مقال رأي
دعا الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، الذي لطالما عبّر الرئيس قيس سعيّد عن اقتدائه به، لأبي موسى الأشعري، في رسالته الشهيرة، بألا يتكلّم بحق لا نفاذ له. استحضرني هذا الإرشاد العُمري، من باب المفارقة، إثر تأكيد رئيس الدولة، حسب بلاغ رئاسة الجمهورية بتاريخ 15 جويلية/يوليو 2024 عند استلامه للتقرير السنوي للمحكمة الإدارية عام 2022 من رئيسها، "على أهمية دور المحكمة الإدارية في فرض احترام القانون وخاصة في مادة تجاوز السلطة".
من باب المفارقة تأكيد الرئيس عند استلامه التقرير السنوي للمحكمة الإدارية لعام 2022 على "أهمية دور المحكمة في فرض احترام القانون وخاصة في مادة تجاوز السلطة" وهو من رفض تنفيذ أحكامها في علاقة بإيقاف تنفيذ قرار إعفاء قضاة
لا ريب أن هذا التقرير يتضمّن قرارات رئيس المحكمة نفسه بتاريخ 9 أوت/أغسطس 2022 بإيقاف تنفيذ أمر رئيس الدولة نفسه أيضًا بخصوص إعفاء 49 قاضيًا من جملة 57 قاضيًا شملهم سيف المذبحة القضائية في 1 جوان/يونيو من نفس العام. قرارات قضائية نافذة بقوة القانون امتنعت السلطة السياسية عن تنفيذها. فعن أي فرض لاحترام القانون خاصة في مادة تجاوز السلطة المؤسسة عليها الدعاوى الأصلية الصادرة في شأنها قرارات إيقاف التنفيذ. شتّان بين القول المزعوم والفعل الواقع.
لا حاجة للتذكير بمكامن التعسّف في أمر الإعفاء بما تضمّنه من نسف لأبسط الضمانات القانونية بداية من مبدأ المواجهة وحق الدفاع، على نحو لم يكن هذا الأمر إلا "بلدوزر" استعملته السلطة السياسية لوضع يدها على القضاء وإشاعة مناخات الخوف في صفوفه.
لم يكن رفض تنفيذ قرارات رئيس المحكمة الإدارية إلا إمعانًا في إشاعة أجواء الترهيب ما دام لا قضاء إلا أمر الرئيس ولا نفاذ لأحكام المحاكم
هنا وبالخصوص، لم يكن رفض تنفيذ قرارات رئيس المحكمة الإدارية إلا إمعانًا في إشاعة أجواء الترهيب ما دام لا قضاء إلا أمر الرئيس ولا نفاذ لأحكام المحاكم. انغماس وزارة العدالة في الردّ على دعوى إيقاف التنفيذ ومن ثمّ استنكافها عن تنفيذ الحكم لأنه لم يعجبها معلنةً إثارة تتبعات جزائية ضد القضاة المعفيين، يؤشر على سلوك يتعارض وأبسط مقومات دولة القانون. رفض التنفيذ بالنهاية هو فرض لمنطق القوة على قوة القانون.
لا بأس من التذكير أيضًا، في هذا المقام، أن قرار إيقاف التنفيذ تأسس على عدم الإفصاح عن أسباب الإعفاء وبيان الأفعال والوقائع التي تأسّس عليها بما استحال على المحكمة الإدارية بسط رقابتها من الناحية الواقعية لا سيّما وقد استقرّ فقه قضاء المحكمة، على النحو الوارد في نص الحكم، على أن شرعية القرار الإداري تقتضي ثبوت الوقائع التي انبنى عليها.
"تجاوز السلطة" مارسته السلطة مرّتين الأولى بإصدار أمر الإعفاء التعسفي للقضاة في انتهاك للضمانات القانونية وضرب لاستقلالية القضاء، والثانية بالإمعان في الدوس على مبادئ دولة القانون وفي مقدمتها مبدأ نفاذ أحكام القضاء
وعودةً للرسالة العمرية وفي تفسيره لمعنى "لا تتكلم بحقّ لا نفاذ له"، يؤكد الفقيه ابن القيم الجوزية في "إعلام الموقعين" على وجوب تنفيذ الحكم الصادر عن القاضي إذا اكتسب الدرجة القطعية، فلا قيمة للحكم ما لم يكن له قوة التنفيذ. والتنفيذ محمول في حالتنا على أجهزة الدولة في مقدمتها رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة ووزارة العدل، ذلك أن القرارات الصادرة في مادة توقيف التنفيذ غير قابلة للطعن وواجبة التنفيذ.
بل أن خلاف ذلك يشكّل جرائم جزائية. وفي هذا الصدد، قدمت هيئة الدفاع عن القضاة المعفيين شكايات جزائية ضد وزيرة العدل من أجل عدم تنفيذ أحكام المحكمة الإدارية خاصة وأن الفصل العاشر من قانون المحكمة نفسه ينصّ أن عدم تنفيذ قراراتها هو "خطأ فاحش معمّر للسلطة الإدارية المعنية بالأمر". كما أن "تعطيل قرارات السلطة القضائية" و"سوء التصرف في الأموال العمومية" من صور الفساد طبق الفصل الثاني من قانون الإبلاغ عن الفساد وحماية المبلّغين. دون على معاقبة الفصل 315 من المجلة الجزائية "الأشخاص الذين لا يمتثلون لما أمرت به القوانين والقرارات الصادرة ممن له النظر". شكاية مودعة لدى النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس منذ جانفي/يناير 2023 دون النظر فيها على نحو يؤكد التعامل التمييزي للنيابة في واقع قضاء الموالاة.
فشل الرئيس في امتحان الالتزام بحكم القضاء، لذلك قبل حديثه عن أهمية دور المحكمة الإدارية في فرض احترام القانون، كان عليه تنفيذ أحكام القضاء
في الأثناء، كان لافتًا إسقاط رئيس الدولة في دستوره الذي كتبه بنفسه في صيف 2022 على الفصل الدستوري الذي يحجّر عدم تنفيذ الأحكام القضائية دون موجب، وهو فصل وارد في دستور 2014 وتبنّته لجنة إعداد دستور 2022 المعروفة بلجنة الصادق بلعيد، والتي طوى الرئيس مشروعها ليفرض مشروعه للاستفتاء. إسقاط الفصل كان مريبًا، ليتبيّن تباعًا أنه كان بوّابة لتيسير التصدّي لأحكام القضاء على نحو ما انكشف بشكل بيّن في قرارات إيقاف تنفيذ القضاة المعفيين.
"تجاوز السلطة" مارسته السلطة مرّتين الأولى بإصدار أمر الإعفاء التعسفي في انتهاك للضمانات القانونية وضرب لاستقلالية القضاء، والثانية بالإمعان في الدوس على مبادئ دولة القانون وفي مقدمتها مبدأ نفاذ أحكام القضاء، ذلك أن دونها فرض لحكم الحاكم دون أي رقيب أو حسيب. فشل الرئيس بذلك في امتحان الالتزام بحكم القضاء، لذلك قبل حديثه عن أهمية دور المحكمة الإدارية في فرض احترام القانون، كان عليه تنفيذ أحكام القضاء. والأستاذ عليه دائمًا الاستنكاف عن إلقاء دروس لا يطبقها.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"