لم تكن المدينة العتيقة بسوسة بمأمن عن الانحرافات التي ذهبت ببهائها على مدى العقود الماضية، فكانت ضحية السياسات حينًا والإهمال أحيانًا عدا عن عبث متساكنيها بخصوصياتها العمرانية والتراثية. ورغم الدراسات والقرارات بتهذيبها والحفاظ على نسيجها العمراني وخصوصياتها الحضرية والثقافية، كانت المدينة العتيقة ضحية القوالب الجاهزة مما ساهم في القضاء على العادات والتقاليد المحلية لحساب قوالب كانت تمرر عبر قنوات ثقافية وسياسية وإدارية لا تستجيب لصدى المكان والزمان. كما بقيت المخططات والبرامج طيلة العقود الماضية دون المأمول وانحسرت أهدافها في عمليات الترميم مما جعلها عاجزة عن تحقيق التطلعات المطلوبة.
لم تكن المدينة العتيقة بسوسة بمأمن عن الانحرافات التي ذهبت ببهائها على مدى العقود الماضية فكانت ضحية السياسات حينًا والإهمال أحيانًا عدا عن عبث متساكنيها بخصوصياتها
وأمام هذا العبث، كان لا بد من نظرة جدية في إطار نهج تنموي شامل يرتكز على احترام الإطار التاريخي للمدينة اجتماعيًا وثقافيًا، وتدعيم وظائفه المختلفة من خلال ربطه بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية. وكان لا بدّ من وضع استراتيجيات واضحة للتعامل مع المدينة العتيقة لتلعب دورها المحوري جنبًا إلى جنب مع المدينة العصرية وبالتالي توظيف هذا الدور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي داخل هذا المشهد الحضاري المتكامل.
اقرأ/ي أيضًا: سوسة في الذكرى 30 لإدراجها في لائحة اليونسكو.. معالم أثرية ومخاطر جديّة
ويظلّ مستقبل المدينة العتيقة مرتبطًا بسؤال الهوية التنموية التي يجب أن تكتسبها حتى تحافظ على صيرورتها التاريخية والحضارية. فمن خلال هذا النسيج العمراني القديم، لا بد أن توجد تنمية ذات خصوصية تراوح بين المحافظة على جوهر المدينة وقيمتها التاريخية من جهة وبين التغيرات المطلوبة لتواكب التطورات من جهة أخرى.
ويعطي الحكم المحلي في ثوبه الجديد بذرة التجديد وهو ما يعطي انطلاقة جديدة نحو ابتكار أفكار قد تتناسب مع القوانين الجديدة التي تحتكم إلى التشاركية لصياغة برامج تنموية واضحة.
وفي هذا الإطار، جاءت الدعوة في بلدية سوسة إلى تأسيس مشروع "مخبر المدينة" وهو عبارة عن هيئة استشارية لدعم العمل البلدي من أجل تنمية المدينة بصيغة محلية تشرك الخبراء والمهنيين والمبدعين والمجتمع المدني، وتتمتع بالصلاحيات اللازمة لوضع استراتيجيات وتصورات للعمل داخل هذا الفضاء التاريخي مع إمكانية تطبيق بعض العمليات النموذجية أو قيادتها بالتنسيق مع جميع الأطراف الممثلة بالمخبر، وذلك حسب ما قدمه مراد البحري، رئيس لجنة السياحة والمحافظة على التراث ببلدية سوسة، في ورشة مفتوحة شارك فيها ناشطون في المجتمع المدني ومسؤولون جهويون وأعضاء المجلس البلدي.
مشروع "مخبر المدينة" هو عبارة عن هيئة استشارية لدعم العمل البلدي في سوسة من أجل تنمية المدينة (ماهر جعيدان/الترا تونس)
غير أن هذا المشروع يصطدم بواقع مؤلم تعيش على وقعه المدينة العتيقة بسوسة يبرز أساسًا في محيط خارجي يعمّه اللاتنظم نتيجة الانتصاب الفوضوي خارج الأسوار وداخلها، وفوضى محطة التاكسي الجماعي التي لا تستجيب للمواصفات المعمول بها في قطاع النقل ما شوّه الوجه الخارجي للمدينة على امتداد الأسوار. ومن جهة أخرى، انتشر البناء الفوضوي داخل المدينة بما لا يتناسب مع خصوصياتها العمرانية إضافة إلى عدم صيانة العديد من الأماكن التراثية وتداعي عديد المنازل العتيقة للسقوط.
مشروع لإعادة إحياء المدينة العتيقة
في حديثه لـ"ألترا تونس"، أكد توفيق العريبي رئيس بلدية سوسة أن مشروع "مخبر المدينة" يتناسق مع ما جاءت به مجلة الجماعات المحلية في العمل التشاركي مع المتساكنين، مبينًا أن البلدية نظمت الورشة المفتوحة لتقديم المشروع بما هو فضاء للتفكير الجماعي بين المستشارين وكل من له صلة بالآثار والحضارة. وأشار إلى استضافة مؤرخين وإخصائيين في الفنون الجميلة ونحاتين لدراسة عدد من المحاور وتركيز منهجية علمية لصيانة المدينة العتيقة تحت إشراف لجنة السياحة والمحافظة على التراث بالبلدية.
ويعمل المشروع أساسًا على إحداث المسلك التاريخي والمسلك الحرفي والمسلك الفني والثقافي، وكذلك إحياء مسلك "العسس" مما يقطع مع فكرة الفضاءات المغلقة للمدينة العتيقة ويتحول بها إلى فضاء مفتوح على التراث الانساني المادي واللامادي ويدفع قطاع السياحة بتوفير منتوج ثقافي وترفيهي متطور.
يهدف مشروع "مخبر المدينة" لدفع قطاع السياحة في سوسة العتيقة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)
محدثنا مراد البحري، رئيس لجنة السياحة والمحافظة على التراث ببلدية سوسة، أكد أن مدينة سوسة هي من أهم المدن التاريخية المتوسطية لما تحتويه من معالم أثرية حافظت على نظارتها رغم تعاقب الحضارات و"هنا كان لزامًا علينا أن نعرف بها من خلال إدراج معالمها في مسلك أطلقنا عليه المسلك التاريخي الذي ينطلق من الجهة الغربية أي المتحف الأثري لينتهي في منطقة باب بحر".
اقرأ/ي أيضًا: دواميس سوسة.. أسرار سراديب الموتى ورحلة البحث عن "الراعي الطيب"
وجدير بالإشارة في هذا الخصوص أن العديد من المسالك التي تعتبر ذات بعد تاريخي أصبحت بعيدة عن المسلك السياحي وذلك نتيجة الركود التجاري ببعض أنهج المدينة العتيقة وتحويل وجهة السياح نحو المغازات الكبرى وغياب الأدلة السياحيين الأكفاء الذين يعطون أولوية للمعالم الأثرية بعيدُا عن المآرب التجارية.
أما عن المسلك الحرفي، أكد البحري لـ"ألترا تونس" أن سوسة تُعتبر واجهة للحرف والصناعات التقليدية "التي تستمد جذورها من إبداعات صناع الحضارة الذين بنوا ونحتوا بأيديهم هذا التاريخ العظيم، لقد تركوا لنا شواهد حرفتهم وصناعاتهم التي تطورت عبر الزمن لتمدنا بما وصلت إليه عبقرية الانسان ولنعلم أن الصناعات كانت ولا تزال الرافد المهم لحضارة الشعوب والمعيار الحقيقي لتقدمها. فكلما تطورت هذه الصناعة وتعددت مجالاتها، أعطتنا صورة واضحة على حياة الشعوب" وفق قوله. وأضاف أن فكرة بعث المسلك الحرفي يأتي قصد جمع شتات ما تبقى من الحرفيين وتشجيع الحرفيين المبتكرين على بعث مشاريع حرفية ذات مضمون ثقافي متميز حتى يكتمل هذا المسلك والذي يمر حتمًا بالأسواق التقليدية وبدار الحرفي المزمع إنشاؤه وفق ما أفادنا به.
مراد البحري (رئيس لجنة السياحة والمحافظة على التراث ببلدية سوسة): سوسة هي من أهم المدن التاريخية المتوسطية لما تحتويه من معالم أثرية حافظت على نظارتها رغم تعاقب الحضارات
و في حديثنا مع تجار المدينة وحرفييها، لاحظنا خلال السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في الحرف والمهن التقليدية التي كانت ميزة المدينة العتيقة ولا أدل على ذلك من هجرة الحرفيين من "سوق القايد" الذي كان مضرب الأمثال من غابر الأزمان في الحرف والصنائع القديمة حتى كدنا اليوم لا نرى في نهج كان ينبض بالحياة سوى بعض الدكاكين المفتوحة.
أما عن المسلك الثقافي، اعتبر رئيس لجنة السياحة والتراث ببلدية سوسة أن هذا المسلك قادر على استيعاب كافة شرائح المبدعين والفنانين الناشطين في الميدان الثقافي وذلك بتشجيع إنشاء الورشات والمركبات الثقافية الخاصة وأروقة الفنون والمتاحف مع تشجيع الجمعيات على الانتصاب داخل المدينة مما يمكن من إحداث هذا المسلك داخل فضاء المدينة.
يعمل مشروع "مخبر المدينة" على إحداث مسالك حرفية وثقافية (ماهر جعيدان/ألترا تونس)
اقرأ/ي أيضًا: "سوق القايد" في المدينة العتيقة بسوسة.. حفر في ذاكرة الحرف والفنون
وخلال زيارتنا للمدينة العتيقة بسوسة، تعترضنا بعض الفضاءات الثقافية الخاصة أو تلك التي ترجع بالنظر لبلدية سوسة غير أننا نلاحظ كسادها وعدم نشاطها إلا خلال بعض المناسبات وبطريقة غير منتظمة بل هي رهينة برمجة غير مدروسة ولا تتكيف مع محيطها الذي نشأت من أجله. ومن بين هذه الفضاءات "متحف القبة" الذي لم يستقطب العدد الكافي من السياح أو التظاهرات ولم تقع صيانته بالشكل المطلوب ولم تُجدّد محتوياته.
ومن بين المشاريع التي يسعى "مخبر المدينة" لتطبيقها ما يطلق عليه مسلك "العسس" وهو مشروع سياحي ثقافي انطلق منذ سنة 2008 بتمويل مشترك بين بلدية سوسة وبلدية بيون كور، يمتد على مسافة 130 مترًا ينطلق من ساحة "جبانة الغرباء" إلى حدود المتحف ويمنح للزائر زيارة لمعالم المدينة من أبراج ويعطي نظرة بانورامية وإطلالة على الفضاء الخارجي للأسوار ويمكن من خلاله مشاهدة بعض العروض داخل المسرح الموجود في البرج العثماني.
من بين المشاريع التي يسعى "مخبر المدينة" لتطبيقها ما يطلق عليه مسلك "العسس" (ماهر جعيدان/ألترا تونس)
وقد تم في مرحلة أولى تركيز واقيات لسلامة الزائر وتجهيزه بأضواء فنية حتى تعطي للمعلم قيمة مضافة، لكم يبقى هذا المشروع في انتظار الترخيص المنتظر من المعهد الوطني للتراث لفتح منفذ يمكن من خلاله للزائر الدخول للمتحف الأثري بسوسة، مع الإشارة إلى أن المشروع يمكن أن يمتد لبقية الأسوار.
هل يحقق المشروع أهدافه؟
خلال لقائنا بعدد من الناشطين في المجتمع المدني والفنانين، لاحظنا بعث مشروع بعنوان "في ضيافة الجنرال حنبعل"، وهو عبارة عن مشروع منحوتة جديدة للقائد العسكري حنبعل الذي قضى بسوسة فترة 7 سنوات أشرف من خلالها على تهيئة الجيش وغرس عدد ضخم من الزياتين في الساحل التونسي وحسب ما أشار به علينا هشام الحفيان أحد الفنانين التشكيليين بمدينة سوسة.
وأفادنا أن هذا المشروع قابل للتطور في الفكرة والإنجاز وقد يتم إنجازه بالتعاون مع وزارة الشؤون الثقافية ووزارة السياحة ووزارة التربية ووزارة التعليم العالي والمندوبيات الجهوية للأطراف المعنية قصد تقديم صورة معيشية حقيقية للحياة اليومية في العهد القرطاجي مع تقديم عرض فني فرجوي لملحمة حنبعل بالتعاون مع المعاهد العليا للموضة، والمعاهد العليا للفنون الجميلة، والمعاهد العليا للفنون الدرامية إضافة للمعهد العالي للموسيقى.
يهدف مشروع "مخبر المدينة" للحفاظ على الذاكرة الجماعية في سوسة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)
وأكد مراد البحري، رئيس لجنة السياحة والمحافظة على التراث ببلدية سوسة في معرض حديثه لـ"ألترا تونس" عن "مخبر المدينة" على أن المشروع هدفه حفظ الذاكرة الجماعية لمواطني سوسة مشددًا على ضرورة إعداد البيانات و الاحصائيات اللازمة التي تساهم في مسك دفاتر عن المدينة العتيقة بشكل علمي ودقيق وتوفير الخرائط والمسالك السياحية والثقافية لزوار المدينة مع تمكينهم من أدلاء سياحيين مؤهلين للإرشاد.
فيصل عبيد (رئيس جمعية "سوسة غدًا"): لا يجب أن نحكم على جدوى مشروع "مخبر المدينة" إلا من خلال مراقبة جدوى تطبيقه
واعتبر الناشط في المجتمع المدني فيصل عبيد رئيس جمعية "سوسة غدًا" في حديث معنا أن هذا الشروع هو جيد على المستوى النظري "لكن ما يفتقد في بلادنا هو التطبيق ولإنجاز لذلك لا يجب أن نحكم على جدوى هذا المشروع إلا من خلال مراقبة جدوى تطبيقه" معتبرًا أن بلدية سوسة لازالت مقصّرة في أداء مهامها بخصوص العناية بالمدينة العتيقة.
يمثل "مشروع مخبر المدينة" بالنهاية محاولة للتفكير في مستقبل المدن العتيقة ذات الأصالة التاريخية والحضارية ذات الموروث الثقافي المتميز غير أن إنجاح مثل هذه المشاريع يبقى رهين الإرادة السياسية والإدارية التي لا زالت تتقيد بتراتيب لا تعطي للتفكير الحرّ مجالا خصبًا للإنتاج والإبداع ولا تجعل من التعاون بين كافة المتداخلين تعاونًا سلسًا يضمن السرعة والنجاعة في آن واحد.
اقرأ/ي أيضًا:
"الماجل الأزرق" و"خزان السُّفرة".. معالم مائية تاريخية تصارع من أجل البقاء