يحتفي العالم بتاريخ 15 سبتمبر/أيلول من كلّ عام باليوم الدولي للديمقراطية الذي استحدثته الأمم المتحدة عام 2007. أطلقت تونس موجة انتقال ديمقراطي في الوطن العربي بثورة 17 ديسمبر /14 جانفي 2011، امتدّت لدول المنطقة سواء عبر ثورات شعبية أو إصلاحات سياسية أطلقتها الأنظمة بنفسها. غير أن موجة الانتقال هذه لم تحقّق المبتغى بعد فشلها في إرساء لبنة أنظمة ديمقراطية مستقرّة، فيما ظلّت تونس، في المقابل، يُنظر إليها أنها النموذج المثالي في المنطقة العربية.
مثّل إعلان قرارات 25 جويلية 2021 وما تبعها من قطع مع المسار الدستوري وإطلاق مرحلة انتقالية جديدة، ردّة ديمقراطية يعكسها استفراد رئيس الدولة بإدارة الفعل السياسي وتراجع منسوب ممارسة حقوق الإنسان والحريات العامة
تباعًا، مثّل إعلان "التدابير الاستثنائية"، التي أطلقها الرئيس التونسي قيس سعيّد يوم 25 جويلية/يوليو 2021، وما تبعه من قطع مع المسار الدستوري وإطلاق مرحلة انتقالية جديدة، ردّة ديمقراطية يعكسها مستويين رئيسييْن: استفراد رئيس الدولة بإدارة الفعل السياسي بعد إقصاء أو تهميش القوى المدنية والسياسية في البلاد، وتراجع منسوب ممارسة حقوق الإنسان والحريات العامة.
وهو تراجع أكده تدحرج ترتيب تونس في المؤشر السنوي للديمقراطية لتبلغ المرتبة 85 عالميًا عام 2022، بعد بلوغها المرتبة 54 في مؤشر عام 2020، وإن حافظت على صدارتها عربيًا. تحوّلت تونس بذلك، بما حملته تدابير 25 جويلية من لحظة فارقة في التاريخ المعاصر للبلاد، ومن صنف البلدان ذات الديمقراطية غير الكاملة إلى صنف البلدان ذات النظام الهجين.
- لماذا فقدت تونس تصنيف النظام الديمقراطي؟
لا توجد مؤشرات صارمة وموحّدة مُجمع عليها في تقدير توصيف نظام ما بأنه ديمقراطي أم لا، ولكن يوجد توافق على معايير تُعتبر ضرورة في إطلاق التوصيف. لاري ديموند، أستاذ علم الاجتماع السياسي والمتخصّص في البحوث المعاصرة حول الديمقراطية، يعرض مقترحًا مفاده أن "الديمقراطية نظام حكم يقوم على مبادئ رئيسية منها نظام سياسي لاختيار الحكومة وانتقال السلطة من خلال انتخابات حرّة ونزيهة، ومشاركة فعّالة من المواطنين في الحياة السياسية والمدنية، وضمان وحماية حقوق الإنسان لجميع المواطنين دون استثناء، وحكم القانون المطبّق على الجميع دون تمييز".
في تفكيك قرارات السلطة السياسية بعد 25 جويلية/يوليو 2021، المعنونة بداية تحت عنوان "تدابير استثنائية" والمنتهية إلى إرساء مرحلة تأسيس دستوري جديد، فقد تمّ حلّ خمس مؤسسات وهي الحكومة والبرلمان والمجلس الأعلى للقضاء والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وهيئة الانتخابات، بالتوازي مع تولّي رئيس الدولة السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية عبر مراسيم، وتنصيب مجلس مؤقت للقضاء، مع إطلاق مسار انتقالي جديد مبتدؤه تعليق العمل بدستور 2014 وإعداد دستور جديد عبر هيئة معيّنة لم يعتمد رئيس الدولة، بالنهاية، مشروعها.
اتخذ قيس سعيّد قراراته إبان 25 جويلية 2021 بصفة أحادية، دون إشراك القوى الحزبية وكذلك القوى المدنية الرئيسية على غرار اتحاد الشغل وبالتالي أضعف بذلك معيار المشاركة السياسية
اتخذ رئيس الدولة هذه القرارات بصفة أحادية، دون إشراك القوى الحزبية الممثلة بالخصوص في البرلمان المنحل، وكذلك دون إشراك القوى المدنية الرئيسية على غرار اتحاد الشغل، الوسيط الرئيسي للحوار الوطني عام 2013. أضعف رئيس الدولة قيس سعيّد بذلك معيار المشاركة السياسية، الذي حاول، في المقابل، تصديره في مناسبتين: الاستشارة الوطنية حول الإصلاحات والاستفتاء العامّ حول الدستور، كلاهما عام 2022. واُعتبرتا محاولتين صوريتين لإضفاء الشرعية على نتائج محدّدة بصفة مسبقة، فعدا مثلًا ضعف المشاركة في الاستشارة (6% فقط من الجسم الانتخابي)، لم يحترم رئيس الدولة مخرجاتها ومن ذلك فرضه مسارًا لإنشاء دستور جديد على خلاف أغلبية المشاركين في الاستشارة. وفيما يتعلّق بالاستفتاء، فهو مشوب بهشاشة مقوّمات الشفافية والنزاهة على مستويات متعدّدة: استفراد رئيس الدولة بهندسة القانون الانتخابي، وتعيينه لأعضاء هيئة الانتخابات دونًا عن تنظيمه في سياق تقييد ممارسة الحريات السياسية والمدنية.
تحيل هذه النقطة لمعيار جوهري آخر وهو ضمان ممارسة الحريات العامة وحماية حقوق الإنسان. مؤشرات متعدّدة تكثّف نكوص تونس بخصوص هذا المعيار: إذ تراجع الترتيب العالمي في مؤشر حرية التعبير، حسب التقرير السنوي لمنظمة "المادة 19" بعشرين مرتبة من المرتبة 59 عام 2020 إلى المرتبة 79 عام 2022، مع تسجيل تراجع حاد في الترتيب العالمي في مؤشر حرية الصحافة من المرتبة 73 عام 2021 إلى المرتبة 121 عام 2023 مع فقدان الصدارة العربية.
تواتر إحالة المدنيين على القضاء العسكري بعيد 25 جويلية 2021 في تونس بمقدار لم تشهده سنوات ما بعد الثورة مجتمعة، وتصاعدت إثارة القضايا السياسية ضد المعارضين، وإصدار المرسوم عدد 54 الذي يتعارض والمقومات الدستورية والدولية لحرية الرأي والتعبير
تواتر إحالة المدنيين على القضاء العسكري بعيد 25 جويلية 2021 بمقدار لم تشهده سنوات ما بعد الثورة مجتمعة، وتصاعدت إثارة القضايا السياسية ضد المعارضين، وإصدار المرسوم عدد 54 الذي يتعارض والمقومات الدستورية والدولية لحرية الرأي والتعبير، جميعها عناوين رئيسية تعكس تدهور الوضع الحقوقي في تونس.
في جانب آخر، يعدّ دستور 2022 لوحده سببًا في فقدان تونس للطابع الديمقراطي لنظامها السياسي انطلاقًا من عنصرين جوهرييْن: محدودية الفصل بين السلطات وضعف ضمانات استقلالية القضاء. إذ كرّس الدستور نظامًا سياسيًا بصبغة رئاسوية مؤدية لعدم توازن بين السلطتين (أو الوظيفتين كما ورد في الدستور) التنفيذية والتشريعية، باعتبار أن الرئيس وحكومته غير مسؤولين أمام البرلمان مقابل إمكانية حلّ الرئيس للبرلمان الذي تراجعت صلاحياته الرقابية مقارنة بالدستور السابق.
كما حجب الدستور الجديد ضمانات الاستقلالية الوظيفية والهيكلية للقضاء سواء عبر إلغاء دسترة المجلس الأعلى للقضاء، وتمكين رئيس الدولة من دور تقريري في تعيين القضاة مقابل حذف المبادئ الدستورية المتعلقة بتحجير التدخّل في القضاء أو منع إنشاء المحاكم الاستثنائية أو الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية.
يعدّ دستور 2022 في تونس لوحده سببًا في فقدان تونس للطابع الديمقراطي لنظامها السياسي انطلاقًا من عنصرين جوهرييْن: محدودية الفصل بين السلطات وضعف ضمانات استقلالية القضاء
في الأثناء ومع تراجع التطبيق السليم لمعايير الحكم الديمقراطي، لا تزال مؤشرات حيوية بصدد العمل رغم التقييدات: يتحدث خبراء، في هذا الجانب، عن مقاومة مضادّة باعتبار أن الجنوح الممنهج عن تطبيق معايير النظام الديمقراطي لم يؤد لإلغائها بالمطلق. وهو ما يتحدث عنه رئيس الجمهورية، ولكن في سياق الردّ على اتهامه بإرساء نظام غير ديمقراطي، كحديثه عن مواصلة ممارسة حرية التعبير.
وبين الواجهة الديمقراطية المدعاة والاحترام النسبي لبعض معايير الحكم الديمقراطي من جهة، وواقع التشريعات والممارسات المتعارضة مع مسلتزمات الحكم الديمقراطي من جهة أخرى، تتبيّن مساحة رمادية. فليس النظام في تونس ديمقراطيًا سواء ديمقراطية كاملة أو ناقصة، وليس أيضًا نظامًا استبداديًا، هو نظام هجين (المستوى الثالث في مؤشر الديمقراطية وتنقيطه بين 4 و5.99 نقطة من 10). وهو النظام الذي تشترك فيه تونس مثلًا مع بلدان المغرب وموريتانيا عربيًا، وبلدان أخرى مثل تركيا وأوكرانيا وباكستان والمكسيك. وذلك بعد أن غادرت تونس نادي الدول الديمقراطية منذ إجراءات 25 جويلية 2021.
- التأثير السلبي لوباء كوفيد 19 على الديمقراطية: تونس نموذجًا
سجّل المؤشر السنوي للديمقراطية تراجعًا في العالم عام 2021 بشكل لم يشهده مطلقًا منذ انطلاقه عام 2006، وهو تراجع تزامن مع تفاقم أزمة وباء كوفيد-19، الذي حمل ضمن ارتداداته، تقلّص الثقة في نجاعة الأنظمة الديمقراطية، مع أثرها في إحداث اضطرابات في الحياة السياسية العامة، ولكن أيضًا مع توظيف الأزمة في التضييق على ممارسة الحريات العامة وأحيانًا تبرير القيام بتغييرات في السلطة خارج إطار الشرعية.
أكثر من ذلك، مثل الوباء فرصة لإنعاش السياسات الشعبوية، إضافة لما سبّبه من نتائج سلبية على الوضع المعيشي للناس، وبالتبعية تصاعد الضغوطات على الأنظمة الديمقراطية خاصة أمام حالة الإحباط والتشكيك في نجاعتها. ولذلك وأمام هذا التحدي الطارئ، لم يكن من قبيل الصدفة أن يحذّر أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش، بمناسبة الاحتفاء باليوم العالمي للديمقراطية عام 2021، من مخاطر توظيف قوانين الطوارئ لاستهداف الحريات وحقوق الإنسان باعتبار ما تمثله أزمة كورونا من تهديد بذاتها للديمقراطية.
مثل وباء كورونا فرصة لإنعاش السياسات الشعبوية حول العالم، إضافة لما سبّبه من نتائج سلبية على الوضع المعيشي للناس، وبالتبعية تصاعد الضغوطات على الأنظمة الديمقراطية خاصة أمام حالة الإحباط والتشكيك في نجاعتها
في هذا السياق العالمي، تعدّ تونس مثالًا نموذجيًا حول الأثر السلبي لوباء كوفيد 19 على الديمقراطية، وبالخصوص حول توظيف الوباء للانقلاب على المؤسسات الشرعية تحديدًا الحكومة والبرلمان بسبب الإحباط من القدرة على مواجهة الأزمة. إذ استغلّ رئيس الدولة قيس سعيّد، صيف 2021، تصاعد الانتقادات العامّة من أداء الحكومة، خاصة وأن تونس عرفت موجة حادة للوباء استلزمت وقتها لاستئناف العمل بإجراءات حظر الجولان الجزئي وتقييد حق التنقل للعاصمة. تبنّى رئيس الدولة، في المقابل، خطابًا علنيًا متمايزًا عن الحكومة والبرلمان، خاصة في ظلال الأزمة الدستورية بسبب عدم قبوله أداء عدد من الوزراء لليمين أمامه في جانفي/يناير 2021. كما ساهمت مشاهد المزايدات والعنف اللفظي داخل البرلمان في خيبة عامّة من أداء المؤسسة البرلمانية.
مثّل بذلك المزاج الشعبي، في ظل المعاناة من أزمة كورونا سواء على المستوى الصحي أو المعيشي، في تهيئة القبول العام للإجراءات الاستثنائية يوم 25 جويلية/يوليو 2021 التي كانت، بالمنطق القانوني البحت، مخالفة للدستور، وهو ما تأكد تباعًا من توظيف هذه الإجراءات لحلّ عدد من المؤسسات السيادية وفرض مسار دستوري جديد، انتهى لخروج تونس من نادي الدول الديمقراطية. ولكن هل كانت الديمقراطية قبل 25 جويلية مثالية؟
- ديمقراطية ما بعد الثورة: ديمقراطية غير كاملة
تتعدّد الانتقادات، سواء من الجمهور العام أو من فاعلين سياسيين وأيضًا خبراء، من النظام الديمقراطي قبل 25 جويلية/يوليو 2021، باعتباره لم يكن نظامًا مثاليًا، ويؤسسون ذلك أن فشله في تأمين حزام شعبي مدافع عنه هو خير دليل عن أنه ليس النظام المأمول المعبّر عن السيادة الشعبية وأيضًا الضامن لسيادة القانون. مؤشر الديمقراطية السنوي، طيلة سنوات ما قبل 2021، وإن صنّفت تونس منذ 2011 ضمن نادي الدول الديمقراطية، فإنها ظلّت في مستوى "الديمقراطية غير الكاملة" أو "الديمقراطية المعيبة" (أقصى درجة لتونس هي 6.72 من 10 مسجّلة عام 2015).
ظلّت مكوّنات الحكم الديمقراطي في تونس بين 2011 و2021 مشوبة بعيوب في مقدّمتها الفساد السياسي عبر انتشار المال السياسي الفاسد، ومنه التداخل بين فضاءات السياسة والمال والإعلام خارج الضوابط اللازمة في نظام ديمقراطي
ظلّت مكوّنات الحكم الديمقراطي في تونس بين 2011 و2021 مشوبة بعيوب في مقدّمتها الفساد السياسي عبر انتشار المال السياسي الفاسد، ومنه التداخل بين فضاءات السياسة والمال والإعلام خارج الضوابط اللازمة في نظام ديمقراطي، وأيضًا ضعف حكم القانون على الخارقين له. هذه الظواهر ترافقت مع ضعف في تنفيذ الإصلاحات التشريعية اللازمة على غرار منع محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري، وتكريس استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية فيما يتعلّق بإثارة الدعوى العمومية.
كما عرف التنزيل الدستوري بطئًا وبالخصوص عدم إنشاء المحكمة الدستورية التي كان يمكن لو اُحدثت أن تحلّ الأزمة الدستورية شتاء 2020 بشأن نزاع الصلاحيات بين كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وبالتبعية الحيلولة دون تصاعد الأزمة إلى غاية إعلان التدابير الاستثنائية في 25 جويلية/يوليو 2021. كما لم ينتخب البرلمان أيضًا الهيئات الدستورية بما في ذلك هيئة الاتصال السمعي البصري.
وليست الإصلاحات التشريعية فقط التي عرفت تذبذبًا، أيضًا الإصلاحات المطالب بها الجهاز التنفيذي، وعلى النحو الذي تناولته التوصيات المنشورة في إطار العدالة الانتقالية. في هذا الجانب، أدى فشل هذا الصنف من العدالة، الذي يستهدف تحقيق الوحدة الوطنية وإرساء مقومات دولة القانون، إلى تسريع فشل الانتقال الديمقراطي في تونس. لم تتواصل الديمقراطية غير الكاملة في تونس، في المقابل، لتتطوّر إلى ديمقراطية كاملة بل ارتدّت على نظام هجين.
عرفت تونس في ظرف 11 عامًا تحوّلّا بين ثلاثة أصناف في مؤشر الديمقراطية من دولة استبدادية (قبل 2010) إلى دولة ذات ديمقراطية غير كاملة (2011-2021) إلى دولة ذات نظام هجين (منذ 2021)
ختامًا، عرفت تونس في ظرف 11 عامًا تحوّلّا بين ثلاثة أصناف في مؤشر الديمقراطية من دولة استبدادية (قبل 2010) إلى دولة ذات ديمقراطية غير كاملة (2011-2021) إلى دولة ذات نظام هجين (منذ 2021). تتبيّن تباعًا ثلاثة احتمالات في المستقبل: إما الاستمرار في هذا النظام، وإما مواصلة الردّة لتبلغ صنف الأنظمة غير الديمقراطية أو السلطوية، وإما استرداد المسار الديمقراطي.
وهي احتمالات واردة في انتظار تقدير مآل الأزمة المعيشية المتصاعدة في البلاد، بين دفعها لمزيد الجنوح السلطوي أو مساهمتها في استرجاع مقومات الحكم الديمقراطي. فإن لم تستطع الديمقراطية غير الكاملة تأمين حدّ الرفاه أي تحويل المنجز السياسي إلى منجز اجتماعي، فإن النظام الهجين، حتى الآن، لم ينجح في هذا التأمين بل أدى إلى مزيد تدهور الوضع الاجتماعي. بذلك، تتعالى الأصوات الداعية بضرورة إيلاء المسألة الاجتماعية القدر الوافي في نداء محاولة إعادة الحكم الديمقراطي، باعتبار لزوم الترويج للديمقراطية بوصفها الطريقة المثالية للإدارة النافعة والناجعة لمصالح الناس.