26-أكتوبر-2020

كان الجبل ملاذًا فريدًا للقبائل المنشقة عن سلطة الباي (رمزي العياري/ ألترا تونس)

 

في ذاك المساء الخريفي حيث عادة ما "يضيق الفارق بين النرجس وعبّاد الشمس فيتّسع التأويل، فلا الأول ينظر إلى صورته في الماء ويقول لا أنا إلا أنا، ولا الثاني ينظر إلى الشمس ويقول ما أنا إلا ما أعبد"، في ذاك المساء الفضي المفعم بالضوء المتسرب من أفنية الصيف كان وادي "مرق الليل" يمارس صمته كفراشة لا تبالي هبوب الريح وينساب نديًّا، شحيحًا، فقط ليثبت لبقية أودية سهل "القيروان" أنه ضاجّ بالحياة، يأتيه اليمام للتسلّي وأحيانًا للتعشيش. وكانت جبال أسفل السلسة الظهرية التونسية تودّع بعضها البعض ملتحفة بغابات مديدة وبخضرة  فصيحة تعجز اللغة عن وصفها لتفسح المجال للسباسب الفسيحة التي تعاقبت عليها الحضارات النوميدية والرومانية والبيزنطية والقرطاجنية...

"جبل وسلات" كان قطبًا بارزًا للحرب الأهلية بين "الحسينيين" بقيادة حسين بن علي التركي و"الباشيين" بقيادة علي باشا بين 1728 و1756

"جبل وسلات" نجم جبال الوسط الغربي التونسي يتسامق مع شمس ذاك المساء ليبقى على مدارات الضوء الذهبية على ذراه كآخر دليل للطيور العائدة لتوها لجوف الغابة بعد تيه يوم طويل في أعالي السفوح والمروج.

"جبل وسلات"، الذي نراه مع كل التفاتة ونحن نقطع الطريق من القيروان إلى "الوسلاتية" فنرى معه أحداثًا دموية طواها التاريخ لكنها تحضر كذكريات ضرورية كلما مررنا بالمكان، كان قطبًا بارزًا للحرب الأهلية بين "الحسينيين" بقيادة حسين بن علي التركي و"الباشيين" بقيادة علي باشا بين 1728 و1756 وهي حرب عرفت أطوارًا عديدة تناحر فيها العم وابن أخيه وانقسمت خلالها القبائل التونسية وسالت الدماء على سفح هذا الجبل الذي كلما ضاقت الحاضرة بالأحداث السياسية والعسكرية إلا وتحول هو إلى قلب رحى الحرب من أجل السلطة في الإيالة التونسية التابعة للإمبراطورية العثمانية... وأيضا كان الجبل ملاذًا فريدًا للقبائل المنشقة عن سلطة الباي أو تلك الممتنعة عن دفع المجبى.

"جبل وسلات" نجم جبال الوسط الغربي التونسي (رمزي العياري/ ألترا تونس)

و"وسلات" هي كلمة بربرية ترمز إلى الحدة والصلابة في كناية عن الشجاعة التي عرف بها سكان تلك السهول والذين ينحدر أغلبهم من قبيلة "مزاتة" البربرية وهي بطن من بطون قبيلة "لواتة"، وقد ذكرت كتب ومؤلفات كلٍّ من "أحمد بن أبي ضياف" و"ابن أبي دينار القيرواني" و"الوزير السرّاج" أن أهالي هذه المناطق قد شاركوا في أغلب الثورات والاحتجاجات التي عرفتها تونس خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر.

"وسلات" هي كلمة بربرية ترمز إلى الحدة والصلابة في كناية عن الشجاعة التي عرف بها سكان تلك السهول والذين ينحدر أغلبهم من قبيلة "مزاتة" البربرية وهي بطن من بطون قبيلة "لواتة"

وعلى امتداد سفوح هذا الجبل وغيره من الجبال التي تركن إلى ذاك الهلال القيرواني الفسيح مثل "جبل السرج" و"جبل بلوطة"، كانت الآثار والمواقع تينع من ذكراها  الأحداث والوقائع  كما تينع شقائق النعمان وكما يزهر الأقحوان في البراري البعيدة.

وأنت بين زحمة المشاهد التاريخية ذات اليمين وذات الشمال ويسكنك هدوء التفكير المريح والانبهار بالطبيعة المغسولة بماء الضوء والتي تسلب العقول من فرط فتنتها، تفاجئك  قرية "قصر لمسة" كما تفاجئ سيرانة أرجوانية لمّاعة بحارًا يحصي تحت ضوء القمر انبعاث الموج من قلب اليم.

هي مدينة أسسها واستقرّ بها الرومان في القرن الثاني ميلادي (رمزي العياري/ ألترا تونس)

"قصر لمسة" تسبقنا إليها زحمة من الآثار والقناطر الرومانية وبقايا حصون بيزنطية وهي كلها إشراقات تاريخية في "هنشير سيدي عمارة" الذي يضم أيضًا "مدينة آجر" و"حصن جلولاء" و"قصر الخيمة"...

ليس بعيدًا عن ضريح "ماريوس رومانوس" ومباشرة على ناصية الطريق، تتبدّى الآثار  المنيفة لـ"قصر لمسة"، وهي مدينة أسسها واستقرّ بها الرومان في القرن الثاني ميلادي وكانت تسمّى "ليميسا" لكن الأسطورة لها رأي آخر إذ يتناقل الأهالي رواية مفادها أن الملكتيْن الرومانيتيْن "لمسة" و"آجر" استقرتا بهذا السهل الجميل لنقائه وحسن تربته وقربه من الغابات.

"قصر لمسة" في شكله الحالي يعود إلى القرن السادس ميلادي وذلك إبّان حكم الإمبراطور الروماني "موريس" الذي أمر بتشييد هذه المدينة 

وتفيد البحوث التاريخية وخاصة ما توصل إليه الباحث التونسي "خالد بالخوجة" بأن "قصر لمسة" في شكله الحالي يعود إلى القرن السادس ميلادي وذلك إبّان حكم الإمبراطور الروماني "موريس" الذي أمر بتشييد هذه المدينة التي اختصت فيما بعد بالأنشطة الفلاحية وخاصة زراعة الصنوبر والزيتون وعُرفت بجودة  فحمها وحطب غاباتها. وهو ما أكدته الحفريات الاثرية الأولى التي عرفها القصر بين 1966 و1969.

"قصر لمسة" في شكله الحالي يعود إلى القرن السادس ميلادي (رمزي العياري/ ألترا تونس)

في هذا الخلاء الفسيح الجميل، حيث توجد مدرسة ابتدائية يبعث موقعها على الحلم وليس بعيدًا عنها مقهى أنيق للعابرين يبعث عن التأمل من فرط الهدوء والسكينة التي تفرضها الطبيعة، ما إن تقطع الطرق في اتجاه المعلم الشامخ وتطأ قدماك بلاط القصر إلا وتشعر أنك في حضرة مكان أثيري، الغفلة عن جماله ظلم في حق تاريخ البلد وخاصة عندما تلمح تلك الانكسارات الخفيفة لشمس الأصيل على جدرانه وما تبقى من شرفاته. إنها وليمة فوتوغرافيا يومية لا تأتيها الكاميرات إلا نادرًا.

"ألا يستحق هذا المكان المتحف أن يكون مزارًا ثقافيًا؟ ألا يستحق مزيدًا من الصيانة والعناية إعلاءً لقيمته التراثية لدى عابري السبيل في الاتجاهات المختلفة لهذا الوطن الذي لا يقدّر كنوزه حق قدرها؟

 ودون أن تشعر تجدك تتسلق ما تبقى من أركانه الحجرية الملساء التي تغازلك بصوت متقطع موزّع بتقاسيم مرتجلة على أوتار نسيم خريفي متمهّل... تجول ببصرك فتغريك الاستعارة لتشرع في وصف الغرف و الصواري و هندسة الحجارة على الجدران وتبليط الجنبات... تتقدم لتقف في أمكنة الشرفات المزالة .. يرسمها خيالك الطفولي المدهوش بألوان قزحية فيظهر في الفناء طيف الملكة "لمسة" وهي جالسة قرب نافورة القصر تنتظر شقيقتها "آجر" لشرب منقوع الزعتر البري. تتقدم سيرًا على عرض الحائط الصلب الذي مازال يصرخ في وجه الزمن فتظهر حقول الزيتون منسابة في اتجاه الأفق أعلى من نفسها وأعتى من ذكرى غارسها.... وليس بعيدًا عن هذه الآثار المنسية، تبدو قرية "قصر لمسة"  كمطر ناعم في خريف بعيد... فأتساءل: "ألا يستحق هذا المكان المتحف أن يكون مزارًا ثقافيًا؟ ألا يستحق مزيدًا من الصيانة والعناية إعلاءً لقيمته التراثية لدى عابري السبيل في الاتجاهات المختلفة لهذا الوطن الذي لا يقدّر كنوزه حق قدرها؟ ألم يحن الوقت بعد لأن تتغير مسالك السياحة الثقافية وتدرج "قصر لمسة" في المسلك القديم المعروف بالمسلك القيرواني؟".    

كانت الآثار والمواقع تينع من ذكراها  الأحداث والوقائع (رمزي العياري/ ألترا تونس)

أحدق في الغيوم متأملًا روعة الموقع الاثري المنسي ومتذكرًا مواقع أخرى عديدة طمرها الإهمال والإقصاء، إنها مجرد أسماء على الخارطة الأثرية التونسية لكنها في الحقيقة تخضع للتمايز الثقافي الجهوي وهو ما زاد من تعميق هوة التهميش المناطقي والإقصاء التنموي.

تتسارع الأسئلة مع لحظة المغيب لكنك قبل أن تغادر تشرق روحك فترى بعيون قلبك أن الخريف أنزل سلالم من رذاذ ومطر بوادي "اللوز" و"الأدماس" المتاخمين للسهل الفسيح استعدادًا لموسم "غسالة النوادر" التي ستزيل من على جبين "قصر لمسة" قسوة النسيان.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكثر.. هل تبقى المعالم الأثرية شاهدة على حضارات مرت من هنا؟

قصور الجنوب التونسي.. هل تخرجها قائمة التراث العالمي من التهميش؟