22-أكتوبر-2021

"نظام استبدادي ناشئ يؤدي ميكانيكيًا إلى إعلام وظيفي في طور التحول" (صورة توضيحية/Getty)

 

مقال رأي

 

في دور رئيس تحرير واشنطن بوست في فيلم "الصحيفة 2017 The post"، قال توم هانكس: "إن أفضل طريقة لحماية الحق في النشر هي النشر". يتناول المخرج ستيفن سبيلبرغ في هذا الفيلم قضية "أوراق البنتاغون" والتي أثارت جدلاً إعلاميًا عندما قامت صحيفة نيويورك تايمز بنشر دراسة للبنتاغون تورّط الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ الرئيس أيزنهاور إلى الرئيس نيكسون في حرب فيتنام حيث تتضمن الدراسة تقارير لمحللين وقراءات لوقائع ميدانية تفيد باستحالة انتصار القوات الأمريكية، رغم ذلك واصلت الإدارة الأمريكية الكذب والمغالطات. 

قام الرئيس نيكسون آنذاك باستصدار أول أمر قضائي فيدرالي في تاريخ الجمهورية الأمريكية بمنع النشر. لتتحدى واشنطن البوست إثر ذلك هذا الأمر وتقوم بالنشر، ثم يمثل مالكو الصحيفتين ومحرروهم أمام المحكمة العليا التي انتصرت لحرية الصحافة المدسترة بـ 6 أصوات مقابل 3، وكان تعليق أحد القضاة، القاضي جاستس بلاك: "يجب أن تتمتع الصحافة بحرية تامة للوفاء بدورها الأساسي في الديمقراطية. والصحافة وجدت لخدمة المحكومين، لا الحاكمين". 

الملفت للنظر في قضية أوراق البنتاغون، وقضية ووترغيت، أنه لم يقع تعريض الصحفيين لتهم الخيانة وما إلى ذلك، كما هو الحال في البلدان العربية عندما يعارض صحفي/سياسي سياسة البلاد الخارجية

الملفت للنظر في قضية أوراق البنتاغون، وقضية ووترغيت، أنه لم يقع تعريض الصحفيين لتهم الخيانة وما إلى ذلك، كما هو الحال في البلدان العربية عندما يعارض صحفي/سياسي سياسة البلاد الخارجية. حتّى أنه في القضية الأولى، أوراق البنتاغون، وبينما كانت الولايات المتحدة تخوض حربًا على الأرض في فيتنام وما قد يمثله تسريب أسرار عسكرية من خطر على حياة الجنود ومعنوياتهم، إلاّ أن أقصى التهم كانت خرق قانون منع التجسس، والتي وجهت لدانيال إلزبارغ، المحلل الذي قام بالتسريب للصحافة، بينما لا يوجد ذكر لاتهامات بالعمالة، الخيانة، تهديد أمن البلاد أو غيرها من تلك التي تمتلئ بها معاجمنا "الوطنية". 

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام في تونس بعد 25 جويلية: حرية مهددة ومخاوف من عودة سطوة السلطة عليه

لا تزال مسألة الانتقال على مستوى الإعلام التونسي وتحوّله من ذراع إعلامية للبروباغندا، تحت نظامي بورقيبة وبن علي، إلى سلطة رابعة مطروحة للنقاش، شأنها شأن الانتقال الديمقراطي الذي صاحبه. 

ولعلّ من مظاهر فشل الانتقال الديمقراطي وعجز مختلف مكونات الساحة التونسية عن استيعابه، فشل الإعلام التونسي أن يتحول إلى سلطة رابعة، أي سلطة رقابة على السلطة الأخرى، خاصة السياسية، ومؤتمنة على حق التونسيين في الحقيقة. 

منذ المصادقة على دستور 2014، اتجهت خطوط التحرير للعديد من المؤسسات الإعلامية، خاصة المسموعة والمرئية، إلى محاولة خلق توازن مختل وفق ما تفرضه "مقتضيات" كل مرحلة، عبر استحضار لسان لكل طيف سياسي بما في ذلك السلطة، ومغالبة طيف ضد آخر وفق ما يقتضيه زواج المتعة بين السياسة والمال. 

فشل الإعلام التونسي في أن يتحول إلى سلطة رابعة، أي سلطة رقابة على السلطة الأخرى، خاصة السياسية، ومؤتمنة على حق التونسيين في الحقيقة

ومع كل تغيّر في المشهد السياسي، يقع خلط الأوراق وإعادة توزيع الأدوار، تغيب وجوه وتظهر أخرى، كما تخفت أصوات وترتفع أخرى، حيث تظهر أيادي "باعث القناة"، بمعنى المالكين، في التأثير على المنطوق الإعلامي لمؤسسة ما، وهو ما نستشفه من خلال التوجهات السياسية للضيوف و"الكرانكة"، حيث غالباً ما يتماهى الخط التحريري للمنابر مع المزاج السياسي للمالكين، حسب ما تبين من معطيات مبادرة Media ownership monitor.

في المقابل، يعيش حرفيّو القطاع، الصحفيون، ضمن هوية مهنية حزينة، على حد تعبير الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار الصادق الحمامي، في إشارة إلى هشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين. 

ليس الإعلام التونسي استثناء بل هو نتيجة لسياق نيوليبرالي عالمي حيث تسعى إدارات المؤسسات الإعلامية إلى خلق نوع من المشهدية القادرة على استيعاب كل الأصوات وبالتالي رفع نسب المشاهدة، ما يمكن وصفه بضرب من "السلعنة"، ومحاولة المشاركة في التحكم في الحياة السياسية كما كتبت الصحفية ماري بينيلد في مقالها بعنوان "ماكرون، مرشح الميديا" مع لوموند ديبلوماتيك. 

إلّا أن نتائج الانتخابات الرئاسية 2019، كانت وجهًا آخر من أوجه الفشل الإعلامي، حيث فاز المرشح الأقل حضورًا في المنابر الإعلامية (التقليدية)، ما طرح عدة تساؤلات أخرى عن دور الإعلام في الحياة السياسية في تونس. 

بالعودة إلى إجراءات 25 جويلية/ يوليو 2021 التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد وما تلاها من قرارات، لا ضرر من الإقرار أن ما حدث سبّب شللاً مؤقتًا في البداية. إلا أنه وبعد انقشاع دخان العربات العسكرية التي أغلقت باب البرلمان ومقر الحكومة في القصبة، بات من الواضح أن هناك "معتمدًا على الاستثناء" قد احتكر السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويستعد للانقضاض على السلطة الثالثة التي وصفها بـ"الضب" في إحدى مونولاغته، عبر تسليط ضغط سياسي رهيب على القضاء كما جاء في تصريح للقاضي السابق أحمد صواب.

بينما كان من المفترض أن تلعب السلطة الإعلامية دورها كسلطة مضادة، بعد اغتيال باقي السلطات والمؤسسات بعد 25 جويلية، إلّا أن العديد من المنابر والكاميرات احتضنت من يبرر ويشرعن لهذه الدكتاتورية الناشئة 

وبينما كان من المفترض أن تلعب السلطة الإعلامية دورها كسلطة مضادة، بعد اغتيال باقي السلطات والمؤسسات، للذود عن القيم الديمقراطية كحتمية الفصل بين السلط، إلّا أن العديد من المنابر والكاميرات احتضنت من يبرر ويشرعن لهذه الدكتاتورية الناشئة في إطار "التعبير عن الرأي"، ويهلل للاستبداد بالرأي وانتهاك حقوق الإنسان تحت غطاء الاستثناء والضرورة، فيما يبدي مديرو الحوارات تفهمًا لهذه المشروعية! أي مشروعية لأي انتهاكات؟ في انتظار غودو1 علّه يحمل إجابة. 

في كتابه المثقف والسلطة، يقول إدوارد سعيد: "ألا يتوقف المرء عن تذكير نفسه بأنه، باعتباره مفكراً ومثقفاً، يتحمل دون غيره مسؤولية الاختيار بين تصوير الحقيقة بأقصى ما يستطيع من طاقة، وبين سلبية السماع لراعٍ من الرعاة، أو سلطة من السلطات".. 

فضلاً عن تعالي قيس سعيّد عن الإعلام بصفة عامة والإعلام المحلي بصفة خاصة، والذي طالما أثار حفيظة وتشكيات عديد الصحفيين ونلمسه في الدعوات المتكررة من نقابة الصحفيين للرئاسة لتعيين ناطق رسمي والتعامل الإيجابي مع وسائل الإعلام، إلّا أن هذا لم يمنع معدّي البرامج من البحث عن "المفسّرين" لما يقوله سعيّد أو المساندين، في محاولة لموازنة الحوار عبر استحضار صوت للسلطة. 

وعند سؤال هؤلاء عن علاقتهم بالسلطة الممثلة حاليًا في شخص قيس سعيّد، يجيبون بأنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، أو مشروع "الإنقاذ الإلهي" (البناء القاعدي) في أقصى الحالات. أين يمكن لسلطة أن تجد من يدافع عنها ويبرر لها دون تكليف، علني على الأقل، دون تورط في تصريحات رسمية ودون أن تتحمل مسؤولية هذا التبرير وما يصاحبه من دعاية واندفاعات؟ 

اختص معدّو البرامج في البحث واستضافة "المفسّرين" لما يقوله سعيّد وعند سؤال هؤلاء عن علاقتهم بالسلطة الممثلة حاليًا في شخص قيس سعيّد، يجيبون بأنهم لا يمثلون إلا أنفسهم

يفترض أن للسلطة لسانًا تطرح عبره رؤيتها، برامجها تصوراتها، يمكن أن يكون لها ناطق رسمي، أو ممثلين عن القصر في حالتنا هذه، لتعقد الندوات الصحفية أين تقع الإجابة عن الأسئلة، ويقع استدعائهم للبلاتوهات الإعلامية ومعهم تعقد اللقاءات، حتّى يدافعوا عن توجهات السلطة ولإزالة كل التباس أو لغط، فيما يكتفي باقي الفاعلون الإعلاميون بدورهم كسلطة مضادة أمّا أن يكلّف البعض أنفسهم، سياسيين وإعلاميين، بالدفاع والتكلّم على لسان السلطة دون صفة رسمية، فهذا ما لا يمكن فهمه. 

بل يذهب هؤلاء أبعد من ذلك، فيعمدون إلى الانسياق في الحملات الغوغائية، بمهاجمة المعارضة، حيث صار من العادي أن تتم مساءلة معارض عن أسباب معارضته، ومحاصرته بمواقف سابقة ودعوته للتنسيب و"الاعتدال"، وإحراجه بالإشارة إلى تقاطع موقفه مع موقف طرف سياسي آخر يفترض أنه غريم له، وكأنّ الأصل في الفعل السياسي هو تبنّي المواقف بناء على ضدّية مفرطة في التشدد. 

اقرأ/ي أيضًا: الاتحاد الدولي للصحفيين: "قلقون جدًا لاعتقال صحفيين ينتقدون السلطة في تونس"

وهو خطاب يذكّرنا بالعهد البنفسجي (عهد زين العابدين بن علي)، إذ تم مؤخرًا إحياء عبارة "التمسّح على عتبات السفارات"، وتفعيل عدة عبارات من معاجم خيّل لنا أنّها ولت وانتهت صلاحياتها، على غرار معجم التطهير، الخونة، العمالة والاستقواء بالأجنبي وتشويه صورة الدولة، وهي أدوات الأنظمة الاستبدادية المفضّلة لتشويه معارضيها. 

تم مؤخرًا إحياء عبارة "التمسّح على عتبات السفارات"، وتفعيل عدة عبارات من معاجم خيّل لنا أنّها ولت وانتهت صلاحياتها، على غرار معجم التطهير، الخونة، العمالة والاستقواء بالأجنبي وتشويه صورة الدولة، وهي أدوات الأنظمة الاستبدادية المفضّلة 

طوال أسبوعين، صبّت الكثير من البلاتوهات غضبها على تصريحات الرئيس السابق المنصف المرزوقي حول القمة الفرنكوفونية التي أجلت لأسباب كانت واضحة منذ أسابيع بل منذ أشهر، أولها تحويل مكان إقامتها من تونس العاصمة إلى جربة التي كانت تعاني إلى وقت قريب من مشكلة الفضلات. 

في حين كان من الواضح أن قمة على جدول أعمالها مناقشة ضرورة فصل السلط، دولة القانون ودعم الديمقراطية، كقيم فرنكفونية، لا يمكن أن تنعقد في بلد يحتكر رئيسه كل السلط، كما جاء في مقال جون ولي روي، كاتب عام شرفي للفرنكوفونية، حيث قال: "إذ لم تعد الجائحة سببًا للتأجيل، لكن إصابة أخرى تلقتها تونس آخر ثلاثة أشهر، فيروس أصاب القيم الديمقراطية، دولة القانون وفصل السلط". 

ونصوص أخرى كتبت لم تتلقفها رادارات "الكرانكة"، بل ذهبوا إلى اجتراح التهم النوفمبرية، للتغطية على فشل التنظيم وظرفية الاستثناء، ورفع تهمة "الإساءة لصورة تونس بالخارج"، الحبيبة إلى قلب "زعبع" (كنية شهيرة لزين العابدين بن علي) أيام الرعونة والاستبداد. 

يتناسى أصدقاؤنا الصحفيون أن المرزوقي صوت منفرد مهما علا، وأن الدبلوماسية التونسية لها أرمادا (Armada) من الموظفين القادرين على تسويق الصورة التي يرون لو وجدوا ما يسوقونه. 

الأمر سيان بالنسبة لما لحق بسياسيين آخرين كأحمد نجيب الشابي وحمة الهمامي.. نظام استبدادي ناشئ يؤدي ميكانيكيًا إلى إعلام وظيفي في طور التحول. ربما يفهم من بعض الآراء أنه قد اتضح أن الأنظمة البرلمانية لا تليق ببلادنا ولا ضرر من التعديل نحو نظام رئاسي مع الحفاظ على المكتسبات الحالية، متناسين أن المكتسبات الحالية ليست إلا نتيجة للديمقراطية، وأن هشاشة هذه المكتسبات من هشاشة تلك الديمقراطية، فإن سقطت هذه الأخيرة في بين ليلة وضحاها، فما الذي يضمن الحفاظ على هذه الحقوق والحريات بعدما انتفت أسباب وجودها؟

علّها ضبابية المشهد أضاعت البوصلة، ولربّما تعتدل في قادم الأيام، أو أن النتيجة كما كتب إدوارد سعيد في نصه الذي أشرنا له أعلاه: "الطوطم دائماً ما يخذل عباده".

 

1ـ عنوان مسرحية لصامويل بيكيت، حيث تدور أطوار المسرحية بين شخصين ينتظران قدوم ثالث اسمه غودو لكن تنتهي المسرحية دون أن يأتي غودو

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

اقرأ/ي أيضًا:

الخارجية الأمريكية تعبر عن قلقها وخيبة أملها من تجاوزات طالت الصحافة في تونس

نقابة الصحفيين تؤكد رفضها التام لتتبع صحفيين على خلفية آرائهم وأفكارهم