16-أغسطس-2022
 مشاركة النحات التونسي محرز اللوز

مشاركة النحات التونسي محرز اللوز

 

الرخام ليس مكونًا جيولوجيًا صلبًا ينام في جوف الجبال في سلام يشبه الخلود فحسب، بل هو أنين الوجود الصامت ونداءاته القصية عبر الأزمان، هو نبض الكون الهائل المسكون بعظمة الطبيعة، هو صوت الإنسان وغنائياته القديمة المنسية وتخوم اللانهاية، هو "كبد الأرض" كما يعرّفه النحات الفرنسي رودان.

والنحت مدرك للتاريخ الطويل للبشرية وراو أساسي له وشاهد على حالات السلم كما حالات الحرب، إنه فعل بشري قديم ساهم في بقاء الإنسان قبل أن تتم عملية انخطاف في احدى المنعطفات الزمنية نحو  الفن.  والرخام هو عطر باذخ من صخر خبأته الجبال في تجاويفها لآلاف السنين ثم منحته الطبيعة للإنسان ليعطّر حياته عبر" فن النحت".


كل هذه الهواجس التأويلية داخل التاريخ وداخل اللغة تراءت لي سريعًا وأنا أعبر الرواق السفلي لمدينة الثقافة متجهًا نحو فنائها الخلفي حيث أزيز آلات قطع الرخام والمطارق وهي تهم بالأزاميل تعمل فيها ما تعمل، إنها الورشات المفتوحة للنحت على الرخام التي انتظمت بمناسبة "ملتقى مدينة الثقافة الدولي للنحت على الرخام" ضمن دورته الأولى التي سعت لتنظيمها مؤسسة مسرح أوبرا تونس في إطار الأنشطة الثقافية الموازية الموكولة لوزارة الشؤون الثقافية بمناسبة احتضان تونس "لندوة طوكيو الدولية للتنمية بإفريقيا "تيكاد 8" التي ستنعقد بالعاصمة يومي 27 و28 أوت/أغسطس 2022.

"ملتقى مدينة الثقافة الدولي للنحت على الرخام" عرف مشاركة 18 نحاتًا، من بينهم عبد العزيز كريد، محرز اللوز، أيمن بومنجل، سيف الدين بن حماد، وبيرم العوني

"ملتقى مدينة الثقافة الدولي للنحت على الرخام" الذي انعقد خلال النصف الأول من شهر أوت/أغسطس الجاري بمشاركة 18 نحاتًا، فنجد من تونس زمرة من أهم النحاتين من مختلف الأجيال وجميعهم من ذوي الخبرة ولهم مشاركات محلية وعالمية هامة ولنا أن نذكرهم جميعهم وهم : عبد العزيز كريد، محرز اللوز، أيمن بومنجل، سيف الدين بن حماد، بيرم العوني، خالد الفقي، حمدة بن سالم، محمد بوعزيز، محمد سحنون، ومراد بن بريكة.

 

 

أما عن المشاركات الدولية فقد انحسرت في 8 دول ومثلها نحاتون هم على التوالي: إياد صباح من فلسطين والطاهر هدهود من الجزائر وصلاح الدين حماد من مصر وحسين علي جبار من العراق وخالد عبد الله المرغاني من السودان وهيروشي ميوشي من اليابان ورولان هوفت من ألمانيا.

"الترا تونس" تنقل داخل الورشات المفتوحة ووقف على صعوبة عملية النحت على الرخام وما مدى تطويع هذه المادة الصخرية الصلبة... والتقى بعض الفنانين المشاركين المشتغلين على مواضيع فكرية وشعرية واجتماعية مختلفة تحت شمس "أوسّو" الحارقة.

عميد النحاتين التونسيين عبد العزيز كريد لـ"الترا تونس": اختيار مادة الرخام التونسي (رخام تالة الرمادي) هو اختيار سليم لأنه يقدم روح الطبيعة التونسية وأيضًا هو من المواد المريحة للبصر والبصيرة

وكان أول المستجوبين هو عميد النحاتين التونسيين والمدرّس السابق لمادة النحت بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس الأستاذ عبد العزيز كريد، الذي استحسن هذه التظاهرة الفنية معتبرًا إياها إعلاء من قيمة النحت عمومًا والنحت على الرخام على وجه الخصوص، مشيرًا إلى حالة التّصحر الفني الذي تشهده الساحات العامة في تونس أو تلك الحدائق والتقاطعات المدينية التي فيها ما يعيبها من غياب للثقافة والفن التي من أدوارها الأساسية بناء ذائقة شعبية سليمة، وأوضح النحات عبد العزيز كريد أن اختيار مادة الرخام التونسي (رخام تالة الرمادي) هو اختيار سليم لأنه يقدم روح الطبيعة التونسية وأيضًا هو من المواد المريحة للبصر والبصيرة على حد قوله. أما عن العمل الذي اختاره للتنفيذ فهو تأصيل للحظة عناق بين ما يشبه الطيفين كناية عن لحظة حب صادقة.

 

عمل النحات التونسي عبد العزيز كريد

عمل النحات التونسي عبد العزيز كريد

 

سيف الدين بن حماد، نحّات تونسي ومدرّس بالمعهد العالي للفنون والحرف بالمهدية له عدة مشاركات محلية هامة وقد ثمّن من جهته هذه التظاهرة النحتية لأنها حسب تصوّره تدافع عن فن النحت على الرخام المحلي، موضحًا أن "النحت يبقى من الفنون القديمة والأصيلة لكنها لا تلقى الرواج المطلوب في الثقافة العربية الإسلامية لأسباب عديدة"، مشيرًا إلى أن هذه التظاهرة تتنزل في سياق  "تيكاد 8" وهو حدث إفريقي هام وتونس لابد أن تستغله ثقافيًا الاستغلال السليم، وفق كلامه.

سيف الدين بن حماد، نحّات تونسي: "النحت يبقى من الفنون القديمة والأصيلة لكنها لا تلقى الرواج المطلوب في الثقافة العربية الإسلامية لأسباب عديدة"

وعن عمله الذي يشارك به في الملتقى فقد بيّن النحات التونسي سيف بن حماد أنه اشتغل على تضاد الأفكار في علاقة بالمادة فهو تجسيد لطيات ورق ليّن على صلابة المادة في شكل حلزوني.. وقد استوحى فكرة منحوتته من فنون طي الورق (الأوريقامي) التي تعتبر من صميمة الثقافة اليابانية القديمة والحديثة.

 

 

النحات والخزاف التونسي أيمن بومنجل، أصيل مكثر من ولاية سليانة بالشمال الغربي التونسي، ثمّن هذه التظاهرة وطالب بديمومتها لأنها ستفسح المجال واسعًا في قادم الأيام بعودة النحاتين التونسيين إلى العمل والإبداع والإنتاج الفني، معتبرًا أن النحت هو يؤرخ للحظة السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع وبالتالي لا بد من الحفاظ عليه وتحدي كل العوائق وإزاحتها بإرادة قوية من النحاتين أنفسهم. واعتبر النّحات أيمن بومنجل أن هذه الدورة الأولى من ملتقى مدينة الثقافة الدولي للنحت على الرخام تعتبر فرصة هامة للنحاتين التونسيين لإبراز قدراتهم الفنية وأيضًا هي مجال للتلاقي مع فنانين عرب وأجانب لهم تجاربهم وأساليبهم الإبداعية.

النحات والخزاف التونسي أيمن بومنجل لـ"الترا تونس": النحت هو يؤرخ للحظة السياسية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع وبالتالي لا بد من الحفاظ عليه

وعن عمله الذي يشارك به في الملتقى، أوضح النحات بومنجل أنه "تجسيد غير مباشر للآلة الموسيقية الكونترباص فهي تتجلى للعين في شكل جسد امرأة.. واعتبر ذلك بمثابة رجع الصدى لمؤسسة مسرح أوبرا تونس  بمدينة الثقافة التي رعت هذه التظاهرة ووقفت على تنفيذها بنجاح بتوفير كل المستلزمات والمواد والروح المعنوية العالية الممنوحة لنا من جماعة الأوبرا".

 

النحات والخزاف التونسي أيمن بومنجل

النحات والخزاف التونسي أيمن بومنجل

 

ومن المشاركين في الملتقى التقينا الفنان حمدة بن سالم، وهو نحات تونسي ومدرّس للنحت بالمعهد العالي للفنون الجميلة بنابل، له عدة مشاركات في "سمبوزيومات" للنحت في تونس وخارجها. وبسؤالنا إياه عن "هل يعتبر مدة أسبوعين كافية حتى ينجز النحات عملًا يفوق طوله المترين؟ أجاب بن سالم بأن الوقت بالنسبة لهذا الملتقى يعتبر وجيز ًا جدًا من أجل الحصول على أعمال إبداعية متقنة وعالية الجودة".

وتطرق محدثنا لمسألة التعامل مع صلابة الرخام ومدى الصعوبات التي تعترض الفنان والتحديات الذهنية التي يقوم بها حتى يحوّل الجمود إلى لين وهو الذي نسميه الإبداع وتتلقفه عيون المتلقي لتقلبه على الأوجه التي ترى. وختم بن حمدة أن "عمله الذي يشارك به في هذا الملتقى ينهل من المكونات الثقافة التونسية في الشكل والمضمون فهو اشتغل على موضوع كلاسيكي وهو المرأة التي تعتبر رمزًا للعطاء والخلود".

النحات الفلسطيني إياد صبّاح لـ"الترا تونس": سعيد بترك عمل فني يعتمد تيمات فلسطينية في ساحة عمومية تونسية

النحات الفلسطيني إياد صبّاح، المغترب ببلجيكا يمثل بلده فلسطين في هذا الملتقى وهي زيارته الثانية لتونس بعد مشاركته بملتقى الحمامات سنة 2019، ويعتبر أن مثل هذه المشاركات ذات أهمية بالنسبة إليه لأنها تنمي تجربته الفنية من جهة ومن جهة ثانية هي ترويج وتعريف بالثقافة الفلسطينية، خاصة وأن التيمات التي يشتغل حولها في منحوتاته وأعماله الفنية هي فلسطينية بالأساس. وعبر النحات إياد صبّاح عن عميق سروره وهو يترك عملاً فنيًا في ساحة عمومية تونسية إسهامًا منه في نشر الذوق في المجتمع وهو على يقين بأن المتلقي التونسي سيحسن التعامل معها.

 

عمل النحات الفلسطيني

عمل النحات الفلسطيني إياد صبّاح

 

والتقينا أيضًا النحات والفنان التشكيلي المصري الدكتور صلاح حمّاد، الذي أدار وشارك في  أكثر من 62 سمبوزيوم دولي خاص بفنون النحت والرسم داخل مصر وخارجها. الدكتور حمّاد سبق له أن شارك بالحضور في تظاهرات تشكيلية تونسية ويعتبر نفسه صديقًا للساحة الثقافية التونسية، وفق قوله.

النحات والفنان التشكيلي المصري صلاح حمّاد لـ"الترا تونس": الملتقى يكسر الطوق الأخلاقي المضروب حول فن النحت ويضفي جمالية على الساحات العامة

وبخصوص هذا الملتقى الذي نظمته مؤسسة مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة بالعاصمة التونسية، فإن الدكتور صلاح حماد يعتبره مكسبًا للثقافة التونسية والعربية لأنه يكسر ذاك الطوق الأخلاقي المضروب حول فن النحت وفي نفس الوقت هو يضفي جمالية على الساحات العامة خصوصًا وأن المادة التي بها أنجزت الأعمال هي الرخام المتسم بالهدوء والوقار. وبخصوص العمل الذي شارك به النحات المصري، فقد أوضح لـ"الترا تونس" أنه شكل طائر الغراب لما يحمله هذا الطير من رمزية في مختلف الثقافات الإنسانية.

 

عمل النحات المصري

عمل النحات والفنان التشكيلي المصري صلاح حمّاد

 

إنّ الأعمال الفنية التي كانت ثمرة مجهود أكثر من عشرة أيام من الصقل والتطويع لمادة الرخام الرمادي ستركز بالحدائق المحيطة لمدينة الثقافة بالعاصمة التونسية التي ستحتضن فضاءاتها بعض فعاليات ندوة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا نهاية شهر أوت/أغسطس الجاري.