مقال رأي
انتظر المراقبون أن يبادر رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتوضيح موقفه مما شاع في الأيام الأخيرة من دعوات متواترة تدعو الى إسقاط نظام الحكم القائم لا سيما أن البعض ممن انخرط في هذه الدعوات كانوا من أنصاره إبان الحملة الانتخابية لرئاسيات 2019.
وكان في حكم المؤكد أن سعيّد لن يتأخر في نفي أي علاقة له بما راج خاصة وهو الضامن نظريًا بنص الفصل 41 من الدستور "لاستقلال الوطن وسلامة ترابه ولاحترام الدستور والقانون ولتنفيذ المعاهدات وهو يسهر على السير العادي للسلط العمومية الدستورية ويضمن استمرار الدولة". وأقسم أيضًا أمام مجلس نواب الشعب "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال الوطن وسلامة ترابه وأن أحترم دستور البلاد وتشريعها وأن أرعى مصالح الأمة رعاية كاملة".
خالف خطاب رئيس الجمهورية في قبلي بمناسبة تركيز المستشفى الميداني الذي تبرعت به دولة قطر كل التوقعات
غير أن خطاب رئيس الجمهورية في قبلي بمناسبة تركيز المستشفى الميداني الذي تبرعت به دولة قطر خالف كل التوقعات، وجاءت مضامينه مناقضة كليًا لكل التطلعات بل عززت الشكوك التي تشير إلى تبني الرئيس لجل تلك الدعوات هذا إن لم تكن صادرة عنه أصلًا.
ولعل أهم ما أشار إليه رئيس الجمهورية هو أن من يمتلك الشرعية لا يمتلك بالضرورة المشروعية، وأن الوكالة التي أسندها الشعب إلى نوابه يمكن له عمليًا سحبها بما أنه يبقى صاحب السيادة الأول، كما تهجّم مجددًا على الأحزاب السياسية وعلى البرلمان.
اقرأ/ي أيضًا: الرئيس و"شعبه العظيم"
وقد تكررت هذه المعاني في جل خطابات الرئيس مؤخرًا، ولعلها تصدر عن تغافل عن الدور الذي أوكله دستور تونس الجديد لساكن قرطاج، إضافة الى أنها لا تخلو من غرور ونظرة استعلائية لعلها تصدر عن سوء تقدير وعن تحليل خاطئ لنتائج الانتخابات الرئاسية بما هي تفويض شعبي شامل له. صحيح أن سعيّد قد تحصل على 2.7 مليون صوتًا في الدور الثاني في مواجهة منافسه نبيل القروي إلا أنه لم يتحصل في الدور الأول سوى على 620 ألف صوت. فالتفسير المنطقي الوحيد إذًا أن أكثر من مليوني تونسي لم يصوتوا لفائدة سعيّد بقدر ما صوًتوا ضد منافسه القروي وسبب ذلك واضح. ومما ساهم بفعالية كبرى في صعود سعيّد هو التفاف مجموعة كبرى من الأحزاب، تلك التي يهاجمها الرئيس اليوم، ومشاركتها الفعالة في حملته الانتخابية وفي عمليات المراقبة.
وبعيدًا عن النقاش القانوني في البحث عن مفهومي الشرعية والمشروعية، تكفي الاشارة إلى أنه وإن كان مفهوم الشرعية واضحًا دقيقًا يحيل على ما هو قانوني ومتطابق مع إرادة الشعب صاحب السيادة، فإن مفهوم المشروعية يصدر أساسًا عن ملكة التقدير والتقييم، فهو بالتالي نسبي بالضرورة ومنفتح دائمًا على الاختلاف في التأويل. ومادام الأمر كذلك، فبوسعنا التشكيك في مشروعية كل ما هو شرعي مهما كان موقعه. فماذا يمكن أن نجني اليوم من استدعاء مفهوم المشروعية في مواجهة الشرعية أو وضعهما معًا على نفس الصعيد؟
ماذا يمكن أن نجني اليوم من استدعاء مفهوم المشروعية في مواجهة الشرعية أو وضعهما معًا على نفس الصعيد؟
لا يخفى على المتابع أن كل انقلابات التاريخ انطلقت من ادعائها الانتصار إلى المشروعية من أجل إزاحة من كان شرعيًا. وآخر ذلك ما وقع في أرض الكنانة حين انقلب كيم جونغ أون الشرق على أول رئيس يمتلك شرعية الصندوق في تاريخ مصر، وهو لم يفعل غير ادعاء امتلاك المشروعية. وقد كشفت الوقائع بعد ذلك أن تلك المشروعية لم تكن سوى وليدة مؤامرات في غرف مظلمة تقودها غرفة عمليات ببصمة صهيونية لا لبس فيها، وبالنتيجة شهدت أم الدنيا أبشع مجازر التاريخ الحديث، وقد انتكست حتى على زمن دكتاتورية مبارك اللينة.
اقرأ/ي أيضًا: كورونا.. امتحان جماعي في ديمقراطية ناشئة
ومن الواضح جدًا أن هذه السيناريوهات تصادف هوى في نفوس البعض من أبناء جلدتنا، وهم في ذلك يلتقون موضوعيًا مع مقاربة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة حين روجوا لخرافة الاستثناء العربي في سماء الديمقراطية المفتوحة وكأنما في جينات العرب والمسلمين ما لا يمكن أن يتآلف سوى مع ألوان الاستبداد.
من يحمل سلاح المشروعية اليوم ليس بمنأى أن يُكتوى بنارها غدًا
وهل ثمة وهم أكبر من سردية المستبد العادل تلك التى تنسب إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ وهل من قبيل الصدفة تكرّر استشهادات رئيس الدولة بسيرة الفاروق؟
إن الحديث عن إمكانية سحب الوكالة ممن جاءت به إرادة صاحب السيادة الوحيد هو دفع للبلاد الى أعتاب الفوضى والانهيار. فعلى المستوى العملي، لا يوجد ما يمنع أن يكون هذا المصطلح الهجين سلاحًا جاهزًا سواء في أيادي كل من لفظته إرادة الشعب الحرة عبر آلية الصندوق من أجل قلب الموازين وفرض نظام حكم الأقلية (أوليغارشية) أو في أيادي من يترصدون فرص هبوب رياح خراب الوطن في الداخل أو في الخارج من أجل الإجهاز على أحلام الشعوب العربية في الالتحاق بقائمة الشعوب الحرة في العالم. وللتذكير، كان وزير الخارجية الأسبق للكيان الصهيوني سليفان شالوم (تونسي المولد) من أوائل من أطلق صرخة فزع غداة إقلاع طائرة بن علي مؤذنة بنجاح أول ثورة في دول الربيع العربي.
ومن المهم الإشارة إلى أن من يحمل سلاح المشروعية اليوم ليس بمنأى أن يُكتوى بنارها غدًا، بل قد يكون ذلك أكثر سلاسة وأقل كلفة. وإنما تُضرب الثورة في مقتل حين تشقها رياح الاختلاف ثم الخلاف من الداخل، وقد تكون رصاصة الرحمة في أيادي من كان يحسب أنه يحسن صنعًا.
اقرأ/ي أيضًا: