19-يوليو-2023
 احتجاجات مظاهرات في تونس 2011

هناك نموذج متداع استوردناه بكل تفاصيله، وقد كان يتداعى للسقوط حتى في قلاعه الأكثر تحصينًا (صورة أرشيفية/Getty)

مقال رأي 

 

 

تتفق عديد الدراسات حول الشعبوية على خصوصية ردة الفعل النفسية التي تجتاح الديمقراطيين عندما يصل الشعبويون للحكم ويسيطرون على مؤسساته ويشرعون في قتل مبادئ الديمقراطية الليبرالية ومحاصرة المعارضين وغير ذلك من الممارسات السلطوية المبكرة.

عمومًا، تتميز ردة الفعل تلك بالصدمة، حيث يظل الديمقراطيون في حالة من التشويش تزيد من حدتها سياسات الشعبويين نفسها، عن طريق النسق السريع في إجراءاتهم القاتلة للديمقراطية، والهرسلة الأمنية والقضائية للخصوم، والسعي المتواصل لتغيير قواعد اللعبة السياسية كليًا.

تقول إحدى الدراسات أن أول ردود الفعل على ذلك تبدأ في إصابة الأحزاب، حيث تحصل استقالات كبيرة، وتنتشر الفوضى داخل تلك الأحزاب، وتجد القيادات نفسها في وضع الاتهام من الهياكل الأسفل، ثم ينفض المناضلون الأقل التزامًا من حول الأحزاب، ويعلن كثيرون هجرهم للشأن العام. يأخذ هذا المسار مستوى جديدًا من الحدّة كلما واصل الشعبويون استئثارهم بالفضاء العام، ما يجعلهم في نهاية الأمر بلا منافسين بعد أن سجنوا معارضيهم أو ضيقوا عليهم أو ألقوا بهم خارج المؤسسات الشعبوية المنتخبة الجديدة.

عندما تتبع الشعبوية نمط حصان طروادة للاستئثار بالحكم، مثلما حصل في تونس تمامًا، يستغرق الديمقراطيون في العادة وقتًا طويلًا قبل استعادة قدرتهم على التفكير ومواجهة خطط تفكيك الديمقراطية

عندما تتبع الشعبوية نمط حصان طروادة للاستئثار بالحكم، مثلما حصل في تونس تمامًا، يستغرق الديمقراطيون في العادة وقتًا طويلًا قبل استعادة قدرتهم على التفكير ومواجهة خطط تفكيك الديمقراطية.

لا يمكن تسمية ردود الفعل الأولى ردودًا واعية بطبيعة التحدي الشعبوي، حيث أنها تنطلق في الغالب من فهم جزئي لما يحصل. عندما تكون موجة الشعبوية عالية في الرأي العام، فإن ردود الفعل تلك سرعان ما تتفطن إلى أن الأمر أعقد قليلاً من مجرد استيلاء غير دستوري على السلطة، وتكسير قواعد التداول الديمقراطي على الحكم.

 

 

إن مرحلة أساسية في هذه التفاعلات هي تبادل الاتهامات بين الأحزاب حول دورها في تسهيل وصول الشعبويين للحكم. هذا ما يحصل على سبيل المثال في تونس منذ 25 جويلية/يوليو 2021 في الساحة الحزبية: مجموعتان من الأحزاب ترفضان التنسيق والتظاهر معًا خوفًا من ردود فعل الرأي العام، وهو أمر يخدم السلطوية الشعبوية كثيرًا.

عندما يعرب فريق من السياسيين عن فهم أفضل للوضع ويشرعون في التجمع حول أفكار بسيطة مثل التصدي للشعبويين، يقوم هؤلاء باعتقالهم ويلقون بهم في السجن، مانعين بذلك أي التقاء بين المعارضات ومجهضين أولى المحاولات الجدية للخروج من وضعية الصدمة الديمقراطية.

عندما أعرب فريق من السياسيين عن فهم أفضل للوضع وشرعوا في التجمع حول أفكار بسيطة مثل التصدي للشعبويين، قام هؤلاء باعتقالهم وألقوا بهم في السجن، مانعين بذلك أي التقاء بين المعارضات ومجهضين أولى المحاولات الجدية للخروج من وضعية الصدمة الديمقراطية

هناك مظهر آخر من مظاهر الصدمة النفسية التي يسببها الانتشار السريع والكاسح للشعبويين في الدولة، وهو المتمثل في البحث عن موقع الضحية الذي يتيح اتباع تكتيك آخر هو الإنكار. نتحدث هنا عن إنكار المسؤولية عن صعود الشعبوية.

يعتقد الإسلاميون في تونس اليوم على سبيل المثال، وهذه قناعة واسعة الانتشار لدى قواعدهم، أن حزب التيار الديمقراطي مثلًا هو سبب الكارثة، فقد شجع قيس سعيّد على تفعيل الفصل الثمانين والاعتداء على الدستور.

في المقابل، يتهم التيار الديمقراطي حركة النهضة بأنها دمرت الديمقراطية عن طريق سياسات وتحالفات جعلت من الديمقراطية مجرد واجهة لنظام فاسد كرهه الناس، ومن هنا ترحيب الشارع بالشعبوية واحتضانه لكل الخروقات طالما قوضت تلك الديمقراطية الفاسدة. وجهتا نظر غير متناقضتين مثلما قد يبدو عليه الأمر: إن صعود الشعبوية هو في جانب كبير منه مسؤولية الديمقراطية الخاطئة.

في الأثناء فإن الغالب لدى النخب السياسية في ما قبل 25 جويلية هو اعتبارهم ما يحصل اليوم خطيئة يجب إصلاحها بسرعة والعودة إلى ما كان عليه الوضع يوم 24 جويلية، مع بعض الاستدراكات الطفيفة مثل وضع محكمة دستورية.

بالنسبة للإسلاميين، يقع النظر لما حصل على أساس أنه مشابه تمامًا لما حصل في مصر قبل عشر سنوات بالضبط عندما أطاح وزير الدفاع بالرئيس المنتخب محمد مرسي، ليؤسس ديكتاتورية عسكرية جاهلة أتت بعد ذلك على الأخضر واليابس.

هذا في الحقيقة خطأ كبير، حيث فيما عدا بعض الشكليات، فلا شيء يقارب مصر بتونس حتى بعد 25 جويلية 2021. إن ما حصل في مصر هو انقلاب كلاسيكي مثل كل الانقلابات التي قادها العسكر والتي سميت أحيانًا ثورات أو حركات تصحيحية. يجب الاطلاع قليلاً على مكانة الجيش في السياسة المصرية لنفهم أن الأمر يتعلق بتقليد قديم مرتبط بتلك المكانة بالذات. يمكن أن تضاف لذلك عوامل أخرى تخص الموقع والتحالفات وحجم المجال، لكن الأمر لا يخرج في كل الحالات عن العوامل الاستراتيجية. 

ما وقع في تونس مختلف تمامًا، حيث تعلق الأمر بغزوة شعبوية على نظام قرر الاقتداء الحرفي بقيم الديمقراطية الليبرالية، في سياق دولي مشكّك منذ عقود وبقوة في نجاعة الديمقراطية الليبرالية نفسها

ما وقع في تونس مختلف تمامًا عن مصر، حيث تعلق الأمر بغزوة شعبوية على نظام قرر الاقتداء الحرفي بقيم الديمقراطية الليبرالية، في سياق دولي مشكّك منذ عقود وبقوة في نجاعة الديمقراطية الليبرالية نفسها.

وقعت تهرئة سريعة لهذه القيم عن طريق جملة من الممارسات، وارتكبت أخطاء كبرى جعلت الناس يعتقدون، خطأ أو صواباً، أن تلك الديمقراطية لا تلائمهم. هذا مسار كلاسيكي للشعبوية التي تجد قوتها الضاربة في رأي عام يائس وممارسة سياسوية مبتعدة أكثر فأكثر عن تلبية حاجياته الأكثر حيوية.

ليس للأمر علاقة هنا بالذات بجدوى الديمقراطية، وبما إذا كانت النظام الأفضل للناس، بل بالديمقراطية الليبرالية نفسها كنموذج أعلى، وبطبيعة التطبيق لذلك النموذج وما أسفر عنه من مزيد ابتعاد عن توقعات الناس. هناك موجة شعبوية عارمة اليوم في العالم، ولكن تونس لم تستورد هذه الموجة، بل كانت  تقريبًا نتاجًا لنفس المشكلات التي أدت لصعودها في بلدان أخرى. ليس هناك استثناء أمام أحكام التاريخ، لأن هذه الأحكام منطقية جدًا في الغالب.

وقعت تهرئة سريعة لعديد القيم عن طريق جملة من الممارسات، وارتكبت أخطاء كبرى جعلت الناس يعتقدون، خطأ أو صواباً، أن تلك الديمقراطية لا تلائمهم. هذا مسار كلاسيكي للشعبوية التي تجد قوتها الضاربة في رأي عام يائس وممارسة سياسوية مبتعدة أكثر فأكثر عن تلبية حاجياته 

إن إنكار خصوصية المسار السلطوي الحالي بوصفه نتاجًا لمزاج شعبوي لدى قسم كبير من الشارع، وانتظار كارثة اقتصادية واجتماعية قد تأتي قريبًا أو بعيدًا لتطيح به، يعيق الفهم والفعل. كان يمكن أن نشهد الموجة ذاتها من الشعبوية ولو من دون قيس سعيّد: لقد صوت أكثر من نصف الناخبين في الرئاسيات في الدور الأول لمرشحين شعبويين.

لا يجب أن يغطي قيس سعيّد اليوم غابة الشعبوية التي أصبحت تشمل البلاد من أدناها إلى أقصاها. إنكار هذه الخصوصية المزاجية للشارع كأكبر داعم للسلطوية الشعبوية اليوم لا يعد بخير كثير. بل إن مهمة الأحزاب الديمقراطية اليوم هي عدم الرضوخ لابتزاز المزاج الشعبوي، والصمود أمام إغراء تحولها هي الأخرى إلى أحزاب شعبوية من أجل الفوز برضا المزاج العام.

هذه إحدى الأخطار الكبيرة اليوم، وقد رأينا كيف اصطفت عائلات سياسية كاملة إلى جانب الهجمة الشعبوية على الديمقراطية بمجرد أن رأت لنفسها مصلحة من ذلك الاصطفاف. تحول الطيف السياسي الديمقراطي إلى طيف انتهازي جريًا وراء إرضاء المزاج الشعبوي للشارع هو كارثة الكوارث.

مهمة الأحزاب الديمقراطية اليوم هي عدم الرضوخ لابتزاز المزاج الشعبوي في البلاد، والصمود أمام إغراء تحولها هي الأخرى إلى أحزاب شعبوية من أجل الفوز برضا المزاج العام

الإنكار الآخر يتعلق بالمسؤولية عما حصل وسهل تسلل الشعبوية للفضاء العام ثم استئثارها به. هذه مسألة محرجة أخرى. هل يمكن لوم الأحزاب عن عدم قدرتها على حسن تنزيل النموذج الديمقراطي الليبرالي في البيئة التونسية، واستيرادها للنموذج بعيون مغمضة واطمئنان مريب؟ 

لم تكن الشعبوية التي نعيشها اليوم معلقة بموقف التيار الديمقراطي من الفصل الثمانين، ولا كان إصرار النهضة على التعويض لمناضليها هو ما قلب التوازنات في الشارع والمزاج. في السياق التاريخي، هذه مجرد تفاصيل لا بد منها في كل مرة. هناك نموذج متداع استوردناه بكل تفاصيله، وقد كان يتداعى للسقوط حتى في قلاعه الأكثر تحصينًا عندما شرعنا في تفريغه من الحاويات.  لقد آن الأوان لتفكير ينقذ الأمور على المدى البعيد، على الأقل.

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"