوجهاته، وهي المعركة الحقيقة التي خسرتها تونس منذ بناء الدولة الوطنية، والخطير أنّ ما يحدث الآن هو القضاء على ما تبقى منها، وهي الخطيئة الكبرى. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"