18-سبتمبر-2019

تنوّعتْ ردود الفعل بعد نجاح المترشّح المستقلّ قيس سعيّد في المرور إلى الدور الثّاني للانتخابات الرئاسية (أنيس ميلي/ أ ف ب)

مقال رأي

 

كثُرتْ التّعاليق، وتنوّعتْ ردود الفعل بعد نجاح المترشّح المستقلّ قيس سعيّد في المرور إلى الدور الثّاني للانتخابات الرئاسية التونسيّة 2019. لكنّها التقتْ في تعبيريّة واحدة -هي الصّدمة الجماعيّة- حتّى من أنصاره. فهذا الحدث لم يكنْ متوقّعًا. كسر أفق الانتظارات الانتخابيّة، وانزاح بالمشهد التونسيّ من مجال الحتميّ الموصولِ بالإرث السياسيّ، إلى مجال جديد يعتمل فيه الممكِنُ والمحْتَمَل واللامتوقّع.

اقرأ/ي أيضًا: لقاء حصري مع "رضا لينين" وسنية الشربطي.. من يقف وراء حملة قيس سعيّد؟

هل هي صدمة؟

إنّ النخبة التي تحكّمتْ في مجريات السلطة ما بعد 2011، افتقرتْ إلى "الإدراك" السياسيّ. والإدراك يختلف عن المعرفة. فالمعارف قد تتراكم دون أن تُحدِث هدفًا وأن تحدّد مسارًا، أمّا الإدراك فيعملُ بطريقة منهجيّة قصديّة، بما أنّه يتخلّص من الشوائب ويتّجه صوبا إلى الغاية.

لقد كانت المطالب الأساسيّة للتونسيّين متمثّلة في الشغل، والحريّة، والكرامة، والوطنيّة. غير أنّ المنظومات الحاكمة بصرف النّظر عن انتماءاتها الحزبيّة ومرجعيّاتها الفكريّة، قامتْ بالالتفاف عليها ولم تحقّق منها شيئًا. بل إنّها –وبنوع من القصور السياسيّ– سعتْ إلى تقليص مكتسباتهم القائمة من أجل الحدّ من السقف المطلبيّ. وقد كان ذلك عبر اللجوء إلى الاستقطاب الثنائيّ داخل المجتمع التونسيّ لامتصاص الحرارة الثوريّة الراهنة واستبدالها برهانات مغايرة آخرها قضيّة المساواة في الإرث.

إنّها نخبة خاوية لم تنتبه إلى فراغها المرجعيّ، فظلّتْ متمسّكة بإيديولوجيّاتها المختلفة. ونعني بها الإسلام السياسيّ والوسطيّة الحداثيّة والفكر اليساريّ. جميعها أفلستْ ولم تعلن إفلاسها

استفادتْ النّخبُ الحاكمة منذ 2011 من هذا الاستقطاب. تمكّنتْ من التغلغل في مفاصل الدولة ومن تحقيق مكاسب حزبيّة وطبقيّة تخدم مصالحها وطموحاتها، لكنّها عجزتْ في الآن نفسه عن امتلاك السّلطة، لأنّ الكفاءات والمعارف قد تنجح في تسيير الدواليب – خاصّة إذا انضافتْ إليها قوّة "المال والأعمال" – غير أنّ الإجراء السلطويّ مغاير للطبيعة الإداريّة. إنّه من طبيعة اقتصاديّة، يرتبط بتبادل الإدراك القيميّ بين الأفراد وداخل الجماعات. وهو ما لم تنتبه له الأحزاب المتعاقبة. فكانت النتيجة الأولى أن هيمنتْ على مواقع الحُكْم دون أن تحكم فعلًا، وكانت الثّانية أن بقيَ إدراك القيم الثوريّة (جملة المطالب التونسيّة) بلا سلطة قياديّة.

هل هي صدمة إذن؟

هي كذلك بالنّسبة إلى النخبة السياسيّة المغتربة عن محيطها الاجتماعيّ، والمتعالية على مطالبه، والمنشغلة عنه بتشكيل شبكة علائقيّة تضمن لها الديمومة. إنّها نخبة خاوية، لم تنتبه إلى فراغها المرجعيّ، فظلّتْ متمسّكة بإيديولوجيّاتها المختلفة. ونعني بها الإسلام السياسيّ والوسطيّة الحداثيّة والفكر اليساريّ. جميعها أفلستْ، ولم تعلن إفلاسها. لم تقمْ بمُراجعات حقيقيّة لبنياتها وأفكارها، ولم تسْعَ إلى تعديلها في ضوء المطلبيّة التونسيّة الحادثة. على العكس من ذلك تمامًا، همّشتْ الإدراك القيميّ الناشئ ولم تجذّره داخلها. فشكّلتْ عودته في الانتخابات الرئاسيّة الحاليّة صدمة مفاجئة لها ولأنصارها، ومفاجأة صادمة للطبقة الهامشيّة التي حقّقتْ نصرها المطلبيّ رمزيًّا.

مفاجأة صادمة؟

لقد كان الحاصل الانتخابيّ مفاجئًا، لكنّ ذلك لا يلغي منطقيّته. فالمعقوليّة التي استند إليها الاختيار الجماعيّ تولّدتْ عن حاجة أكيدة منذ 2011 إلى خطاب راديكاليّ، وهو مختلف عن الخطاب الأيديولوجيّ الذي تشرّبه التونسيّون وعاينوا لا جدواه. تأسّستْ الراديكاليّة التونسيّة ضمنيًّا على المربّع الجماهيريّ المذكور سلفًا (شغل، حرّيّة، كرامة، وطنيّة) الذي جُوبِه من الفئات النخبويّة والحزبيّة بالتجاهل والإقصاء وأحيانًا بالبدائل النقيضة، حيث استفحلتْ أزمة البطالة وساءتْ الأوضاع الاجتماعيّة بما يمسّ من الكرامة، وتواترتْ أخبار العمالة للخارج ونهب الثروات بما يتعارض مع مبدأ السيادة الوطنيّة.

لكنْ بقيتْ الحريّة التي اعْتُمِدتْ سبيلًا لتحقيق هذه الغاية المطلبيّة الراديكاليّة، مع الاستفادة في نفس الوقت من الأخطاء التواصليّة القاتلة للحملات الانتخابيّة الأخرى مثل كشف يوسف الشّاهد عن جنسيّته الفرنسيّة وإعلان أحدهم اعتزام عبد الكريم الزبيدي التطبيع مع "إسرائيل". لقد كان الزبيدي مرشّحًا فوق العادة لأنّه اقْتُرح كممثّل للمنظّمة العسكريّة التي تتماشى توجّهاتها مع الأسس الراديكاليّة وتحظى بثقة التونسيّين، إلّا أنّ مسألة التطبيع أدخلتْ الشّكوك على الوعي الجمعيّ العفويّ ولم تنفع دفاعات حمْلتِه في رأب الصّدع.

من الواضح أنّ المشرفين على حملة قيس سعيد كانوا أكثر دهاءً وإلمامًا بالإدراك السياسيّ لقيم المرحلة من منافسيهم. ويظهر ذلك في اختيارهم للمترشّح الذي سيكون صوتهم وحامِلًا لأفكارهم. إذ لا يمكن أن نتصوّر أنّ مسألة الترشيح مرتجلة وحينيّة، ظهرتْ بين عشيّة وضحاها. بل مُخْتارة بعناية ومخطّط لها منذ سنوات، تحديدًا منذ انتخابات 2014 وإبرام التوافق بين حركتيْ نداء تونس والنهضة، ذلك التوافق الذي خذل جانبًا كبيرًا من التونسيّين وأفقدهم الثّقة في الإدارة الحزبيّة وقدرتها على الوفاء لخطابهم واحتياجاتهم.

اقرأ/ي أيضًا: ثوابت الدبلوماسية التونسية.. الخرافة الممجوجة

يظهر الحسّ السياسيّ للمشرفين على حملة قيس سعيد في تجنيبه الظّهور الإعلاميّ قدر المستطاع، لأنّ الإعلام التقليديّ لم يكنْ من ضمن الآليّات المعتمَدة لإنجاح المسار الانتخابيّ

من الواضح أيضًا أنّ الاختيار كان في محلّه لأنّ المرشَّح شخص راديكاليّ وليس مؤدلجًا. لم يغيّر أطروحاته وأفكاره، لم يتلوّنْ مع الواقع السياسيّ لغايات مصلحيّة، لم يخضعْ للإملاءات. وإنّما ركّز في تدخّلاته على رفض الوصاية داخليّة كانت أو خارجيّة، وكَاشَفَ النّاس بمواقفه من بعض القضايا الخلافيّة مثل المساواة في الإرث والمثليّة الجنسيّة رابطًا إيّاها لا بالواقع التونسيّ بل بالتدخّل الأجنبيّ بما يتماشى مع أحد أضلاع المربّع المطلبيّ (السيادة الوطنيّة).

يظهر الحسّ السياسيّ للمشرفين على حملة قيس سعيد في تجنيبه الظّهور الإعلاميّ قدر المستطاع، لأنّ الإعلام التقليديّ لم يكنْ من ضمن الآليّات المعتمَدة لإنجاح المسار الانتخابيّ. وسببُ ذلك مرتبط بالأسس المشكّلة للخطاب الراديكاليّ، وهو ما سنعمل على توضيحه:

لقد تحقّق جانبٌ واحدٌ من المطالب وهو الحرّيّة المُشاعة للجميع والتي لا يمكن أن يعتمدها مترشّح كقيمة مضافة أو كحافز انتخابيّ. بقيتْ ثلاثة جوانب هي الشّغل والكرامة والسيادة الوطنيّة، استأثر بالأخير منها أحمد الصّافي سعيد الذي لا يمكن منازعته جماهيريًّا في "عِداء" العمالة والوصاية، (النتائج التي حصل لها تبيّن نجاح مساره الراديكاليّ) ليكون مجال تحرّك المشرفين على حملة قيس سعيد موصولًا أساسًا بالجانبيْن المتبقّييْن (الشّغل والكرامة) الذيْن يجدان بديليْهما الاجتماعيّيْن في البطالة والتهميش (الشباب والفئات الدنيا).

ولأنّ حملة المترشّح نبيل القروي -الراديكاليّة هي الأخرى- نجحتْ منذ سنوات في اكتساح مجال عطالة التَوْنسَة والتهميش الاجتماعيّ إعلاميًّا وميدانيًّا، فإنّ حملة قيس سعيد ركّزتْ على التهميش الثقافيّ. ولا نعني بذلك النّخب "المثقّفة" الموبوءة التي تتشدّق بين الحين والآخر بمعارضتها للسّلطة لغايات مصلحيّة. وإنّما الوعي الثقافيّ الكامن لدى شريحة واسعة من التونسيّين – خاصّة الشّباب – لم يعدْ يُرضيها الاستقطاب الفكريّ ولا ثنائيّة السلطة / المعارضة. تحتاج إلى نَفَسٍ جديد -حتّى إنْ كان أوّليًّا وغير واضح- يضمن كرامتها ويحدُّ من سلسلة الانتهاكات التي مسّتْ الإرادة الفرديّة والجماعيّة على امتداد عقود. وهذا الوعي الثقافيّ يظهر في طبيعة منتخبي قيس سعيد الذين كانت نسبتهم العليا من الشّباب ومن أصحاب المستوى الجامعيّ.

لا يهتمّ الشّباب التونسيّ بوسائل الإعلام التقليديّة بعدما فقد ثقته فيها. التجأ إلى وسائل الاتّصال الحدثية ومواقع التواصل الاجتماعيّ التي تشكّلتْ ضمنها الحملة الانتخابيّة الأساسيّة بعيدًا عن الضوضاء و"العيون" وِفق مبدأ التضامن الفكريّ لاستعادة "الحلم المسلوب". أمّا الزيارات الميدانيّة للمُترشّح، فكانت غايتها ترسيخ صورته الشعبيّة والتصفية الرمزيّة للحضور "النخبويّ" لمنافسيه.

من وراء قيس سعيد؟ من أشرف على حملته؟

لا يهمّ إن كان حزب التحرير أو روابط حماية الثورة، أو المقاطعين للأحزاب، أو الشّباب، أو المهمّشين.. مثل هذا التنصيص عبثيّ ولا يؤدّي إلى نتيجة، فجميع الدّاعمين وإن اختلفتْ مشاربهم يجتمعون على كونهم "خوارج" عن المنظومة القائمة و"روافض" لها. لا يقبلون بأحكام الواقع الكائن، وإنّما يبحثون عن جذور تنشدّ إليها احتياجاتهم الراديكاليّة الكامنة..

ما هو مآل هذه الحركة العفويّة والمُخطَّط لها في آن؟

كلّ شيء محتمل. قد تتوقّف عند حدود الاستحقاقات الرئاسيّة. وقد تجد روافد لها في الانتخابات التشريعيّة لـ"تبقى وتتمدّد"، وتكون صدمة حقيقيّة ضمن أطر الاتّصال الثقافيّ المتباين. لكنّ يبقى الخطر الأكبر الذي ستواجهه مستقبلًا هو مشكلة القيادة، سواء بمحاولة احتوائها خارجيًّا أو بالصّراعات الداخليّة..

ننتظر لنرى..

 

اقرأ/ي أيضًا:

حتى لا يتحوّل القطاع الثّقافي إلى حطب انتخابي

في الرئاسيات.. لا تأمن السّكوت ولا تصدقن "البلعوط"