10-مارس-2024
مقترح قانون عدول الإشهاد بين المطالب القطاعية وحسابات السلطة

تتبيّن بوادر صراع قطاعي حول التنازع في الاختصاصات بين عدول الإشهاد والمحامين (صورة توضيحية)

 

لازال الجدل يتصاعد بشأن مقترح قانون عدول الإشهاد المقدّم منذ نهاية العام المنقضي، خاصّة بعد قرار مكتب البرلمان التونسي، إحالته مؤخرًا على لجنة التشريع العامّ تمهيدًا لمناقشته، بعد سابق تأجيل بعنوان لزوم ضمان التشاركية بشأنه خاصّة وأنه يمسّ من اختصاصات مهن أخرى في مقدّمتها المحاماة التونسية

وبين إصرار جمعية عدول الإشهاد على تمرير المقترح على حالته، ورفض هيئة المحامين ذلك، مع التزام السلطة وتحديدًا وزارة العدل التونسية، سلطة الإشراف على مهنة العدول، الصمت، تتبيّن بوادر صراع قطاعي في ظلّ اعتكاف السلطة عن فتح ورشة الإصلاحات في المنظومة القضائية بما يشمل المهن المرتبطة بها بمقاربة تشاركية لا صدامية.

تتبيّن بوادر صراعٍ قطاعيّ بين إصرار جمعية عدول الإشهاد على تمرير مقترح قانون على حالته، ورفض هيئة المحامين ذلك، مع التزام وزارة العدل الصمت

إصلاح يظهر أنه ليست أولوية للسلطة التي استثمرت في المقابل في استهداف ضمانات استقلالية القضاء وإضعاف ضمانات المحاكمة العادلة. وضع جعل جمعية العدول، التي تنتظر منذ سنوات قانون المهنة، تعوّل على تمرير مشروعها عبر نواب البرلمان. فيما لازالت هيئة المحامين، من جهتها، تنتظر قانونًا جديدًا للمهنة، وهي الآن ترصّ الصفوف لمواجهة قانون العدول الذي يُنظر بأنه يستهدف مباشرة وبالخصوص المحاماة.

ما هي نقاط الخلاف بشأن مقترح القانون؟

تأخّرُ إصدار قانون جديد، طيلة السنوات المنقضية، ينظّم مهنة عدول الإشهاد، التي لازالت تحتكم لقانون يعود لعام 1994، مثلهم كعدول التنفيذ الذي صدر قانونهم عام 2018، مأتاه التباين بين مطالب الجمعية الوطنية لغرف عدول الإشهاد من جهة، ووزارة العدل وهيئة المحامين من جهة أخرى. تباين يتركّز حول نقطتين جوهريتين هما الاختصاصات الحصرية للعدول والقوة التنفيذية للحجة العادلة.

هيئة المحامين التي تنتظر قانونًا جديدًا للمهنة، هي الآن ترصّ الصفوف لمواجهة قانون العدول الذي يُنظر بأنه يستهدف مباشرة وبالخصوص المحاماة

المبادرة التشريعية المقترحة تضمّنت تبنيًا تامًا لمشروع جمعية غرف العدول التي نصّت على توسيع كبير في قائمة المحرّرات التي يختصّ العدول لوحدهم بتحريرها. قائمة تشمل العقود الناقلة للملكية للعقارات المسجلة وغير المسجلة والتواكيل المتعلقة بها وكتائب الاعتراف بدين وعقود الإحالة في الشركات وحتى عقود الاستشهار والرعاية. توسيع يؤدي لشكلية الحجة العادلة كشرط صحة لعديد التصرفات القانونية، وبما يؤدي بالتبعية، وفي المقابل، لتقليص اختصاصات المحامين في تحرير العقود بل إلغائها خاصة فيما يتعلق بالتصرفات المتعلقة بالعقارات. وقائمة التوسيع شملت حتى اختصاصات حاكم الناحية بتمكين العدول حصريًا من صلاحية تحرير حجج الوفاة.

نقطة الخلاف الأخرى تعلّقت بإعطاء الحجة العادلة، أي الحجة المحررة من عدل إشهاد، القوة التنفيذية على نحو يمكّن الدائن الماسك لسند دين ثابت ومعيّن وحال من مباشرة أعمال التنفيذ عبر عدل منفذ دون التقاضي للحصول على سند قضائي تنفيذي. تؤسس جمعية غرف العدول هذه الصلاحية على لزوم تيسير استرداد الثقة في المعاملات وتقليص الزمن القضائي مستشهدة باعتماد عديد الأنظمة القانونية الأجنبية، وبينها دول كبرى، على القوة التنفيذية لمحرّرات عدول الإشهاد. الأمر الذي يرفضه المحامون بعنوان خطورة التخلي عن الرقابة القضائية. رقابة يؤكد العدول على وجودها من بوابة القضاء الاستعجالي في صورة معاينة إشكال تنفيذي، ولكن يقدّر المحامون عدم كفايته لتأمين رقابة ناجعة على الالتزام التعاقدي على وجه الخصوص. كما يأتي الاحتجاج من قانونيين بعنوان أن تكريس الشكلية في العقود يتخالف والرضائية باعتبارها الأساس المبدئي في التعاقد.

تأخّرُ إصدار قانون جديد طيلة سنوات، ينظّم مهنة عدول الإشهاد، مأتاه التباين الذي يتركّز حول نقطتين جوهريتين هما الاختصاصات الحصرية للعدول والقوة التنفيذية للحجة العادلة

وقد تضمّنت المبادرة التشريعية، في الأثناء، مقترحًا آخر أثار جدل واسع وهو اختصاص العدول في توثيق الطلاق الرضائي، وهو ما يعني التخلي عن مبدأ الطلاق القضائي الوارد في مجلة الأحوال الشخصية الذي يفرض الطلاق عبر رفع دعوى قضائية. مقترح المبادرة مستلهم من القانون الفرنسي الذي فتح الباب، في السنوات الأخيرة، من توثيق الطلاق بالتراضي عبر محرّر يكتبه محام ويوثّقه عدل الإشهاد دون لزوم رفع دعوى. مقترح المبادرة التشريعية الآن اُعتبر مساسًا من مبدأ جوهري في الأحوال الشخصية في تونس، طالما تم تقديمه كمكسب ضمن المنظومة الحقوقية للمرأة.

بين غياب ورشة إصلاح العدالة وتنامي القطاعية

تضمّن مقترح القانون عدة نقاط أخرى تعلّقت بتنظيم عدالة الإشهاد وامتيازاتها اُعتبرت تعبيرًا عن قطاعية مرفوضة، على غرار اشتراط دفع مبلغ قدره 10 آلاف دينار كتأمين في صورة رفع دعوى جزائية ضد عدل إشهاد لا تُسترجع إلا في صورة صدور حكم إدانة بات، وتقليص دائرة الالتحاق بالمهنة خارج إطار المناظرة.

أدى غياب ورشة إصلاح العدالة، إلى تنامي سعي كل قطاع لتوسيع مجاله على نحو يؤدي لرفض قطاع آخر، وهو ما أدى لاختلاق سياق أزمة دائم

يظهر النقاش في الأثناء حول المبادرة في إطار تنازع اختصاصات بين عدول الإشهاد والمحامين على وجه الخصوص، عبر ما ظهر سعي كل مهنة لحماية اختصاصاتها وتوسيعها. مشهد تنافس قطاعي بعناوين مختلفة: عناوين الأمن التعاقدي وتحسين مناخ الاستثمار والشفافية التي ترفعها غرفة عدول الإشهاد، تقابلها عناوين حماية حق الولوج للعدالة والأمن الاجتماعي ومكتسبات المرأة التي ترفعها هيئة المحامين للتصدي للمبادرة التشريعية.

تظهر السلطة، في الأثناء، مسؤولة عبر عدم إطلاقها لمشروع إصلاحي شامل للعدالة يتضمن مراجعة لكل القوانين خاصة الإجرائية منها وبما يشمل نظام تحرير العقود، وهي مراجعة تمتدّ للمهن القضائية في إطار تطوير العدالة وتأمين تحقيق غاياتها. وهو الأمر الذي يفترض التخلي عن المقاربة القطاعية لكل مهنة على حدة. إذ أدى غياب ورشة الإصلاح هذه إلى تنامي سعي كل قطاع لتوسيع مجاله على نحو يؤدي لرفض قطاع آخر، وهو ما أدى دائمًا لاختلاق سياق أزمة.

تراجع مكاسب المحاماة منذ 25 جويلية

وجه عميد المحامين مراسلة رسمية إلى رئيس البرلمان تعبيرًا عن رفض مقترح قانون عدول الإشهاد باعتباره "يمسّ من كينونة مهنة المحاماة ووجودها". لازالت تُنتظر في الأثناء قدرة غرفة عدول الإشهاد على تأمين حزام برلماني لتمرير المقترح في ظل تقديرات أن عدد النواب الداعمين تراجع بشكل لافت، خاصة بعدما أثاره المقترح من جدل واسع. وعدا موقف الرفض من هيئة المحامين، يقدّر البعض صعوبة تمكين السلطة التنفيذية من تمرير المصادقة على تشريع ينظّم مهنة عدول الإشهاد في شكل مقترح من نوّاب وليس عبر مشروع حكومي، خاصة وأن وزارة العدل هي سلطة الإشراف حاليًا على هذه المهنة. ويظلّ السؤال، في هذا المضمار، إن ما كانت ستسعى الوزارة لاستعادة المبادرة عبر استئناف مسار إعداد مشروع قانون لعدول الإشهاد.

تتصاعد الخشية من توظيف السلطة السياسية لما يظهر تنازعًا قطاعيًا بين عدول الإشهاد والمحامين، لمزيد ممارسة ابتزاز خفيّ عنوانه مقايضة موقف هذه الهيئات من القضايا الوطنية والحقوقية بالملفات المهنية البحتة

في الأثناء، يمثّل التصدي للمقترح تحديًا جديدًا للمحاماة الرسمية وهي التي شهدت تراجعًا في مكتسبات المهنة منذ 25 جويلية/يوليو 2021، بداية من إلغاء دسترتها وصولًا إلى إقصاء المحامين مطلقًا من تركيبة المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة الدستورية على حدّ السواء. كما لازالت الهيئة تنتظر تشريعًا موعودًا ينظم المهنة بدل مرسوم 2011. وقد ترافق هذا التراجع، للمفارقة، مع انغماس العميد السابق إبراهيم بودربالة، وهو رئيس البرلمان الحالي، في دعم مسار الانحراف بالدستور بعد 25 جويلية/يوليو والتغطية على الانتهاكات الحقوقية والمحاكمات السياسية التي استهدفت المحامين على وجه الخصوص. بذلك، ظهر أن التفريط في مكاسب المهنة والانحياز للسلطة السياسية على حساب مبادئ المهنة وقيمها التاريخية، لم يكن إلا البداية لمسار إضعاف المهنة، وهي اليوم تواجه مبادرة تشريعية تمسّ في العمق من اختصاصات المحامين.

وتتصاعد الخشية، في الأثناء، من توظيف السلطة السياسية في السياق الحالي لما يظهر تنازعًا قطاعيًا بين عدول الإشهاد والمحامين، لمزيد ممارسة ابتزاز خفيّ عنوانه مقايضة موقف الهيئات المهنية من القضايا الوطنية والحقوقية بالملفات المهنية البحتة.