05-يونيو-2023
القومية التونسية

"​​​​​​​الثابت أننا كلنا قوميون.. بدرجات" (صورة توضيحية/ الشاذلي بن إبراهيم/ NurPhoto)

مقال رأي 

 

"أنشأت الحركة القومية التونسية بداية من 1920، بيئة مناضلة، لها لغة ومذهب وطني خاص. وقد حاولت قبل كل شيء توحيد شعب شتات، فوُفّقت في ذلك.. لقد ركّز شعبه (خلاياه) في كل مكان، واستند إلى الطبقات المتوسطة، والبرجوازية الصغرى داخل البلاد، وعامة الشعب في أحياء مدينة تونس، وبصورة جزئية حتى رعاع المدينة (ما يعرف بالزوافريَة) الذين استخدمهم حزب الدستور الجديد بصورة أكبر حجمًا... إن الأمر الثابت الذي لا يقبل النقاش هو أن استقلال الأقطار الثلاثة في شمال إفريقيا، أقام دولًا وطنية بأتم معنى الكلمة، مهما كانت نقائص أو هشاشة هياكلها الوطنية." (هشام جعيط. الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي[1]. (ص 51-52).

يثير مفهوم القومية جدلية فكرية منذ بداية تمظهراته وحتى أيامنا هذه..  كلٌ يستدعي عبره الحشود للاصطفاف وراء طرحه وما يعتقده

لا يخفي جعيّط، كسائر أبناء جيله، تأثره بأفكار ميشال عفلق المتعلقة بالقومية الوطنية في بعدها القطري الضيق (الدولة ضمن حدودها الجغرافية) والقومية الوحدوية العربية في تمظهراتها الجامعة (من المحيط إلى الخليج).

يثير مفهوم القومية جدلية فكرية منذ بداية تمظهراته وحتى أيامنا هذه. رغم ذلك، نجده حاضرًا في خطابات كل زعماء وقادة العالم، كلٌ يستدعي عبره الحشود للاصطفاف وراء طرحه وما يعتقده. تنجح روايات وطنية فتترجم ذلك طفرة اقتصادية ورفاه (كوريا الجنوبية (التسعينات)، فيما تتهاوى أخرى وتتحول إلى فاشيات (المجر 2022). فإلى أين يقود البلاد، الخطاب السياسي للسلطة الحالية في تونس؟

  • القومية-الوطنية: كلنا قوميون.. بدرجات

وفق موقع موسوعة ستانفورد، يرجع مصطلح القومية (أو الوطنية)[2] إلى موقفين أساسيين: الإحساس المشترك لدى مجموعة ما تجاه جنسيتهم عندما يتعلق الأمر بالانتماء، والأفعال التي يمكن أن يقوم بها هؤلاء لتحقيق بعض أشكال السيادة السياسية. أما تاريخيًا، بدأ مصطلح القومية بالتشكل، سياسيًا على الأقل، في منتصف القرن 18، مع بداية أفول الإمبراطوريات متعددة الإثنيات والشعوب، ظهور دول أكثر تجانسًا ديموغرافيًا، ولو نسبيًا، تتميز بمحددات هووية وتاريخية مشتركة بين أفرادها، الذين يتقاسمون نظريًا المصير السياسي نفسه. 

لكافة الإيديولوجيات من القومية نصيب: الدول الثيوقراطية قسمت رعاياها إلى مؤمنين وكفار، والماركسية نظرت إلى العالم من منظار صراع الطبقات بين البرجوازيين والعمال، أما الليبرالية فترى المجتمع كسوق مقسّم بين منتجين ومستهلكين

قبل الوصول إلى براديغم الدولة الأمّة "Nation State"، مرّ مفهوم الدولة في شكلها الحديث بعدة تمخّضات تخللتها ثورات وانتفاضات، وتعززت بتعزز الروابط الاجتماعية، الحقوق الفردية (الحقوق في الملكية) وتطور المتن الاقتصادية، مما ساهم في استقرارية أكبر ديموغرافيًا (انخفاض نسق الهجرة). في الحقيقة، تطلّب الأمر أكثر من مجرد إعلان حكومة مركزية وتوحيد للقوانين والجباية. ففي فرنسا مثلًا، كان هناك أكثر من قوم يتكلمون لهجات تكاد تكون مختلفة، "سنة 1860، ربع الفرنسيين[3] لا يتكلمون الفرنسية، في حين ربع آخر يتكلمونها كلغة ثانية. الفرنسية كانت لغة باريس وضواحيها. لكن تعلم الفرنسية كان حتمية اقتصادية مع ازدهار الصناعة والتجارة. امتدت عملية توحيد اللغة (Frenchification) حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث أتمت الخدمة العسكرية ما حتمته الضرورة الاقتصادية". 

 

 

لم يكن الوضع مختلفًا في أرجاء أخرى من العالم، تركيا-أتاتورك (1920)، اليابان-ميجي، مصر-محمد علي، ألمانيا بيسمارك وتونس-بورقيبة. في كتاب أصول الحماية الفرنسية في تونس، يصف جان قانيانج تونس أواخر القرن 18 كما يلي: "باستثناء تونس المدينة، لم تكن لباقي المدن أي إدارة محلية ما عدا القياد والشيوخ (صفحة 99)".

في كتاب الجماعات المتخيلة، يعرّف المؤرخ الإنجليزي من أصول إيرلندية "بندكت أندرسون" الأمّة بكونها "جماعة سياسية متخيلة محددة وسيّدة". ويتعرض في الكتاب إلى النزعة الفطرية لدى البشر للتقسيم وللتمايز داخل مجموعات تعادي بعضها البعض في معظم الحالات. بناء على هذا التعريف، يمكن استنتاج أن لكافة الإيديولوجيات من القومية نصيب: الدول الثيوقراطية قسمت رعاياها إلى مؤمنين وكفار، والماركسية نظرت إلى العالم من منظار صراع الطبقات بين البرجوازيين والعمال، أما الليبرالية فترى المجتمع كسوق مقسّم بين منتجين ومستهلكين.

المدرسة الفرنسية تختصر القومية في الرغبة في العيش المشترك، أما الألمان فيرونها أعقد من ذلك إذ يتسع المفهوم ليشمل وحدة اللغة والدين والعرق

كما نشأت كذلك، عدة مدارس لتعريف القومية، فالمدرسة الفرنسية تختصر القومية في الرغبة في العيش المشترك. أما الألمان فيرونها أعقد من ذلك إذ يتسع المفهوم ليشمل وحدة اللغة والدين والعرق.. ومهما كانت الإيديولوجيا، فلا بدّ أن تمر عبر فترة قومية توطد فيها بناءها القومي والهووي وتعزز روايتها التاريخية. بالنهاية، النازية قومية العرق الآري، والاشتراكية قومية العمال.. الثابت، كلنا قوميون.. بدرجات.

  • الخطاب الشعبوي يعمق عطب المواطنة

ولئن عايش الحبيب بورقيبة في صباه ما يسمى بالنهضة العربية (الثورات العربية ضد الباب العالي) وما تلاها من تطوّر مختلف الإيديولوجيات في العالم بين المعسكرين الشرقي والغربي، فقد اختار عند توليه زمام الأمر عقب الاستقلال، نموذج الدولة الوطنية في معناه القُطري المحدد، فعمل ضمن نخبة الحزب الدستوري (الحزب القومي الاشتراكي آنذاك) على توحيد القضاء والإدارة وتونستها (تولية التونسيين)، وفرض ما أصبح يسمى لاحقًا بالـ"نمط التونسي"، في مجالات مختلفة حقوقية واجتماعية. 

اختار بورقيبة عند توليه زمام الأمر عقب الاستقلال، نموذج الدولة الوطنية في معناه القُطري المحدد، فعمل على توحيد القضاء وتونسة الإدارة

ورغم هنات مشروع حزب الدستور لتونس، على المستويين السياسي والاقتصادي خاصة، واختلال البناء الهووي القومي، فإنّه لا يمكن إنكار أن ذلك التصور حينها جنّب تونس متاهات الوحدة العربية والإسلامية التي عصفت بالأقطار العربية في الشرق الأوسط. تجدر الإشارة إلى أن من أبرز أسباب الخلاف المعلنة بين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، أن الأول اعتبر الاستقلال الداخلي خطوة إلى الأمام، بينما اعتبره الثاني خيانة للثورة الجزائرية وطالب بمواصلة الكفاح المسلح حتى تحرير بقية أقطار المغرب العربي[4]. تبقى فترة ما بعد الاستقلال محل جدلي طبيعي كل يتناوله حسب منظوره للأحداث، لكن لا يمكن إنكار الزخم الوطني الذي أحدثه آنذاك خطاب السلطة السياسية، وما صاحبه من نشاط في مستويات مختلفة، كإحساس التونسيين بضرورة استكمال الاستقلال التام (العسكري والفلاحي والإداري).

يجمع خطاب السلطة السياسية جرعات هائلة من الوطنية وهرمونات السيادة والتحرير والبناء والحشد، وما يلبث أن تتلوها ضربات التخوين والتآمر والعمالة

يصف أليكسيس في توكفيل[5] الوضع السياسي عشية الثورة الفرنسية سنة 1789: "لم يكن هناك عشرة أشخاص يرغبون في العمل معًا في سبيل قضية مشتركة". نسبيًا، يمكن استعمال وصف توكفيل على حال التونسيين هذه الأيام، وإلا ما سبب تحبير عشرات المقالات التي تتساءل منذ 25 جويلية/ يوليو عن أسباب تشتت المعارضة، والسلطة كذلك؟ وما الإقالات والاستقالات التي تصدر بالرائد الرسمي أو وسائل الإعلام إلا عناوين صراعات داخلية. يجمع خطاب السلطة السياسية جرعات هائلة من الوطنية وهرمونات السيادة والتحرير والبناء والحشد، وما يلبث أن تتلوها ضربات التخوين والتآمر والعمالة.. إلى غير ذلك من الجمل الهدامة الموجهة للداخل والخارج، ما يعمق أزمة الثقة بين كافة الأطراف. والنتيجة، سلطة متخبطة ضريرة، ومعارضة مشتتة وعاجزة، ومجتمع يعيش حالة سكون أقرب للصدمة والحيرة وانتظار أمر ربما يحدثه الله بعد ذلك.

الخطابات السياسية المثخنة بالمعاني الوطنية دون مضامين واقعية ورؤية مستقبلية، أنتجت سلطة متخبطة ضريرة، ومعارضة مشتتة وعاجزة، ومجتمعًا يعيش حالة سكون أقرب للصدمة والحيرة

وبالإضافة إلى تخبط السلطة وخطابها المفرق، برز مؤخرًا الحزب القومي التونسي بخطاب كراهية ضد المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء، فيما سمي بالـ"الخطر الإجصي"، عزّزه تبني رئيس الجمهورية لنظرية الانتقال الكبير (Le grand déplacement)، الأمر الذي سبّب موجة عنف شعبي تحولت إلى ما يشبه الـ "الفضيحة الدولية" بعد أن تناقلتها مختلف وسائل الإعلام العالمية. بالمحصلة، انقسم الشارع التونسي بفعل خطاب السلطة إلى موالين للنظام، ما يعني في نظرهم "وطنيين أحرار صادقين وثابتين على العهد" حسب مفردات الرئيس، وبين معارضين وبالتالي "خونة ومتآمرين"، ما يعني خصومة متطرفة تنقض أسس العيش المشترك.

من جهة أخرى، صارت تونس محورًا ثابتًا في ملفات اللقاءات العالمية إلى جانب كل من اليمن، ليبيا، الصومال.. تشتت داخلي وهشاشة سياسية واجتماعية، وصم دولي بالعنصرية، تحول الأزمة الاقتصادية التونسية إلى ما صار يعرف "القضية التونسية" في الأروقة الدبلوماسية العالمية، هذا ما قد تجنيه الخطابات السياسية المثخنة بالمعاني الوطنية دون مضامين واقعية ورؤية مستقبلية.

 

المصادر:


[1] دار الطليعة-بيروت. الطبعة الثالثة فيفري/ شباط 2008.

[2] تجدر الإشارة إلى ضرورة التفريق بين القومية بمعناها السياسي Nationalism، والوطنية بمعناها العاطفة الحميدة تجاه الوطن Patriotism.

[3] Francis Fukuyama. Political order and Politica decay (tome 2). Ed. Farrar Straus and Giroux. P181-182.

[4] مقال سالم الأبيض "بعد مائة عام .. ماذا بقي من الحزب الدستوري التونسي" على موقع العربي الجديد بتاريخ: 30 ديسمبر/ كانون الأول 2020.

[5] ألكسيس دي توكفيل. "الديموقراطية في أميركا".

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"