29-أغسطس-2022
قيس سعيّد يستقبل زعيم البوليساريو في تونس لحضور تيكاد 8

قيس سعيّد يستقبل زعيم البوليساريو في تونس لحضور تيكاد 8

مقال رأي

 

لم يكن أحد أهم أحداث القمة اليابانية ـ الإفريقية "تيكاد 8" على علاقة بأهداف القمة. استقبل الرئيس التونسي قيس سعيّد بنفسه أمين عام جبهة البوليساريو إبراهيم غالي. وهكذا تدحرجت كرة الأزمة بين تونس والمغرب، إذ أعلن المغرب في بيان طويل ملأه الاستنكار أنه سيستدعي سفيره من تونس، وبعد ذلك بقليل أصدرت تونس بيانًا للرد مع إعلان دعوتها سفيرها في الرباط. السؤال الذي سنحاول طرحه بالأساس هنا هو التالي: هل نحن إزاء "زلة ديبلوماسية" قابلة للإصلاح أم أننا إزاء تغيير واع في السياسة الرسمية التونسية لن يقف هنا وأن الأزمة ستتواصل وتتعمق؟

المشكل ليس في الاستضافة في ذاتها بل في استقبال إبراهيم غالي من قبل قيس سعيّد والتعامل مع الاستقبال بروتوكوليًا كأنه استقبال رئيس دولة لنظير له مع تجاور العلمين

كنت أشرت في مقال سابق منذ أسبوع إلى الآتي: "يبقى من غير الواضح إن كانت ترتيبات القمة تستطيع تجاوز الإشكالات الديبلوماسية عند القيام بالدعوات لممثلي الدول الإفريقية، خاصة الإشكال التقليدي بين الجزائر والمغرب في خصوص دعوة ممثلي "الصحراء الغربية"، في وقت يتزايد فيه التوتر بين الدولتين الأكبر مغاربيًا. في كل الحالات من الواضح أن من مصلحة قيس سعيّد القيام بكل شيء لكي لا تترك القمة اليابانية الإفريقية أي أثر سلبي على علاقاته مع كل من الجزائر أو الرباط، حيث يمشي منذ فترة على خيط رفيع بينهما في سياق سياسة "صفر مشاكل" مع الجيران والتحالفات الإقليمية ليس في المغرب الكبير فحسب بل عمومًا الممتدة عميقًا في اتجاه الشرق أيضًا إلى مصر والخليج". (الترا تونس 17 أوت 2022).

 

 

سنحاول الآن بناء على المعطيات المتوفرة التثبت إن كان ما حصل اعتباطي وناتج عن "سوء تقدير" أم أنه نقطة انطلاق تغيير جذري في السياسة الخارجية التونسية وفي الأفق قطيعة كاملة مع المملكة المغربية.

  • أولاً، النقطة الرئيسية التي يجب أن نركز عليها ليست بالضرورة تمثيل "الجمهورية العربية الصحراوية" في القمة. ليس مستجدًا أن يحدث ذلك ولم يكن استثناء تونسيًا. في القمم السابقة اليابانية، حصل ذلك وآخرها قمة "تيكاد 7" في أوت/أغسطس 2019 والتي انعقدت في اليابان. وهكذا طوكيو كدولة مستضيفة سبق لها أن وجهت دعوة مباشرة واستضافت الزعيم الصحراوي إبراهيم غالي رغم الاحتجاج المغربي الرسمي آنذاك. وحصل ذات الشيء أيضًا في قمم أخرى تجمع أطرافًا ودولًا أخرى مع الاتحاد الإفريقي، آخرها ربما القمة الأوروبية الإفريقية الخامسة في بروكسال في شهر فيفري/شباط 2022، والتي إن لم تقاطعها المغرب إلا أنها احتجت رسميًا. وليست هذه المرة الأولى التي يحصل فيها خلاف بين المغرب ودولة عربية أخرى بسبب استضافة مماثلة. حصل ذلك في القمة العربية الإفريقية الرابعة في غينيا في 2016 التي استضافت أيضًا ممثل البوليساريو وقاطعتها المغرب (مع ست دول عربية أخرى) لكن شارك فيها الرئيس المصري، وأصدرت حينها الخارجية المغربية بيانًا اعتبرت فيه مشاركة السيسي "غير منتظرة". من الواضح أن الجزائر كانت أكثر تأثيرًا على مستوى المؤسسات الإفريقية العقود الأخيرة منذ دعمها حركات التحرر بما جعلها توظف علاقاتها في السبعينيات وبداية الثمانينيات للاعتراف الإفريقي بالصحراويين وهو ما أدى إلى انسحاب مغربي من المنظمة الإفريقية. ولم يتغير شيء عمليًا حتى بعد عودة المغرب إلى المنظمة سنة 2017. وهكذا عند عقد اجتماع المجلس التنفيذي الإفريقي في جويلية/يوليو الماضي لم يكن مفاجئًا أن أصرت غالبية واضحة من الدول على دعوة ممثل البوليساريو إلى قمة تونس "تيكاد 8"، رغم الضغط المغربي. وقد كان بلاغ الخارجية التونسية الذي تعرض لبعض هذه النقاط معقولًا عمومًا.

حدثت في الماضي القريب أمور بين البلدين من بينها تصويت تونس في الأمم المتحدة منذ حوالي العام ضد التجديد للبعثة الأممية في الصحراء، وهو ما تم اعتباره حينها تماهيًا "غير معتاد" مع الموقف الجزائري

  • ثانيًا، إذًا ما الجديد ولما رد الفعل المغربي الغاضب والذي وصفه الجانب التونسي بأنه "مبالغ فيه"؟ المشكل ليس في الاستضافة في ذاتها في رأيي بل أساسًا في استقبال إبراهيم غالي من قبل الرئيس التونسي قيس سعيّد والتعامل مع الاستقبال بروتوكوليًا كأنه استقبال رئيس دولة لنظير له، مع تجاور العلمين التونسي وعلم "الجمهورية الصحراوية". وعندما نشرت الرئاسة التونسية الصور الأولى لقبته بأنه "الرئيس إبراهيم غالي" قبل حذف المنشور وتعديل النص وسحب أي صفة عن غالي بعد بلاغ الخارجية المغربية الأول. لكن لا يبدو أن هذه الصور كما هي، هي ما حركت الموقف المغربي. هناك أشياء حدثت في الماضي القريب كما يشير بلاغ الخارجية المغربية الثاني، والإشارة هنا على الأرجح للتصويت التونسي في الأمم المتحدة منذ حوالي العام الذي كان ضد التجديد للبعثة الأممية في الصحراء، وهو ما تم اعتباره حينها تماهيًا "غير معتاد" مع الموقف الجزائري. لكن الأمر لا يتعلق فقط بالماضي بل أيضًا بالمستقبل. الحقيقة أن الأوساط المغربية تتداول في الكواليس منذ فترة أن هناك توجهًا تونسيًا "متوقعًا" للقيام بخطوات أخرى مثل استضافة "مؤتمر أصدقاء الصحراء" وأيضًا اعتراف رسمي بالبوليساريو. طبعًا لا يوجد ما يؤكد هذه المخاوف المغربية الآن، لكن من الواضح أنه من الزاوية المغربية نحن إزاء مسار تصعيدي، وأن ردة الفعل الحالية كانت على الأرجح أقوى من المتوقع لأنها تريد استباق أي خطوات تونسية أخرى في هذا الاتجاه.

الأوساط المغربية تتداول في الكواليس منذ فترة أن هناك توجهًا تونسيًا "متوقعًا" للقيام بخطوات أخرى مثل استضافة "مؤتمر أصدقاء الصحراء" وأيضًا اعتراف رسمي بالبوليساريو

  • ثالثًا، يجب أن نضيف إلى ذلك طبعًا أنه بشكل عام زادت أهمية مسألة الصحراء في السياسة الخارجية المغربية والتي أصبح ثمن الاعتراف بسيادة المغرب فيها عاملًا محددًا وصل إلى حد أنه كان الثمن الباهض للتطبيع مع إسرائيل مقابل الاعتراف الأمريكي. ومثلما أعلن العاهل المغربي منذ أسبوع فإن ملف الصحراء هو "النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم" وأن الاعتراف بسيادته على الصحراء هو ما يحدد موقفه من أي بلد. بهذا المعنى نحن إزاء وضع "إما معي أو مع عدوي (الجزائر)". في المقابل نبرة الخطاب الرسمي الجزائري هي أيضًا في وضع تصعيدي خلف المناورات العسكرية والهجمات المباشرة، وخاصة بعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب كأننا نتجه أيضًا إلى وضع مماثل "إما معي أو مع عدوي (المغرب)". طبعًا في قلب الصدام التاريخي وليس الجديد المغربي-الجزائري تموقعات إقليمية متباينة. ففي الوقت الذي تتموقع فيه المغرب في قلب موجة التطبيع الجديدة مع إسرائيل إلى جانب الإمارات، تقف الجزائر في الضفة المقابلة حيث تدعم مثلاً مشاركة سوريا في القمة العربية المقبلة مدعومة في ذلك من دول عربية أخرى قريبة من الحلف القريب من إيران، وتتموقع أيضًا في عدد من قضايا المنطقة ومنها الملف الليبي قريبة من أنقرة.

زادت أهمية مسألة الصحراء في السياسة الخارجية المغربية والتي أصبح ثمن الاعتراف بسيادة المغرب فيها عاملًا محددًا وصل إلى حد أنه كان الثمن الباهض للتطبيع مع إسرائيل مقابل الاعتراف الأمريكي

  • رابعًا، إذًا هل أن وضع الاستقطاب الحاد هذا سيفرض على تونس الاصطفاف؟ وإن ما حصل من استقبال رسمي من الرئيس سعيّد لإبراهيم غالي ليس مجرد "زلة ديبلوماسية"؟ فرضية الاصطفاف في هذا الملف ستمثل بالتأكيد تغييراً في السياسة الرسمية الخارجية التونسية التي حاولت على مدى عقود تجنب الوقوع في فخ الملف الشائك الصحراوي. وفي تاريخ العلاقات التونسية المغربية، هناك حالات أزمة سابقة، أهمها اعتراف الحبيب بورقيبة بموريتانيا ورد الفعل المغربي الغاضب سنة 1960 ودامت القطيعة إلى سنة 1965. ولأن بورقيبة كان على ذات الإحداثيات في التموقع في الأحلاف الاستراتيجية مع الحسن الثاني، حيث كان كلاهما في الحلف الغربي، مقابل الجزائر وليبيا الذين كانا في المعسكر الشرقي، حاول الرئيس التونسي فيما بعد وخاصة عند اندلاع نزاع الصحراء منتصف السبعينيات تجنب الاصطفاف ضد المغرب. لكن الواقع الجيوسياسي الذي تفرضه الحدود المشتركة الطويلة بين تونس والجزائر فرض أيضًا حالة تقارب ضرورية مع الجار الجزائري. كانت السياسة البورقيبية عمومًا تسمى من الدبلوماسيين التونسيين بـ"الحياد الإيجابي"، ولا يعني هذا التعبير الكثير، فقط أن تونس تسعى عمومًا لعدم التعبير عن موقف صريح. تواصل ذلك زمن زين العابدين بن علي الذي حاول أيضًا لعب دور الوساطة على أساس الحياد في الملف. وأيضًا بعد الثورة، تواصل هذا التوجه الحذر من "المستنقع الصحراوي"، ومن ذلك إلغاء رئيس الحكومة الحبيب الصيد في فيفري/شباط 2016  زيارة إلى المغرب عندما علم أن برنامج الزيارة يمكن أن يتضمن زيارة إلى الصحراء. في المقابل، لا يبدو قيس سعيّد في خطابه الرسمي وتوجهاته المعلنة في السياسة الخارجية والتي ضمن بعض أفكاره فيها في توطئة الدستور الجديد، أنه غير معني بالتموقع في أي أحلاف. وهو ما أسميه بسياسة "صفر مشاكل". لكن عمليًا ما حصل مع المغرب يمكن أن نعتبره "مشكلًا" واضحًا وكبيرًا. فما الذي يمكن أن يجعل قيس سعيّد معنيًا بالاصطفاف في هذه الحالة؟

 

 

  • خامسًا، إذا صح فعلاً  أننا إزاء تغير جذري يمكن أن يصل إلى الاعتراف بالبوليساريو ومن ثمة القطيعة مع المغرب ربما فإن هناك على الأرجح أسبابًا استراتيجية أكبر بكثير من توجهات قيس سعيّد الرسمية يمكن أن تفسر ما حصل، تجعلنا نفهمه لا أن نتفهمه ضرورة. إزاء وضع الاستقطاب الحاد بين الجزائر والمغرب، ربما يرى قيس سعيّد أنه أمام وضع مستحيل لا يحتمل "الحياد" المعتاد وعليه أن يختار: "إما المغرب أو الجزائر". وإن اتجه الاختيار نحو الجزائر في تصور الرئيس التونسي فلا يمكن أن نفهم ذلك دون استحضار الثقل المتزايد للجزائر في خصوص الملف الطاقي التونسي الذي نشهد فيه عجزًا تاريخيًا. ورغم أن تونس لديها فائض إيجابي في الميزان التجاري مع المغرب ورغم أن الأخيرة تستورد كميات هامة من ثاني أهم منتج فلاحي تونس موجه للتصدير (بعد زيت الزيتون، التمور التونسية يتم تصديرها جزء كبير منها إلى المغرب) رغم كل ذلك ليس هناك مقارنة ممكنة بين المصالح التونسية مع الجزائر خاصة في السياق الطاقي الراهن وتلك مع المغرب. يأتي ذلك أيضًا في سياق تزايد الثقل الاستراتيجي الجزائري إقليميًا بالتحديد بسبب موقعها في خريطة الغاز خاصة بعد الحرب الروسية في أوكرانيا والتوقف المنتظر لأي إمدادات غازية روسية إلى أوروبا بما جعلها مزارًا للأطراف الأوروبية المتوسطية خصوصًا أي إيطاليا وأخيرًا فرنسا، وهذا ما يمكن أن يعزز موقع الجزائر في المنطقة ومن ثمة يضاعف أكثر إمكانات تأثيره على موقع تونس، بما في ذلك العلاقة مع الاتحاد الأوروبي على الأقل فيما يخص أوروبا المتوسطية (ألمانيا تبدو في اتجاه معاكس حيث تعززت العلاقات بين بون والرباط مؤخرًا). بمعنى آخر يجب أن نتوقع سيناريو تكون فيه الجزائر مفاوضًا أوليًا في المغرب الكبير على وضع المنطقة بما في ذلك تونس التي تمر بضائقة مالية صعبة ووضع سياسي لا يزال غائمًا وليبيا التي تواصل الانحدار في وضع انقسام مؤسساتي حاد وأفق تجدد الحرب الأهلية. إضافة إلى ذلك هناك تقارب سياسي على مستوى الخطاب بين الرئيسين سعيّد وتبون وهو نظرتهما لموضوع التطبيع مع إسرائيل. وإذ تنتقد الجزائر علنًا الخطوات المغربية في هذا الاتجاه فإن الرئيس التونسي لم يبد أي موقف علني إزاء قرار التطبيع المغربي، لكنه لم يعلن تراجعًا عن موقفه الشهير زمن الانتخابات "التطبيع خيانة عظمى".

إن اتجه اختيار الرئيس التونسي نحو الجزائر فلا يمكن أن نفهم ذلك دون استحضار الثقل المتزايد للجزائر في خصوص الملف الطاقي التونسي الذي نشهد فيه عجزًا تاريخيًا

لكن فهم هذه الظروف والسياقات لا يمكن أن يجعلنا نهضم بسهولة تغيرًا جذريًا في الموقف التونسي إزاء الصحراء. لا أعتقد أن الجزائر قادرة أن تفرض موقفًا متماهًيا معها في خصوص الصحراء ولا نحتاج الذهاب إلى حد التماهي معها وربما هي لا تطلب ذلك أصلًا. فالجزائر أيضًا تحتاج جارًا تونسيًا مستقرًا ولا تحتاج تونس إلى تقديم ثمن باهض للعلاقة الطاقية مع الجزائر، فعلاقة قوية بين الجزائر وتونس هي في ذاتها مصلحة للطرفين.

من المهم أن يحافظ الرئيس التونسي قيس سعيّد على المبادئ التي أعلنها خاصة الحياد عن مختلف الأحلاف حتى لو أصبح ذلك شديد الصعوبة. فالأزمة مع المغرب هي أيضًا أزمة ممكنة مع حلف يصل إلى الإمارات والسعودية. ومن المرجح أن القمة العربية القادمة في الجزائر، إن حصلت، ستكون مسرحًا لانقسام الأحلاف هذا.

كما أن هناك مصلحة تونسية عليا في الحفاظ على السلم ومنع الانقسام الحاد في المنطقة المغاربية، فهناك الحلف الوحيد المستديم الذي على تونس السعي لبنائه بشكل صبور وطويل الأمد أي الاتحاد المغاربي. وفقط "الحياد" في ملف الصحراء سيجعل تونس قادرة على لعب دور بناء في هذا الاتجاه، حتى لو بدا لنا الآن مستقبل اتحاد المغرب الكبير محفوفًا بكثير من المصاعب والشكوك في ظل الاستقطاب الحاد بين الجزائر والمغرب. وبهذا المعنى لا يجب "شتم المستقبل" أو تفخيخه بجروح متزايدة.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"