مقال رأي
حتى من كانوا ضد المشاركة ومن أنصار المقاطعة منذ 25 جويلية/يوليو 2021، أصبحوا معنيين بإمكانية الترشيح أو دعم مرشح للانتخابات الرئاسية المزمع تنظيمها في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 في تونس. دخلنا عمليًا في هيمنة الزمن الانتخابي على السياق السياسي العام.
أن يكون النظام الحالي شبه تسلطي لا يعني أنّ الانتخابات ملهاة بل يعني، كما يقول التاريخ، إنّها مناسبة لمعركة سياسية تدفع في أقلّ الحالات نحو أن يكون المعنيون بالترشح والناخبون أحرارًا في الوصول إلى صناديق الاقتراع وضمان عدم تزوير أصواتهم. قلنا ذلك مرارًا في مرحلة ما بعد 25 جويلية 2021، لكن أضاعت القوى المعنية أو التي تعلن رغبتها في دمقرطة الحياة السياسية طاقتها في معركة "طهورية" حول نزاهة الانتخابات.
يمكن القول إنّ النظام في تونس الآن على حدود التسلطية، هو بين ضفاف أنظمة مثل تركيا والمجر وأنظمة مثل الجزائر ومصر، نظام سياسي لا يزال حائرًا بين تنافسية في الحد الأدنى وتنافسية شكلية محضة
في الأنظمة شبه التسلطية، تركيا والمجر مثلًا بدرجات، لا يمكن وصف الانتخابات بأنها غير حرة بشكل مطلق ولو أنها بشكل كبير غير نزيهة. هناك ضبابية في مدى تحقق التنافسية. يمكن القول إنّ النظام في تونس الآن على حدود التسلطية، هو بين ضفاف أنظمة مثل تركيا والمجر وأنظمة مثل الجزائر ومصر، نظام سياسي لا يزال حائرًا بين تنافسية في الحد الأدنى وتنافسية شكلية محضة، وستكون هذه المحطة الانتخابية حاسمة في خصوص أيّ الاتجاهين سيستقر عليهما النظام السياسي.
لو نتمعن الآن في سياق ما قبل الانتخابات لا يمكن أن نقول إنّنا إزاء حالة تنافسية واضحة المعالم حيث يمكن لكل الراغبين في الترشح توقع قبولهم "إداريًا" من الهيئة الانتخابية المعنية بالعملية الانتخابية، المعينة أساسًا من السلطة التنفيذية.
بالمناسبة أن تكون الهيئة الانتخابية تتبع إدارة الدولة لا يبطل حرية الانتخابات بالضرورة وهو حال دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا، أعرق الديمقراطيات، لكنّ الحاجة لهيئة مستقلة وتنبع من إرادة الناخبين ولو بشكل غير مباشر تعود لتاريخ طويل من تدخل أجهزة الدولة في العملية الانتخابية بشكل يمنعها أن تكون حرة. ذلك الميراث والذهنية المستقرة هما ما يبرران التخوف من هيئة غير مستقلة من السلطة التنفيذية، لكن النزعة نحو الفرز عبر قرارات إدارية واضحة خاصة في التمييز في إسناد البطاقة عدد 3.
المرسوم "54" و"البطاقة عدد 3" و"التوكيل" و"الإمضاء المعرف"، عناوين البؤس المتواري وراء "الفصول" و"النصوص".. هذه الأوراق والإداريات والبيروقراطيات يعلوها غبار كثيف قادم من أعماق الذهن السلطوي
المرسوم "54" و"البطاقة عدد 3" و"التوكيل" و"الإمضاء المعرف"، عناوين البؤس المتواري وراء "الفصول" و"النصوص". هذه الأوراق والمطبوعات والإداريات والبيروقراطيات والقانونجيات، مثخنة برائحة رطوبة متعفنة، ويعلوها غبار كثيف، وتبدو دائمًا صفراء قاحلة، قادمة من أعماق الذهن السلطوي العابر للقارات والثقافات. كان القانون أغلب تاريخ البشرية، للأسف، "صنعة" لتجسيم الظلم واللامساواة، ووسيلة للمفارقة والتحريم الواقعي للعدل.
المثال الفاقع لعلاقة "القانون" بالظلم والأشهر "قانون ساكسونيا"، حيث استصدر الأسياد النبلاء للمقاطعة الألمانية تشريعات مؤسسة على الأصل الاجتماعي، تفرق بين عقوبات الأغنياء والفقراء. وهكذا عند معاقبة جريمة القتل يتم تنفيذ عقوبة القاتل إذا كان فقيرًا بقطع رأسه وفصلها عن جسده، أما النبلاء فيتم قطع رأس ظل القاتل بعد وقوفه في الشمس. وعندما يكون الحكم بالجلد فإنه يتم تنفيذ الجلد على الفقراء علنًا وفي الساحات، أما تنفيذ الجلد بالنسبة للنبلاء فيكون بإحضار المتهم ليقف في الشمس ويجلد ظله. المعنى الأساسي لـ"قانون ساكسونيا" هو أنّ التشريعات مجعولة للتمييز وليس المساواة.
من بين أسباب تواصل الغموض في قائمة المرشحين، الصعوبات التي يواجهها المرشحون لجمع التزكيات خاصة إذا اتجه المرشح إلى طلب تزكية 10 آلاف مواطن
كان ولا يزال هناك طريق وحيد يسقط كل القوانين المماثلة لـ"قانون ساكسونيا"عندما يقرر الناس فرض قانون الشارع وفرض العدالة، ونفض غبار الأوراق الصفراء، وصناعة قواعد جديدة، إلى أن تتحايل نخبة أسياد جديدة بقوانين جديدة، وأحيانًا يتبادل النبلاء والفقراء الأدوار، وهكذا دواليك.
بالعودة إلى موضوع "الانتخابات الرئاسية" فإن تواصل الغموض في قائمة المرشحين، أسبوعين قبل انقضاء آجال التقديم النهائي للترشح، يعود أيضًا إلى الصعوبات التي يواجهها المرشحون لجمع التزكيات خاصة إذا اتجه المرشح إلى تزكية عشرة آلاف مواطن. هناك مستويين من الصعوبات الآن، الأول موضوعي يتعلق بما هو لوجيستي خاصة أنّ الدوائر الانتخابية أصبحت صغيرة، وجمع 500 تزكية على الأقل على مستوى 10 دوائر لن يكون عملية سهلة. والثاني يتعلق بالسياق السياسي، أي من جهة لدينا نفور عام من النشاط السياسي ومن جهة أخرى هناك سريان للخوف بين المواطنين خاصة أنّ قائمة التزكيات سيتم نشرها للعلن.
هناك مرشحون في المقابل ضامنون لشرط التزكيات من خلال اتجاههم إلى نواب من أحزابهم أو قريبين منهم وهي حالة مرشح حركة الشعب زهير المغزاوي.
هناك من جهة نفور عام من النشاط السياسي في تونس ومن جهة أخرى هناك سريان للخوف بين المواطنين خاصة أنّ قائمة التزكيات سيتم نشرها للعلن
في المقابل، يتقدم الرئيس قيس سعيّد كمرشح "الضرورة" بالنسبة للدولة وأنصاره في حملة انتخابية غير معلنة من خلال التنقل عبر جميع أنحاء البلاد من الشمال إلى برج الخضراء.
الملفت للانتباه أنّ "البرنامج" الانتخابي للرئيس ليس إعلان حلول واضحة للمشاكل القائمة أو مراجعة حصيلته في الحكم وتوضيح كيف سيبني عليها، بل الإمعان في اعتبار أنّه في معركة دائمة لا تنتهي مع المؤامرات والمتآمرين. الرئيس الذي يتقدم دائمًا بعنوان أنه يمثل الشعب ومهجته يعتبر المؤامرتية منهجية أساسية في الخطاب. أتحدث عن ذلك بالتفصيل في مقال صدر أخيرًا في كتاب عن دار نشر Routledge وتحت إشراف وتنسيق الباحث الأبرز في المؤامراتية الألماني مايكل باتر (Michael Butter).
في الحد الأدنى حتى وإن سقط النظام في امتحان تنافسية وحرية الانتخابات فإنه سيتضرر من انتخابات لا تلقى إقبالًا كبيرًا.. خاصة أنّنا سنقوم بمقارنة بديهية بين 3 ملايين صوت في انتخابات 2019 والانتخابات القادمة
المسكوت عنه في هذه المنهجية أنّ الرئيس ليس معنيًا بتقديم "برنامج" أو "وعود". هو لا يزال، كما يقول، في "حرب تحرير وطني"، أي في تهديم القديم وليس البناء، باستثناء بناء نظامه السياسي "القاعدي"، الذي لا يمكن أن يحل بذاته المعضلات الاقتصادية والاجتماعية وتداعيات الهجرة غير النظامية والعجز في الميزانية والمسائل الاستراتيجية مثل الشح المائي والطاقي وتراجع مستويات الرعاية الصحية والتعليم. هل سيكتفي الناخبون بهذه الحجة، أي أولوية التهديم على البناء من خلال التركيز على نظرية المؤامرة، للذهاب أفواجًا إلى صناديق الاقتراع وانتخابه؟ يبدو الأمر غامضًا أيضًا، بمعزل عن قائمة المرشحين المنافسين.
في الحد الأدنى حتى وإن سقط النظام في امتحان تنافسية وحرية الانتخابات فإنه سيتضرر من انتخابات لا تلقى إقبالًا كبيرًا. فرق كبير بين أن تكون مشروعية مجلس بدون صلاحيات مجروحة بنسب مشاركة ضعيفة وشرعية رئيس الجمهورية الذي يمسك بمعظم الصلاحيات التنفيذية، خاصة أنّنا سنقوم بمقارنة بديهية بين الثلاثة ملايين صوت في انتخابات 2019 والانتخابات القادمة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"