مقال رأي
من البيّن أن العلاقات الدبلوماسية بين تونس والمغرب تمرّ من مرحلة الفتور إلى التأزّم، إذ لم تبدأ الأزمة الحالية، ومظهرها اليوم استدعاء كل دولة لسفيرها، بحادثة استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيّد لزعيم "البوليساريو" إبراهيم غالي ضمن أعمال قمة "تيكاد 8". فلم تكن هذه الحادثة إلا القطرة الأخيرة بعد سلسلة من مؤشرات البرود لعلّ أهمها امتناع تونس عن التصويت في مجلس الأمن في أكتوبر/تشرين الأول 2021 على قرار تجديد بعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية (مينورسو)، وهو القرار السنوي الدّوري الذي تدعمه الرباط وترفضه "جبهة البوليساريو" وحليفها التاريخي الجزائر.
لم تكن حادثة استقبال غالي من قبل سعيّد إلا القطرة الأخيرة بعد سلسلة من مؤشرات البرود لعلّ أهمها امتناع تونس عن التصويت في مجلس الأمن في أكتوبر الماضي على قرار تجديد بعثة الأمم المتحدة في الصحراء الغربية
لتكن الصورة واضحة، إن قياس المسؤولية عن اندلاع أي أزمة يتأسس على معايير من بينها معيار الثابت والمتحوّل، أي جهة تصدير العنصر المتحوّل الجديد مقارنة بالوضع الثابت القديم. بهذا المعنى، إن توجيه تونس الدعوة لزعيم "البوليساريو" أولًا وثمّ استقباله رسميًا وفق بروتوكول استقبال رؤساء الدول ثانيًا هو العنصر المستجّد الذي أدى لاندلاع أزمة دبلوماسية تبدو الخشية في تمدّدها في الزمن والميادين.
بيد أنه من المهمّ تدقيق مسألة الدعوة وهو أن الاتحاد الإفريقي، وبعد اجتماع صاخب في شهر جويلية/يوليو الفارط، هو من أقرّ دعوة البوليساريو، غير أن الدبلوماسية التونسية وبمنطق سيادي وبالخصوص في ملفّ أزمة بطبعه، وأخذًا أيضًا بموقف اليابان المتحفّظ على دعوة الكيان الانفصالي، كان من الممكن لها تقدير عدم توجيه الدعوة مباشرة لزعيم البوليساريو أو أقلّه، وفي أقل السيناريوهات، عدم تخصيصه باستقبال رسمي من رئاسة الدولة.
هكذا خيار لم يكن، في المقابل، ليلقى القبول الحسن جزائريًا، خاصة في سياق يبدو خلاله الرئيس قيس سعيّد مراهنًا على "صديقه" تبون، كما يصفه، من أجل تحفيز الدعم الجزائري لتونس اقتصاديًا، خاصة في المجال الطاقي الذي يشهد أزمة عالمية اليوم، دونًا عن الجانب السياسي، وتونس تشهد انتقالًا سياسيًا مثيرًا للتحفظات دوليًا، في أبسط تقدير.
الاطلاع على البيان الصادر إثر الأزمة من اتحاد المغرب العربي، الممضي باسم أمينه العام ووزير الخارجية التونسي الأسبق الطيب البكوش، تشي لهجته بوضوح لتخلّف تونس عن دور ما مأمول، بعد إشارة البيان إلى أنه سبق "نصح" تونس للقيام بمبادرة صلحیة إثر قطع العلاقات بین الجزائر والمغرب. يؤكد هذا البيان، في جانب آخر، حقيقة الجفاء بين سعيّد والبكوش الذي لم يتوان سابقًا في نقد أداء رئيس الجمهورية في إدارة الملف السياسي داخليًا، كما لم يتردّد في التعبير عن خيبته من عدم قدرته على التواصل المباشر معه لحلحلة الملف المغاربي.
لتكن الصورة واضحة، يبدو سعيّد أصلًا باردًا تجاه ملف المشروع المغاربي مثاله عدم تفاعله مع دعوات البكوش لاستحثاث المسار المغاربي. ربّما لأنه يعي أن تمتين التحالف التاريخي مع الجزائر، وهو اليوم بحاجة إليه أكثر من أي وقت مضى، وبما يعنيه من مراجعة للموقف التونسي في قضية الصحراء وإن لم تكن مراجعة جذرية، وإن لم تكن حتى شرطًا جزائريًا لهكذا تمتين، لن يكون مكلفًا على المشروع الإقليمي المعطوب بطبعه منذ عقود. بهذا المعنى، تجوز التضحية ولو مؤقتًا حتى بدور الوساطة التونسية التاريخية. وبرود سعيّد من الالتزام المغاربي يُستقرأ أيضًا في توطئة دستوره الذي نصّ على الهويات العربية والإسلامية والإفريقية دون أي إشارة للهوية المغاربية على خلاف دستوريْ 2014 و1959، وإن كان حافظ على الفصل المغاربي الموروث بهما.
برود سعيّد من الالتزام المغاربي يُستقرأ في توطئة دستوره الذي نصّ على الهويات العربية والإسلامية والإفريقية دون أي إشارة للهوية المغاربية على خلاف دستوريْ 2014 و1959
بيد أن الحديث عن مسؤولية تونسية في اندلاع الأزمة لا ينفي مسؤولية مغربية في التعاطي معها ومن ثمّ مسؤولية مشتركة لحلّها. توجد كرة ثلج تسير بسرعة كبيرة في وقت وجيز قد تؤدي لأضرار من الصعب ترميمها. من الواضح أنه توجد خبرة مغربية خارج الآليات الدبلوماسية المباشرة في التعاطي مع هكذا نوع من الأزمات، ربما الأزمة المستمرّة منذ عقود مع الجزائر قد أنتجتها، وهو تعاطي تصعيد لا احتواء.
إن مسارعة الإعلام المغربي، سواء الرسمي أو غير الرسمي، لشنّ حملة على تونس بشكل مهين، وأيضًا إعلان جهات كالجامعة المغربية لكرة اليد انسحاب الفرق المغربية من تظاهرات رياضية عربية وإفريقية من المزمع تنظيمها بتونس، هي عناصر تخفي نوايا تصعيد غير مفيد للبلدين. كما توجد مؤشرات على حملة كراهية على مواقع التواصل الاجتماعي، لن تؤدي في العمق لشرخ العلاقات التاريخية بين الشعبين، ولكن قد تؤدي، في المقابل، لتوتّر منهك سيزيد من صعوبة الدفع الشعبي للحلم المغاربي. هنا الخسارة الحقيقية.
توجد مؤشرات على حملة كراهية على مواقع التواصل قد تؤدي لتوتّر منهك سيزيد من صعوبة الدفع الشعبي للحلم المغاربي
هل يمكن كبح جماح الأزمة قبل تصاعدها؟ قطعًا، وهو ما يقف على إرادة رسمية مشتركة، يُستوجب توفّرها، ربما مبتدؤها هو الوعي بمخاطر استمرار هذه الأزمة. واجهت تونس مع المغرب أزمة عام 1960 بعد الاعتراف باستقلال موريتانيا، شملت واقعًا تلك الأزمة جميع البلدان التي اعترفت بالدولة التي تراها الرباط امتدادًا لترابها جنوبًا.
وعرفت تونس حقيقة زمن الحبيب بورقيبة أزمات دبلوماسية مع دول الجوار، مع مصر زمن عبد الناصر بسبب ملف اليوسفيين، ومع الجزائر زمن بومدين بسبب ملف ترسيم الحدود البرية وملف الصحراء أيضًا، ومع ليبيا زمن القذافي بسبب ملف الوحدة. لم تدم تلك الأزمات طويلًا وطُويت بل لحقتها انتعاشة للعلاقات الرسمية والأهم أنها لم تحدث شرخًا على مستوى الروابط الشعبية، لأنها ظلت أزمات دول لا أزمات شعوب.
عرفت تونس زمن بورقيبة أزمات دبلوماسية مع دول الجوار، لم تدم تلك الأزمات طويلًا وطُويت بل لحقتها انتعاشة للعلاقات الرسمية والأهم أنها لم تحدث شرخًا على مستوى الروابط الشعبية
المغرب، من جهتها، عرفت أزمات عديدة مع دول المنطقة، بيد أن أهمّها الأزمة المستمرّة مع جارتها الشرقية الجزائر، وهي أشدّ لأن استدامتها لعقود مع آلة الدعاية في البلدين دون عن تصاعدها بين الفينة والأخرى، خلّفت ندوبًا شعبيًا وإن لم تبلغ درجة العداوة.
من غير المنتظر أن تبلغ الأزمة التونسية المغربية مستوى تصاعدي قد يبلغ القطيعة، فالسلوك الدبلوماسي المغربي في ملف الصحراء مع تونس حاليًا يتشابه وسلوكها في عديد المناسبات السابقة مع دول أخرى وذلك كلما قدّرت الرباط تجاوزًا لخطوط دفاعها في هذا الملف، إذ سرعان ما يتمّ الاحتواء بعنوان المصالح المشتركة مع الدول، وأيضًا باعتبار أن الخيار الاستراتيجي للمغرب، وخاصة منذ عودتها للاتحاد الإفريقي عام 2017، هو التخلّي عن سياسة الكراسي الشاغرة.
المغرب معنية بتبليغ حالة احتجاج تفاديًا لأي موقف تونسي آخر ولكن غير معنية بدفع تونس، خاصة مع رئيس يبدو حاليًا غير منضبط للعقل الدبلوماسي الموروث للدولة، لتبنّي موقف متطابق مثلًا مع الموقف الجزائري
المغرب معنية بتبليغ حالة احتجاج تفاديًا لأي موقف تونسي آخر ولكن غير معنية، في الجوهر، لدفع تونس، خاصة مع رئيس يبدو حاليًا غير منضبط للعقل الدبلوماسي الموروث للدولة، لتبنّي موقف متطابق مثلًا مع الموقف الجزائري، وذلك بغضّ النظر لتقدير، أعتقد أنه صحيح، وهو أن تونس لازالت متبنية لخيار استراتيجي وهو المحافظة على الموقف التاريخي الذي أسسه بورقيبة في ملف الصحراء عنوانه العريض هو دعم المسار الأممي مع عدم الاعتراف بالبوليساريو.
هل نحتاج إذًا لوساطة بين تونس والمغرب؟ البيروقراطية الدبلوماسية تعلمنا أن حلّ هكذا أزمات عابرة يمرّ إمّا بتنسيق رسمي مباشر من الصف الثاني عبر رسائل حسن نيّة يلحقها تجاوز للأزمة، وإما عبر وساطة من بلد ثالث تنتهي بتسوية مباشرة بين بلدي الأزمة لإخراج مقبول لتجاوزها.
المأمول في الأزمة الحاصلة هو الخيار الأول باعتبار أن العلاقات الرسمية بين البلدين لم تبلغ مستوى القطيعة بل ليست بحاجة لوساطة، بيد أنه يعدّ عامل السرعة ضروري للاحتواء قبل امتداد الأزمة، والاحتواء هو رسائل بينّة من بينها عدم انخراط الإعلام الرسمي على الأقل في أي خطاب تصعيدي وعدم توسيع مجال الأزمة خارج الإطار الدبلوماسي التقليدي.
يعرف الحلم الوحدوي المغاربي أزمة تجسيد، وهو بحاجة لمبادرة جديّة لإحيائه تحقيقًا لحلم الأجداد المؤسسين للمشروع المغاربي، وليس بحاجة لاستدعاء أزمة غير مفيدة لأي طرف بل منتجة للخسارة للجميع
إن الاطلاع على بيانات وزارتي الخارجين في البلدين يبيّن سعيًا تونسيًا للاحتواء من موقع سيادي، في انتظار رسائل مغربية للاحتواء، وذلك دون أن ينفي ذلك لزوم تدخل الإرادة السياسية في البلدين بشكل مباشر للتواصل لإنهاء الأزمة على قاعدة المصالح العليا للبلدين والروابط التاريخية بينهما. يعرف الحلم الوحدوي المغاربي أزمة تجسيد، وهو بحاجة لمبادرة جديّة لإحيائه تحقيقًا لحلم الأجداد المؤسسين للمشروع المغاربي، وليس بحاجة لاستدعاء أزمة غير مفيدة لأي طرف بل منتجة للخسارة للجميع.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"