26-فبراير-2024
القضاء التونسي

"إن الخوف في أوساط القضاة اليوم هو حقيقة مفروضة"

مقال رأي 

 

 ما الغاية من لزوم ضمان استقلالية القاضي؟ لا ريب، في المبتدأ، ضمان أن يكون في حلّ من أي سلطة تأثير وإكراه تؤثر على وجدانه في إصدار حكمه الذي يستهدف قيمة إنسانية سامية: العدل. ولكن حينما يعمل القاضي تحت ترهيب السلطة وتهديدها، يصبح وجدانه أسير خوفه من تبعات إصدار حكم يغضبها فيلقى منها ما يسوؤه ويضرّها، على نحو يجعل بوصلته ليس الحكم بالعدل بالحكم بما لا يغضب هذه السلطة.

القاضي في تونس اليوم، ومهما كان متمسكًا باستقلاليته في ضميره، يعلم موضوعيًا، أن السلطة السياسية سريعة الغضب، يسهل عليها معاقبة أي قاضٍ تراه يحكم بما لا تراه هي الصواب

القاضي في تونس اليوم، لا ريب أنه ومهما كان متمسكًا باستقلاليته في ضميره، يعلم، موضوعيًا، أن السلطة السياسية سريعة الغضب، على نحو ما تبيّنه تصريحات رئيس الدولة، يسهل عليها معاقبة أي قاضٍ تراه يحكم بما لا تراه هي الصواب. والماضي القريب حافل بشواهد متعددّة. يصبح القاضي بذلك وفي أدنى مستوى دومًا، أمام لزوم عدم إثارة ما يثير أي شبهة، فيما يجنح القضاة الطيّعون أي أولئك الذي يعرضون خدماتهم طوعيًا ليس فقط في سباق إبعاد شبهة ما، بل في إظهار الولاء التام.

حكم الدائرة الجناحية بالمحكمة الابتدائية بتونس بسجن المناضل السياسي جوهر بن مبارك ستة أشهر في الشكاية المرفوعة من هيئة الانتخابات على خلفية تصريح صحفي سابق له، هو مثال لمعنى الحكم الجائر في تونس. بن مبارك موقوف تحفظيًا منذ ما يزيد عن عام فيما تُسمى قضية "التآمر على أمن الدولة" التي أثارتها السلطة السياسية لتقييد حرية معارضين مزعجين لها لم يرتكبوا إلا حقهم في ممارسة حرية التعبير والاجتماع. وهو يخوض مع بقية الموقوفين إضراب جوع احتجاجي على إبقائهم رهن الإيقاف دون تقدّم في الملفّ ودون مواجهتهم بدليل إدانة. 

لازال تصريح رئيس الدولة بأن "من سيبرّؤهم فهو شريك لهم"، هو المثال المكثّف على كيفية صناعة قضاة الخوف

في الجلسة الأولى للقضية الجديدة المثارة للتذكير على معنى المرسوم 54 سيء الذكر، لم يحضر بن مبارك وطلبت هيئة الدفاع التأخير، وهو حق مكفول تنزيلًا لحق الدفاع. ولكن المحكمة وبدل الاستجابة للطلب، قرّرت حجز القضية للتصريح لتصدر حكمها المذكور. هو ببساطة تعسّف وتنكيل.

في الأسبوع نفسه، الدائرة الجنائية قضت أيضًا بسجن الرئيس السابق المنصف المرزوقي لمدة 8 سنوات بالنفاذ العاجل من أجل ما اُعتبر اعتداء على أمن الدولة، التهمة المتداولة للمعارضين في تونس اليوم، وذلك على خلفية تصريح. الحكم الغيابي الصادر هو الثاني ضد المرزوقي الذي كان قد صدر حكم قبل عامين بسجنه لمدة 4 سنوات أيضًا من أجل تصريح كان قد أغضب رئيس الدولة وقتها والذي لم يتردّد في طلب تتبّع الرئيس السابق. 

 

أحكام متتابعة أساسها تصريحات صحفية من رئيس سابق كان قد رفض، للمفارقة، تتبّع أي معارض له زمن رئاسته تمسكًا بحرية التعبير ورفعًا لأي شبهة في استهداف المعارضين. الآن مادام قد اُثير التتبع ضدّه، سواء بمبادرة من النيابة أو بطلب من السلطة السياسية، يصبح تقدير الإدانة هو الأصل لأن الفرضية المغايرة تجلب الشبهة للقاضي المتعهّد باعتباره من نسل "القضاة الفاسدين"، هكذا ببساطة.

لازال تصريح رئيس الدولة بأن "من سيبرّؤهم فهو شريك لهم"، وذلك في إشارة للموقوفين في قضية ما تُسمى "التآمر على أمن الدولة"، هو المثال المكثّف على كيفية صناعة قضاة الخوف. تهديد مباشر وعلني أن تبرئة الموقوفين يجعل القاضي في مرتبة الشريك، أي "المجرم". هو افتكاك لوجدان القاضي ليعوّضه قرار السلطة السياسية. يصبح القاضي بذلك أمام خيارين إما تقدير ما تريده السلطة وإما مخالفتها. 

إن القاضي الذي ترتعش يداه خشية من بطش السلطة وعصاها، هو قاض سجين السلطة نفسها. وهو يفتقد لصفة القاضي في العمق ليصبح موظّفًا ناطقًا باسم ما يخرج من أبواق السلطة

الخيار الثاني انتهى لمجزرة 1 جوان/يونيو 2022 حينما شمل قرار إعفاء تعسّفي قضاة رفضوا الامتثال لما يريده الرئيس في قضايا شملت معارضين له. هي إشاعة لمناخ الخوف والترهيب في صفوف القضاة الذين عاينوا مظلمة زملائهم التي استمرّت رغم استصدار جلّهم لقرارات بتوقيف تنفيذ الإعفاء صادرة من المحكمة الإدارية ولكن رفضت السلطة التنفيذية الامتثال لها.

إن القاضي الذي ترتعش يداه خشية من بطش السلطة وعصاها، هو قاض سجين السلطة نفسها. وهو يفتقد لصفة القاضي في العمق ليصبح موظّفًا ناطقًا باسم ما يخرج من أبواق السلطة. لا ينتج عدلًا بل ظلمًا بالضرورة. فهو ينظر في أوراق قضيته وعيناه ليست على مضمونها. فهو إن لم يتلق تعليمات في أسوأ الأحوال، فهو يقيس في تقديره وحكمه بما لا يغضب صاحب السلطة الذي ينادي بقضاء ينتصر للحظة التاريخية وفق قوله.

بالنهاية، إن الخوف في أوساط القضاة اليوم هو حقيقة مفروضة، فيما لازال أولئك الذين يصرّون على الانتصار لضميرهم والعدل هم قلّة تمّ إبعادهم من السلسلة الجزائية في مسارات النيابة والتحقيق على وجه الخصوص في الحركة القضائية الأخيرة. فلم يبق في المواقع المفاتيح إلا أولئك الذين إما أثبتوا فروض الطاعة أو الذين معلوم أن خوفهم سيغلب ضميرهم. وإجمالًا وفي كل الأحوال، القاضي الذي يخاف لا يمكن أن يحكم بالعدل.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"