23-نوفمبر-2020

الجامع المعلق بمدينة سوسة (ماهر جعيدان / الترا تونس)

 

 تعاقبت الحضارات على مدينة سوسة وتكدّست أسرارها في طيات تاريخها، وتناقل سكانها حكايا الدّور والعباد، و نسجت الذاكرة الشعبية أساطير وروايات ترتفع بالوقائع إلى الخيال، في كل ركن من أركان المدينة العتيقة بسوسة يفوح عبق الماضي وتنتشر حوله  قصص السّلف والخلف.

في السنوات الأخيرة، كنت أتردّد دائما على معالم سوسة التاريخية وأتفرّس خفايا الماضي وأسراره.. ولم تكن الاحداث المتراكمة عبر العصور لتمكّننا من فكّ رموز آثارها وتراثها المادي واللامادي الذي توارثه سكانها.

في أحد المقاهي العتيقة، جلست إلى مجموعة من رجال المدينة أتجاذب معهم أطراف الحديث وكان بعضهم قد ولد ونشأ داخل الأسوار والبعض الآخر يتباهى بكونه قد نشأ في ذاك الزقاق، وكانوا يحاولون إشباعي بإجابات مقنعة حول ما تحفظه ذاكرتهم حول بعض المعالم  وغالبًا ما ينشأ بينهم الخلاف.

قال شيخ من متساكني مدينة سوسة: "ليس من أهل سوسة من لم يعرف البهيم بلا شواري، والسارية المذبوحة، والصيد المربوط في نخلة، والقبة المعلّقة، والسبع لفّات، والمسجد المعلّق، والحجرة المقلوبة"

وبينما أسأل عن أغرب ما في المدينة حتى صاح شيخ من بينهم قائلًا: "ليس من أهل سوسة من لم يعرف البهيم بلا شواري، والسارية المذبوحة، والصيد المربوط في نخلة، والقبة المعلّقة، والسبع لفّات، والمسجد المعلّق، والحجرة المقلوبة".

تلك هي الأحجية التي يجب فكّها حتى تثبت أنّك عارف بالمدينة وأهلها، فاسترسل هذا وذاك في حلّها مستنجدًا برواية عن أمّ أو جدّة وحتى رواية حلاّق الحيّ أو الحلواني يستنجدون بالذاكرة الجمعية وما خلفته المخيّلة الجمعيّة.

"البهيم بلا شواري"

في رحلة البحث عن هذه العجائب السبعة، اتصل "الترا تونس" بأحد سكان المدينة وحفظة ذاكرتها مراد البحري الذي رافقنا في جولة الكشف وفك رموز الأحجية، كان أن انطلقنا من الباب الغربيّ للمدينة فوقفنا عند مدرج "سوق القايد" الذي يعتبر أحد أهم أماكن التسوّق منذ مئات السنين وقبلة التجار من كافة أنحاء البلاد وموطن أهم الحرف والصنائع الضاربة في القدم.

وقفنا عند عتبة سوق القايد وبالتحديد في مدخله، فأشار مراد البحري إلى عمودين اثنين متفرّقين وقال "هذان العمودان يطلق عليهما "البهيم بلا شواري"، من هنا كان يدخل تجار المدينة للسوق وكانت الحمير تعبر بين العمودين ويضطر التاجر لإنزال "الشارية" التي يمنعها العمود ويتم تسليم بضاعته إلى العسس".

هذان العمودان يطلق عليهما "البهيم بلا شواري" (ماهر جعيدان / الترا تونس)

وأضاف مراد البحري "تختلف الروايات بين القائلين إنه يتم دفع الإتاوة على البضائع الواردة ورواية أخرى يؤيدها بعض المؤرّخين والقائلة إن هذين العمودين يمنعان الحمير من العبور فيضطر الفلاحون إلى رفع الحاويات "الشواري"( جمع شارية) ويتركونها جانبًا ويتم وضع الحمار في "الفندق" المجاور.. كما أن هناك رواية تشير إلى أن الإسبان عند احتلالهم لسوسة ( 1535 م ) والسيطرة عليها كانوا يخشون تسريب السيوف فتشكل هذه النقطة مدخل السوق نقطة تفتيش ويرغمون التجار على الترجّل، و رغم مرور الزمن وزوال الأسباب فإن بلدية سوسة لا تزال تحافظ على هذين العمودين الأسطوريين.

"السارية المذبوحة"

نزولًا عند سوق "الربع" في المدينة العتيقة ووصولًا إلى بائع الحلويات "بالزّين" اعترضتنا في أحد أركان البناية  "سارية  رخامية" (عمود) ملون بالأخضر و تاجه ذهبيّ اللون. يعتني بها أهل المدينة العتيقة أيّما عناية من دون الأعمدة الأخرى التي تعدّ بالعشرات داخل الأزقة والباحات، وتلف هذه السارية أساطير وحكايا شعبية فيطلق عليها "السارية المذبوحة" لكونها تحمل شدخًا في الوسط كضربة سيف وقد اختلفت الروايات حولها فيروى أن جنديًّا في عهد البايات هرب خوفًا من قتله وعندما طعن عند السارية اندفعت دماؤه لتغسل السارية دون أن تلمس الأرض ولا الجدران فصنّفت منذ ذاك الزمن والتبست بالقداسة وصارت تدهن بالأخضر كما الزوايا والصالحين حسب رواية أهالي المدينة. و لا تزال هذه السارية الرخامية إلى اليوم مزارًا محلّ اهتمام أسطوري.

يطلق عليها "السارية المذبوحة" لكونها تحمل شدخًا في الوسط كضربة سيف

"الصيد المربوط في نخلة"

أسد مقيّد إلى نخلة وآخر طليق، هما نقيشتان على حجر  أعلى البرج العثماني وعلى ارتفاع 7 أمتار من الأرض، ويطلق عليه أهالي مدينة سوسة "الصيد المربوط في نخلة" وهو أحد العجائب السبعة المذكورة.

في جوّ ماطر اتجهنا مع مراد البحري المستشار البلدي نحو الجهة الجنوبية لسور المدينة حيث عاينّا نقيشة "الصيد المربوط"، ويبدو أن الزمن وأيادي العابثين قد طالته وذهبت ببهائه، وأول من أشار إلى هذه النقيشة الباحث في الآثار الدكتور كارتون سنة 1903.

يظهر في الصورة أسد موثق بسلسلة إلى نخلة يعلوه هلال (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)

ورغم أهميتها لم يقع التطرّق إلى هذه النقيشة علميًا باستفاضة واقتصرت المؤلفات والدراسات على ذكر موقعها الاستراتيجي أعلى البرج الحربي الذي يستعمل للمراقبة العسكرية قبالة سواحل البحر المتوسّط، ويرجح بناء هذا البرج في العهد العثماني نهاية القرن السادس عشر  وقد تم تشييده بحجر ضخم  أعيد تثبيته.

اقرأ/ي أيضًا: قصور الجنوب التونسي.. هل تخرجها قائمة التراث العالمي من التهميش؟

ويظهر في الصورة أسد موثق بسلسلة إلى نخلة يعلوه هلال ويبدو أن صورة متناظرة له قد محاها الزمن في شكل مستطيل على أطوال تبلغ 65 صم / 25 صم و أسفله نرى نقيشة لأسد حر طليق، ولطالما أثارت هذه الرسوم تساؤلات عديدة عن سرّ تثبيتهما أعلى البرج العثماني، ومنهم من ذهب إلى أنها رومانية وتم وضعها من جديد.

وبالعودة إلى المخيال الشعبي فإن رمز الأسد القوة والنخلة الشموخ ولا نكاد نجد إلا قليلًا من الأساطير تتحدث عن أسد مقيّد بنخلة عدا رواية "حمّام السلطان"، كما تواترت رسوم الأسود في الحضارات العربية بقلّة .

" نهج السبع لفّات"

نهج "السبع لفّات" أو "الزقاق المجلّز" في المدينة العتيقة بسوسة ويطلق عليه كذلك نهج سيدي الزواغي نظرًا لوجود مقام وليّ صالح في أحد لفّاته، ويرمز إليه بتلك الصفة لكونه يحتوي في عمارته على سبع "دورات" في ممرّه الذي كان مرصّفًا بالجليز وتوجد فيه 22 دارًا على اليمين واليسار في مسافة 100 متر و ذلك حسب ما ذكره المؤرخ محمد المستيري.

وخلال جولتنا مع مراد البحري في هذا الممرّ أشار إلينا أن أبواب النهج كانت متميّز وبطابع تقليدي أصيل غير أنه وقع استبدالها بنوعية جديدة من اللوح .

صنف المخيال الشعبي هذا النهج ذي سبع لفات من عجائب سوسة لخصوصيته العمرانية وأصالته

ويذكر أن امرأة كانت تقطن في هذا النهج بالمدينة العتيقة في السابق توفيت عن سنّ 104 سنة، وهي "قابلة" (كانت تستقبل النساء و تولّدهن وتداويهنّ و تساعدهن على الوضع دون الالتجاء إلى المستشفى) وتدعى أم الزين العيونية حرم  الجعيّم، وظلّت هذه المرأة لسنين رمزًا من رموز هذه المكان وعلمًا من أعلامه.

وقد صنف المخيال الشعبي هذا النهج ذي سبع لفات من عجائب سوسة لخصوصيته العمرانية وأصالته.

"القبة المعلّقة"

من عجائب سوسة السبعة القبّة المعلّقة توجد في قصر الرباط وسمّيت كذلك لأنك تشاهدها من  أسفل مدخل القصر عبر فتحات في السقف وكانت في العهد الأغلبي ذات دور حربي دفاعيّ إذ يسكب منها الزيت الساخن على العدو إذا اقتحم الرباط.

من عجائب سوسة السبعة القبّة المعلّقة توجد في قصر الرباط

ويذكر في منشورات المعهد الوطني للتراث أنه "يعلو مدخل الرباط البارز أجهزة دفاعيّة تتكوّن من مجموعة من السقّاطات المهيّأة عن طريق فتحات متوازية من الحجارة، ويعلو هذه الأجهزة حجرة صغيرة مسقوفة بقبّة مقامة على حنايات ركنيّة شيّدت جميعها من الحجارة المهندمة، وهي تعتبر أقدم نموذج معروف وصل إلينا إلى حدّ الآن، والذي يمكّننا من دراسة تطوّر هذا النموذج الأوّل من القباب القادم من المشرق والذي اعتمد بإفريقيّة في القرن الثامن والذي سيبلغ أوجه مع قبّة محراب جامع القيروان الكبير. وتحتلّ قبّة رباط سوسة مرحلة وسطى في هذا الطوّر، تتميّز بغياب منطقة الرقبة والمرور مباشرة إلى المثمّن. نمرّ من المدخل البارز إلى دهليز مربّع مسقوف بقبو متقاطع من الحجارة المهندمة التي من شأنها أن تؤكّد استمرار بعض التقاليد البيزنطيّة الرومانيّة، يتألّف هذا السقف المدبّب من أربعة أضلع من الحجارة المصقولة التي تلعب دور الحامل مستندة على مفتاح العقد المربّع".

من عجائب سوسة السبعة القبّة المعلّقة توجد في قصر الرباط وسمّيت كذلك لأنك تشاهدها من  أسفل مدخل القصر عبر فتحات في السقف وكانت في العهد الأغلبي ذات دور حربي دفاعيّ إذ يسكب منها الزيت الساخن على العدو إذا اقتحم الرباط

"المسجد المعلّق"

المسجد المعلّق هو أحد مساجد المدينة العتيقة المنتصبة في أعلى السور لذلك لقّب بالمعلّق و ليس من المألوف أن تجد مسجدًا أعلى السور بل تجده في العادة داخل الأزقة  في البلدة القديمة وتبلغ مساحة هذا المسجد مائة متر مربع وكان سابقًا بيتًا للعسس و العسكر أعلى السور قبل أن يتم تحويله إلى مكان للعبادة.

المسجد المعلّق هو أحد مساجد المدينة العتيقة المنتصبة في أعلى السور (ماهر جعيدان / الترا تونس)

وقد صنف هذا المعلم من عجائب سوسة رغم وجود معلم آخر مثيلٍ له وهو مسجد الداموس في جهة الباب الجبلي بالمدينة العتيقة.

باب المسجد المعلّق (ماهر جعيدان / الترا تونس)

"الحجرة المقلوبة"

إحدى أهمّ عجائب سوسة تلك الحجرة الضخمة "المقلوبة" والتي تبعد حوالي 1000 متر خارج أسوار المدينة العتيقة وتوجد حاليًا بجانب المبيت الجامعي ابن الجزار بسوسة، يعرف هذه الصخرة الضخمة كل طالب زاول تعليمه بسوسة وسكن هذا المبيت وظلّت لسنين مثار تعجب الأهالي و المارين.

أساطير بنيت على التراث الشفهي الجمعي وترسّخت في الذاكرة المحلية، غير أن التراث المادي واللامادي بمدينة سوسة يزخر بعجائب ومعالم تنفرد بها الجهة.. ولم تبح إلى اليوم معالم سوسة بجميع أسرارها على مرّ الزمن

رويت العديد من الأساطير حول هذا الموقع فقيل أن تحتها كنز لا يوصف، كما روي أنها سقطت من السماء، وحفتها الأساطير في المخيال الشعبي بغرائب القول الممزوج بالدهشة و العظمة.

غير أن الدراسات التاريخية قد رجحت أن تكون هاتين الصخرتين قبتان تحافظان على حرارة الحمام الروماني بداخله مع العلم أن بناءه قد بني بالحجر الخفيف مع وجود آثار لأدراج الحمام بالقرب منه وهناك من قال إنه كان مسرحًا رومانيًا كمسرح الجم تقام فيه مباريات المصارعة وغيرها، كذلك استعملها الفرنسيون عند الاستعمار فجعلوا منها برجًا لمراقبة أحوال البلاد من بعيد أو التمتع بمنظر المدينة العتيقة من بعيد، وأطلقوا عليه تسمية برج إيفل كما في فرنسا في ذلك الوقت.

إحدى أهمّ عجائب سوسة تلك الحجرة الضخمة "المقلوبة"

أساطير بنيت على التراث الشفهي الجمعي وترسّخت في الذاكرة المحلية غير أن التراث المادي واللامادي بمدينة سوسة يزخر بعجائب ومعالم تنفرد بها الجهة مثل "القبة" و"صومعة مسجد سيدي الزقاق المثمّنة"، و"مسجد الداموس المعلّق" وغير ذلك من المعالم الجميلة، ولم تبح إلى اليوم معالم سوسة بجميع أسرارها على مرّ الزمن...

 

اقرأ/ي أيضًا:

آثار تونس.. معالم تختزل التاريخ وتعاني التهميش

"قصر لمسة".. مطر ثقافي ناعم في خريف النّسيان