09-ديسمبر-2019

تحوّل راشد الغنوشي من أحد أخطر خصوم السلطة والدولة إلى أحد مؤسسي جمهورية ما بعد الثورة

 

"يا شيخ، دعك من الترشّح إلى البرلمان"، "ترفّع عن المناصب الحزبيّة والتشريعيّة والتنفيذيّة، فمن طلب الزيادة وقع في النّقصان"، "يحقّ لك أن ترتاح وتهنأ بعد عناء دام عقودًا"، "هذا المَخرج سيكون مشرّفا لك، وستحافظ على منزلتك الاعتباريّة ومقامك النضاليّ، وقد تتحوّل إلى رمز وطنيّ"، "احذر أن يحوّلك خصومك في البرلمان إلى موضوع استخفاف وتندّر وتطاول"، هذه ترجمة بعض النصائح التي وجّهها عدد من أبناء حركة النهضة لرئيسها راشد الغنوّشي قبل الترشّح للانتخابات التشريعيّة.

تحقّق تحوّل جذريّ في مسار راشد الغنوشي إذ بعد أن كان على امتداد أربعة عقود أحد أخطر خصوم السلطة و النظام والدولة تحوّل إلى رجل من رجالها وأحد مؤسسي جمهورية ما بعد الثورة

تمسّك الغنّوشي بالنهاية بحقّه الدستوري، وترشّح على رأس قائمة "تونس 1"، فصعد إلى البرلمان في مرحلة أولى ثم اُنتخب رئيسًا له في مرحلة الثانية، فتحقّق في مساره الحياتيّ والسياسيّ تحوّل جذريّ مثير، فبعد أن كان على امتداد أربعة عقود أحد أخطر خصوم السلطة والنظام والدولة تحوّل إلى رجل من رجالها وأحد مؤسسي جمهورية ما بعد الثورة التي ساهم في إنشائها تخطيطًا وتشريعًا ودعمًا وإشرافًا.

اقرأ/ي أيضًا: هل أوقعت هذه العناصر حركة النهضة في المحظور؟

مأساتي مزيد من مآسيكم

لا شكّ أنّ العديد من القياديين من حزب النهضة ومن أحزاب أخرى خاضوا التجربة الفريدة الاستثنائيّة التي تضارع الحكايات الخياليّة والعجائبيّة، التي يواجه فيها البطل محنًا عديدة ويأتي أفعالات استثنائيّة تفضي إلى النجاة وتبلغ بصاحبها أعلى درجات النفوذ والسلطان والسعادة.

الثورة ودماء الشهداء أتاحت لهؤلاء جميعًا الخروج من شقاء المعارضة إلى نعيم السلطة ومن آلام السجن والترويع إلى رخاء الحكم والتشريع، ومن محنة المطاردة والتهجير إلى منحة التصرّف والتسيير، هذا ما أوحت به مناصب حمّادي الجبالي وعلي العريّض والمنصف المرزوقي والعديد من وزرائهم ومستشاريهم في القصبة وقرطاج.

تفطّن هؤلاء جميعًا إلى أنّ كراسيهم قد كانت شائكة مضجرة مفرعة خلت من كلّ ضروب السيادة والهيبة والنفوذ، فكانت الصدمة، وكان الشقاء، يكاد الواحد فيهم يتحسّس رقبته وهو في مكتبه كلّما تصاعدت هتافات المعارضين، من سياسيين ونقابيين وإعلاميين وغيرهم ممّن أمعنوا في إذلال "رجالات الترويكا" وتحويلهم إلى مشبوهين، فكادت مداخلاتهم وبياناتهم تنحصر في دفع التهم والرّدّ على الظنون، وقد ذكر أحد المدوّنين معلّقا على عجز الوزراء في المرحلة  التأسيسيّة من 2011 إلى 2014" لا تغرنّك حقائبهم، فهم في وضع شبيه بالإقامة الجبريّة لا حول لهم ولا قوّة لهم".

خلع الغنوشي، بعد الثورة، جبّة الشيخ الواعظ الناصح الثائر على الوضع ولبس ثوب السياسيّ المناور المحاور المؤمن بمبدأ "تدافع الأفكار" على حد تعبيره

أوزار الغنوشي وعذاباته تختلف عن محن رؤساء الترويكا ووزرائها من ذوي " السوابق النضاليّة"، كميًا ونوعيًا فدوره منذ الثورة يبدو استثنائيًا متميّزًا في علاقة بجميع الأطراف، ولسان حاله يقول "مأساتي التي أحيا مزيجًا من مآسيكم".

في البدء، واجه رئيس حركة النهضة محنة العمل السرّيّ في زمن كانت فيه الآراء مصادرة، ثمّ تدافعت محطّات المعاناة والشقاء، فمنذ 1981 تتالت الأحكام، وسارت شيئًا فشيئًا نحو أقصى درجات العقاب، من أحد عشر سنة إلى المؤبّد إلى الإعدام، وهو ما اقتضى الفرار فالهجرة فاللجوء السياسيّ الذي تلته أشكال شتّى من المطاردة والتشويه. كانت منزلة الغنوشي، في الأثناء، تتّسع في الخارج كلّما ضيّق عليه النظام في الداخل، وكان مقامه يرتفع في المحافل العلميّة والدينيّة كلما حطّ الإعلام الرسميّ وقتها من شأنه.

أحاط به "إخوانه" في الخارج وسانده الرفاق والحقوقيّون، أمّا في الداخل فقد سكن مهجة النهضويين ونال احترام جلّ الساخطين على نظام بن علي، في فترة كانت فيها الديكتاتورية عامل تأليف بين قلوب كلّ الحالمين بالحريّة والكرامة مهما اختلفت مرجعياتهم. وخلع الغنوشي، بعد الثورة، جبّة الشيخ الواعظ الناصح الثائر على الوضع ولبس ثوب السياسيّ المناور المحاور المؤمن بمبدأ "تدافع الأفكار"، على حد تعبيره، وتلاقحها.

الضغوطات الخارجيّة والأعباء السّلفيّة

في ظلّ واقع معقّد متوتّر سياسيًا وإيديولوجيًا ونقابيًا وإعلاميًا وأمنيًا، كان الغنوشي بعد الثورة يمارس، وفق أنصاره، أخطر مغامرات التفكيك والاستباق والتحسّب، فاقترب، في مرحلة أولى، من السلفيين في فترة كانت النزعة الثوريّة مهيمنة.

وبعد النجاح في انتخابات المجلس التأسيسيّ، بدأ الغنوشي في التصدّي للحرج الخارجيّ، فتهمة التشدّد والرجعيّة وبوادر "أسلمة الدولة" كانت تنذر "حكومة الثورة" بالحصار، فكان السبيل لتجنب العزلة التحالف مع المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر، فنالت النهضة من هاتين الشخصيّتين وحزبيهما عطرًا علمانيًا وملمحًا تقدّميًا.

في ظلّ واقع معقّد متوتّر سياسيًا وإيديولوجيًا ونقابيًا وإعلاميًا وأمنيًا، كان الغنوشي بعد الثورة يمارس، وفق أنصاره، أخطر مغامرات التفكيك والاستباق والتحسّب

اقرأ/ي أيضًا: عن الثورة التونسيّة والعدالة الانتقاليّة.. طرد بن علي والوقوع في شراك منظومته

هذه الخطوة حوّلت النهضة إلى "عدوّ" في ظنّ المتشدّدين، فلحقها من التهديد والوعيد ما لحق طيفًا واسعًا من الأحزاب والشخصيّات التونسيّة، وقد ساهم فكّ الارتباط مع السلفيين في إكساب النهضة صورة الحزب المعتدل. ثم تحالف "الشيخ" بعد انتخابات 2014 مع نداء تونس الذي ضمّ بعضًا من جلّادي الأمس. ولئن أفقدته ترويكا 2011 النهضويين المتشدّدين دينيًا، فقد أفقده تحالف 2014 الإسلاميين الثوريين، كما تسبّب في بداية ظهور التصدّع الداخليّ وتعاظم صوت الإصلاحيين أمثال عبد اللطيف المكّي وعبد الحميد الجلاصي وغيرهما من القياديين الرافضين اليوم لفكرة تأجيل المؤتمر الحادي عشر أو التمديد للرئيس الحالي مهما كانت المبرّرات.

ظلم ذوي القربي؟

تركّزت الانتقادات والاتهامات الموجهة من الخصوم السياسيين وتحديدًا من الجبهة الشعبية، في السنوات الماضية، على رئيس حركة النهضة راشد الغنوشيّ الذي اُتهم بإشرافه على "جهاز سرّي" للحزب في وزارة الداخلية، عدا عن اتهامه بالمسؤولية عن الاغتيالات السياسية.

يعتبر أنصار راشد الغنوشي أن التنازلات المقدمة من حزبه هي آية تضحية بالذات في صالح الحزب والوطن في حين اعتبرها منتقدوه اختيارات لا مبرّر لها غير الطمع أو الخوف أو سوء التقدير

ما إن تراجع صوت الجبهة حتى علا صوت جديد نغّص على الغنّوشي نشوة ترؤس البرلمان، إذ استحدثت عبير موسي بجدالها وصياحها واعتصامها فنًّا جديدًا في مواجهة رئيس حركة النهضة هو فنّ التعطيل والإحراج.  فقد بدا الغنوشي عاجزًا عن اتّخاذ الموقف المناسب، فكلّ القرارات ملغومة، فمتابعة الوضع في غير تحرّك سريع يتعارض مع رغبة عامّة المواطنين في مناقشة عديد المسائل العالقة خاصّة بقانون المالية 2020، واستعمال القوّة رغم وجاهته قانونيًا يعدّ سابقة خطيرة من شأنها أن تنقل انطباعًا سيّئًا في الداخل والخارج حول التجربة الديمقراطيّة في تونس، أمّا السكوت عن صولات رئيسة الحزب الدستوريّ الحر فقد يفقد الغنوشي بقيّة باقية من هيبته التي تبدّدت من فرط التنازلات.

ما يمكن استخلاصه من خلال العذابات التي مرّ بها الغنوشي أنّ المآسي التي واجهها رئيس حركة النهضة في مواجهة الديكتاتوريّة قد عزّزت منزلته الاعتباريّة والنضاليّة أمّا المحن التي وقع فيها بعد الثورة خاصّة تلك التي دفعته إلى سلسلة من التنازلات فقد عدّها المؤمنون بـ"حكمة الشيخ" آية تضحية بالذات في صالح الحزب والوطن في حين اعتبرها منتقدوه اختيارات لا مبرّر لها غير الطمع أو الخوف أو سوء التقدير وهو ما جعل خصوم الغنوشي يتكاثرون اليوم رغم تباينهم من سلفيين ويساريين وتجمعيين وغيرهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإخشيدي و"قيس بوك" و"نظام قيس".. طرائف ومنحوتات لغويّة تفاعلًا مع قيس سعيّد

أيّ مضمون لـ"صفة الثوريّة" في مرحلة الانتقال الديمقراطي؟