19-يناير-2020

تُحسن موسي توظيف كل الخلافات لتوسيع رصيدها الشعبي (حسنا/أ.ف.ب)

مقال رأي

 

حفَل البرلمان التونسي منذ 2011 بشخصيات سياسية تتّصف في خطابها وسلوكها بالتميز والغرابة والخروج عن المألوف، وقد علقت أسماء بعض النواب بأذهان التونسيين، وتحولت إلى نماذج وعينات يضرب بها المثل.

يمكن تصنيف تلك النماذج الغريبة إلى أربعة ضروب، فمنها الحاد المتطرف المتشدد، ومنها الساذج السخيف المفتقر إلى أبجديات الحجاج والتفسير والتواصل، ذاك الذي يثير إن تكلم الضحك والسخرية، فيتحول إلى موضوع تهكّم وتندر من جهة ومصدر شعور بالحسرة على بعض "بنات الصندوق" وأبنائه من جهة أخرى، النموذج الثالث المتصف بالغرابة هو الصَّموت المغياب المستتر، فلا دور له غير الضغط على زر التصويت متى تمت دعوته إلى أمر مصيري ملح.

اقرأ/ي أيضًا: "خوانجي".. تهمة في مهبّ المزايدات الانتخابيّة

الثورة التونسية تْلِمْ الجميع حتى أعداءها

تثير هذه النماذج الثلاثة الأولى الحيرة والقلق والاستياء في نفوس الغالبية وأذهانهم، غير أنّ عددًا كبيرًا من الخبراء في الشأن السياسي يرون المشهد طبيعيًا ومتناغمًا مع مقامات الحرية والديمقراطية. فهي تبيح التعدد والتباين وتساهم في تمثيلية برلمانية لا تستند إلى ضوابط معيارية وعلمية إنما ترتكز على أحكام فكرية وثقافية وذوقية أوسع، فهذا الذي منه تخشى، وذاك الذي عنه تترفع، وتلك التي بها تتندر إنما هم نواب يرددون صدى فئات من المجتمع يجوز لنا انتقادها وتقييمها، ولكن لا يحق لنا إقصاؤها.

ظلّت عبير موسي قبل الثورة وفية لنظام بن علي، مطيعة لـ"صانع التغيير" ميالة إلى تثمين "توجهاته الحكيمة"، رغم ذلك اقتصرت رهاناتها على التطلع إلى عدد محدود من المراتب في سلّم المناصب داخل التجمع

هذه القراءة غيرت وجهة التأثيم والإدانة، فأصبح الرافض لتلك النماذج، مهما شذّت، في زاوية المتهم بالتنكر لقيم التعدد والتسامح وقبول الاختلاف والاعتراف بالآخر، وغيرها مما يساهم في ضمان التعايش السلمي والانتقال المدني للسلطة بين الشخصيات والأحزاب والتيارات والائتلافات. فالوعي بهذه القيم بالنسبة إلى أصحاب هذه الأطروحة يُلزم عشاق الحرية والداعين إليها والمنظرين لها بالتحاور مع الجميع حتى مع أعداء الحرية، في هذا المعنى يقول توفيق بن عامر الأكاديمي والباحث التونسي في مقال له بمجلة الحياة الثقافية سنة 2016: "لا جدال في وجود جهات تأبي الامتثال لهذا المنطق (ضرورة الحوار وضوابطه) نظرًا إلى موقعها المتفرد.. لكن من شروط الحوار ما لا يتحقّق إلّا بالحوار، فوظيفته عضوية في العلاقات الإنسانية والتجارب البشريّة".

هذه القراءة تذلل لنا المسالك النظرية والتحليلية للحديث عن النموذج الرابع من النواب المتصفين بالغرابة، وهم الذين ينعمون بثمار الثورة ومزاياها من جهة، وينكرونها ويسعون إلى وأدها من جهة مضادّة معتمدين في ذلك مخرجاتها وآلياتها ومؤسساتها من حرية وانتخابات وديمقراطية وتشريعات.

هذا النموذج لا يتصف بالغرابة والتفرد فقط، إنما يثير الحيرة بالنسبة إلى الناقد الماسك بجمر الموضوعيّة والواقف على صراط المنحى العلمي والنزعة العقلية، إنه النموذج الذي تمثله عبير موسي رئيسة كتلة الحزب الدستوري الحر بالبرلمان.

من أسلم المواقع الانضمام إلى فيلق المولعين بموسي أو الالتحاق بكتيبة الساخطين عليها، ذلك أنّ الاصطفاف في تقدير الفيلسوف الكندي آلان دونو، في كتابه "نظام التفاهة"، يعد مسلكًا آمنًا فكريًا وسلوكيًا مقارنة بالتفكير الحر الذي يفضي في الغالب إلى اتخاذ مواقف مستقلة واستثنائية أحيانًا.

هذه المقدمة قد تحد من غرابة بعض النتائج التحليلية التي أباحت لنا الادعاء بأن عبير موسي قد أذلها نظام بن علي وأهانها، في المقابل أكرمتها الثورة وأحسنت وفادتها، لنتريث قبل الحكم على هذا العنوان، فهو أبعد ما يكون عن مقصد الإثارة الذي طغى على الخطاب الإعلامي خبرًا وتحليلًا ورأيًا، وإن شئت التحقق من وجاهة هذا الرأي تعالى ننظر في موضع "عبير" قبل الثورة ومنزلتها الآن بعد تسع سنوات من فرار بن علي الرئيس الراحل.

من التبعية الحزبية إلى الزعامة السياسية

ظلّت عبير موسي قبل الثورة وفية لنظام بن علي، مطيعة لـ"صانع التغيير" ميالة إلى تثمين "توجهاته الحكيمة"، رغم ذلك اقتصرت رهاناتها على التطلع إلى عدد محدود من المراتب في سلّم الترقيات والمناصب داخل التجمع الدستوري الديمقراطي. هذا السلم يقتضي أن يرتكز النضال على إظهار الولاء المطلق والانسجام التام مع السلطة العليا، وهو السمة المميزة للأنظمة الأوتوقراطية والتيوقراطية التي تحصر الصراع في الخط الأفقي، وتمنع مجرد التفكير في توجيهه وجهة عمودية تمس من هيبة أعلى الهرم واستقراره ومركزه.

"لا زعيم إلا الزعيم" عبارة رددها وزراء "الزعيم" في إحدى أشهر مسرحيات عادل إمام، وهو مشهد كوميدي نقدي ينطبق على الحيّز السياسي المسيج بحدود صارمة، أسلوب الحصر في هذا الملفوظ يبلغ في قطعيته وحزمه ما يمكن نعته بتأميم الزعامة، فهي حكر على الواحد الأحد سياسيًا.

غفوة واحدة عن المساندة، أو تصفيق في غير حرارة، أو ملاحظة لا تنسجم مع خطابات بن علي كانت كفيلة بإراقة جهود عبير موسي أو غيرها في المعسكر التجمعي

غفوة واحدة عن المساندة، أو تصفيق في غير حرارة، أو ملاحظة لا تنسجم مع خطابات بن علي كانت كفيلة بإراقة جهود عبير موسي أو غيرها في المعسكر التجمعي، لا تحسَبن أن المؤامرات والمكائد كانت تستهدف المعارضين والنقابيين فقط، إنما كانت تطال كذلك المساندين والمنخرطين، فالأجواء داخل الحزب الحاكم قبل الثورة بشهادة الناشطين فيه لم تكن تخلو من الدسائس والوشايات.

اقرأ/ي أيضًا: الغنوشي والأحزاب.. تركته يقبّلها فقام ليوصد الباب

حرّرت الثورة عبير موسي من هذا الخوف العصابي والحيطة المفرطة، وأعادت إليها ذاتها التي كانت رهينة الحزب الواحد والقائد الواحد، وأباحت لها استعادة هويتها المستقلة، فتخلصت من منظور نفسي وفلسفي عميق من الدونية والمذلة، فتضخمت شخصيتها، وأجازت لنفسها في أجواء الحرية حق الحلم بالزعامة، وها قد بدأت في بلوغ هذا الحلم، إذ ساهمت مساهمة ريادية في تأسيس الحزب الدستوري الحر في 13 أوت/أغسطس 2016، ثم ترأسته، ثم شاركت في السباق الرئاسي سنة 2019، ثم بلغت البرلمان باستحقاق ديمقراطي دون تزوير أو وصاية، فأصبحت تقود" الآن "كتلة السبعة عشر نائبًا".

لا ننتظرُ من موسي في هذا المقام التحليلي الوصفي أن تعلن عن مباركتها الثورة، ولا يعنينا أن تشكر الشهداء على السجّاد الانتخابي الذي فرشوه لها، أحبّتْ عبير أو كرهت هي واحدة من المواطنين الذين شملتهم حركة الإنقاذ الثوري، وما الشعور بالضيم الذي ما انفكت تعبر عنه إلا أشبه بموقف شابّ رأيتَه يغرق فلما أوقفت حركته الهائجة بحدة حتى تستطيع إخراجه من اليمِّ لامك وعزّرك على تلك الحدة بعد النجاة ، أو هو بمثابة ردة فعل فتاة أمسكتها بشدة لتمنعها من السقوط، فأبدت تذمرًا على الألم الذي أحدثته لها في معصمها غافلة عن المصير الكارثي الذي كان يترصدها.

من الانضباط الحزبي إلى "المبادرة الوطنية"

لم تكف عبير موسي عن جني ثمار الحرية، فقد تخطت بعد دخول البرلمان مرحلة الزعامة الحزبية إلى مرحلة التطلع إلى الزعامة الوطنية، تجلي ذلك من خلال مواقف عديدة بدت لخصومها متهورة ورآها أنصارها بطولية، منها الإصرار على مساءلة راشد الغنوشي رئيس البرلمان عند زيارته تركيا، وقد دعمت هذا المطلب بحجج قانونية وتشريعية وسيادية. بهذا تخطت عبير موسي مرحلة الانضباط الحزبي والالتزام بالتعليمات والإملاءات في عهد بن علي إلى مرحلة المبادرة والإقدام والاجتهاد، بصرف النظر عن وجاهة هذه القضية ومقاصدها ودوافعها المعلنة والخفية.

غافلٌ من يحسب أن صولات عبير موسي قد أخرجتها في صورة المتهورة المتطاولة فأفسدت صورتها، فالتهور قد بات أعدل الملامح توزيعًا بين النواب وأكثرها رسوخًا منذ المجلس التأسيسي عام 2011، ذلك أن الانطباعات الظاهرة تقوم شاهدًا على أن رصيدها الشعبي في تزايد سريع، هي الآن تقتات من ثلاثة روافد على الأقل. الرافد الأول تقليدي ثابت وهو المتصل بالناخبين المعادين للنهضة عداءً استئصاليًا، أما الثاني فهو مرتبط بالساخطين على ضعف الحكومات وأياديها المرتعشة حتى كادت الثورة تقترن في أذهان العامة اقترانًا دلاليًا تلازميًا مع الفوضى والعجز عن التصدي للجريمة، وأمّا الثالثة فصلتها بالذائقة النسوية متينة، فلا شكّ أنّ عددًا لا بأس به من المولعين برئيسة الحزب الدستوري الحر تحركهم مشاعر "الاعتزاز بامرأة حرة تقف وقفة فيها ما فيها من كبرياء واعتداد بالنفس".

من الثابت أن الخطاب النقدي والضغط الشعبي قد ساهما في "تَونسة" النهضة و"تهذيبها" من شوائب التشدد، فهل يساهم نفس المسلك في "دَمقرطة" الحزب الدستوري وتخليصه من الحنين إلى عهود الاستبداد والاستئصال؟

تُحسن موسي توظيف كل الخلافات لتوسيع رصيدها الشعبي، ففضلًا عن مواقفها المحافظة من مسألة المثلية وقضية المساواة في الإرث فقد استطاعت بعد موجة الاحتجاج التي استهدفتها في البرلمان يوم 16 جانفي/كانون الثاني 2019، رمي خصومها بأدوات أشدّ تأثيرًا، إذ عمدت إلى سلاح جديد لم تستعمله في معاركها السابقة، إنه سلاح الاستعطاف والاستنجاد، فخرجت وهي باكية في صورة المرأة المقهورة، المظلومة، فعززت طائفتها بجمهور آخر تحركه مشاعر العطف والشفقة.

نهتدي من خلال هذا التحليل إلى نتيجتين على الأقل، الأولى تتصل بغفلة عبير موسي عن فضل الثورة عليها وغفلة خصومها عن تمددها حزبيًا وشعبيًا ووطنيًا بشكل قد يجعلها تستميل الخزان الانتخابي لجميع الأحزاب التي بنت خطابها على معارضة النهضة الحزب الأكثر استقرارا في السلطة منذ 2011.

النتيجة الثانية تتصل بضرورة التحلي بالجرأة النقدية التي تجعلنا نعترف بأنّ الحزب الدستوري الحر قد تحول واقعيًا إلى مكون سياسي مؤثر وفاعل وصاعد لا يحق الاستخفاف به أو الاستهانه بمطامحه مهما كانت مرجعياته، وهي نفس الجرأة النقدية التي دفعت الكثيرين سابقًا إلى التسليم بعد الثورة بأن النهضة قد باتت مكونًا سياسيًا من السخف والبلاهة إنكاره بصرف النظر عن موجات التشكيك في اعتداله ومدنيته.

من الثابت أن الخطاب النقدي والضغط الشعبي قد ساهما في "تَونسة" النهضة و"تهذيبها" من شوائب التشدد، فهل يساهم نفس المسلك في "دَمقرطة" الحزب الدستوري الحر وتخليصه من الحنين إلى عهود الاستبداد والاستئصال؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن "القوّاد" و"الصبّاب": آفة الوشاية في تونس من الاستبداد إلى الحرية (2/1)

عن "القوّاد" و"الصبّاب": آفة الوشاية في تونس من الاستبداد إلى الحريّة (2/2)