30-أغسطس-2018

"سوق القايد" هو أحد الأسواق الثمانية في المدينة العتيقة في سوسة

مقبلون على سوسة من الجهة الغربية للسور، يحطون الرحال عند الباب الغربي أحد الأبواب الثمانية المذكورة في كتب التاريخ، هم الفلاحون والمزارعون والتجار وأهالي المدينة الذين يأتون من كافة أنحاء الإيالة التونسية والقرى المجاورة. يمرون حذو باب تعتلي أبراجه مدافع حربية، وقد كان بابًا متقدمًا عن السور، وراءه ثكنة للعسس أنشئ في العهد الأغلبي ورمم خلال ستينيات القرن الماضي.

يمتد "سوق القايد" من الباب الغربي لمدينة سوسة إلى مدخل "سوق الربع" وهو أحد الأسواق الثمانية في المدينة العتيقة في سوسة

ينزلون عن جمالهم وبغالهم وحميرهم، يضعون حملهم عنها بعد مشقة السفر فمنهم من يودعها "الفندق" وهو إسطبل مخصص للحيوانات ومنهم من يتركها خارج الأسوار، ومنهم من يكتري مبيتًا يسمى "الوكايل" وهي إقامات للمسافرين. وكل مسافر ما إن يعبر الباب الغربي حتى يأتمن على ماله وركوبه ثم يمر نحو زقاق منحدر لا يتجاوز عرضه المترين ونصف ليتسع قليلًا بعد ذلك فيستقبله "سوق القايد" بصخب حرفييه ومهنييه وباعته وزبائنه.

سوق القايد.. جوهرة المدينة العتيقة

يمتد "سوق القايد" من الباب الغربي للمدينة إلى مدخل "سوق الربع". وهو أحد الأسواق الثمانية في المدينة العتيقة بسوسة وهي سوق الخضرة، وسوق الحوت، وسوق الزرارعية، وسوق الحوكة، وسوق الفلافلية تجاوره الرمانة، وسوق باب بحر، وسوق الربع حسب ما ذكره المؤرخون.

اقرأ/ي أيضًا: حديث في أحضان "سيدي محرز".. سلطان المدينة

وإن حافظ المعاصرون على بعض من تسميات هذه الأسواق فإن أسواقًا أخرى لم يقع الحفاظ على تسميتها إلى اليوم، ومن بين الأسواق النابعة بالحياة "سوق القايد" وسميت كذلك نسبة إلى "القايد". والقايد منصب من مناصب الدولة المهمة في ذلك العهد، ويتقرب المتنافسون عليه من حاشية الباي للفوز به بشتى الوسائل وللقايد صلاحيات السجن والجلد، كما جاء في دراسة تاريخية لحسين جبار إبراهيم. وقد سمي السوق كذلك لمرور "القايد" عبر هذا السوق نحو مقر إقامته القريب من "الدريبة" أين يوجد مقر الحكم وإدارة شؤون سوسة.

في القرون الماضية وإلى حدود ستينيات القرن الماضي، ظلت تستقبل السوق مجموعة كبيرة من الدكاكين المتلاصقة يمنة ويسرة من حدادين ونجارين وحلاقة وصانعي جلود وبائعي أقفال وحرفيي الحلفاء، يأتي زبائنهم من كافة القرى والجهات لتكتظ السوق وتتعالى أصوات الباعة والزبائن والحمالة. ويتجمع بعضهم تحت جدران المساجد والدكاكين على رغيف أو شراب، ويتناقلون أخبار أقوامهم وعشيرتهم ومآل تجارتهم وزراعتهم. هكذا نقلت إلينا بعض الصور التي وثقت حقبة في بدايات القرن الماضي والتي رأينا من خلالها حياة سلفنا الذين عشقنا شيئا منهم تركوه فينا بالوراثة.

 صورة أرشيفية موجودة بفضاء "الوكالة" بالمدينة العتيقة في سوسة

ألج اليوم الباب الغربي لأترك صخب المدينة خلفي وأعبر "سوق القايد" بين الدكاكين الزرقاء، وقد اختفى الحرفيون إلا من بعضهم في حين ظلت بعض الدكاكين تصارع البقاء من خلال بيعهم لبعض المنتوجات التقليدية للوافدين على المكان. أمشي اليوم على أرضية من الحجر الأبيض وقد تحول المنحدر إلى أدرج، وعلى يمنتي ويسرتي تلك الدكاكين نفسها ولكن أبوابها زرقاء وجدرانها بيضاء وتطل من شرفاتها الحديدية المشبكة ذكريات الماضي وحكاياته، وقد بدل الله قومًا بقوم فما وجدت من السابقين إلا بقايا ذاكرة منسية في خضم التاريخ.

شهادات كبار السوق.. الوقوف على الأطلال

حاولت أن أحفر في ذاكرة بعض من شده الحنين إلى ماضي أجداده أو آبائه في أواسط القرن الماضي آخر عهدهم بملامح سوق القايد الذي زالت عنه خصائصه التي عمرت قرونًا.

كان لنا لقاء مع نسّاج الحي عبد العزيز الحطاب (80 سنة)، وهو أحد الحرفيين الذين حافظ على محل النسيج خاصته إذ لا يزال على مهنة أجداده في نسج العباءات الصوفية الأصيلة، فتراه كل مساء يجلس على كرسيه الخشبي يغزل الصوف ويدوّر دواليب الصوف. تحسر محدّثنا على الزمن الجميل قائلًا متنهدًا: "كان هذا النهج مكتظًا، وكنا كالأسرة الواحدة غير أنه مع تقدم الزمن أُخرجت المهن والحرف خارج الأسوار، ولكن بقينا نصارع الزمن من أجل البقاء إلى آخر نفس منا. فاليوم لم تعد تدرّ تجارتنا ربحًا لإعراض الزبون عن الألبسة والأغطية النسيجية التقليدية، وذلك مع تناقص الحركة السياحية، فجلسنا حبيسين الماضي نبكي أطلال الحي".

عبد العزيز الحطاب: كان "سوق القايد" مكتظًا وكنا كالأسرة الواحدة غير أنه مع تقدم الزمن أُخرجت المهن والحرف خارج الأسوار ولكن بقينا نصارع الزمن من أجل البقاء

غير أن النسّاج عبد العزيز الحطاب لم يمر دون أن يذكر لنا خصوصية احتفالات المولد النبوي الشريف بـ"سوق القايد" حين تحدث بنخوة الماضي قائلًا: "المولد النبوي الشريف كانت له نكهته الخاصة في هذا السوق فقد توارثنا عبر قرون من الزمن عادة لم تعد قائمة وهي تزيين واجهات الدكاكين والورشات بسعف النخيل وكل حرفي يزين جداره بالزرابي الحائطية، وتشتعل الفوانيس ليلًا على طول الشارع، ومن له أثاث من كراسي وأرايك يضعها في الشارع فتعم البهجة والفرح بمولد سيد الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام".

نسّاج لا يزال يحافظ على مهنة الأجداد في "سوق القايد" (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

التقينا أيضًا محمد المكني (50 سنة) الذي كان والده حدادًا في أحد دكاكين السوق الذي تحدث بحرقة عن الماضي قائلًا لـ"الترا تونس": "كان والدي يستعمل في محله الأدوات التقليدية في الحدادة من مطرقة وسندان وكير وكان يصنع المحراث وأدوات فلاحية وأقفالًا حديدية للأبواب، وكان بجانبنا دكاكين تبييض النحاس وكانت هناك وراء السور "وكالة أحمد قوتة" لإقامة المسافرين".

أضاف المكني في شهادته: "من الملفت في هذا النهج انتشار عدد من الحلاقين وكان والد السيد عبد العزيز الحطاب يمتهن الحجامة مستعملًا ما كان يسمى بـ"الغمايص". ولا نستثني من مكونات هذه السوق العتيقة في أواسط الخمسينيات حرفًا أخرى كانت مزدهرة مثل بيع أقفصة العصافير وصنع أدوات الحمام من النحاس والحديد المبيض".

اقرأ/ي أيضًا: "قفة العروس" في سوسة.. سلة الاحتفالية والجمال والتحصين من الشرور

وخلال زيارتنا للسوق، قابلنا رشدي اللبان أحد سكان المدينة العتيقة فسألناه عما حفظته الذاكرة فقال: "كانت جدتي تروي لنا حكاية السوق وما ظل راسخًا في ذهني حديثها بأنه لما كان القايد ينزل السوق مرورًا إلى دار الباي بالدريبة كان ينادي المنادي صائحًا بأعلى صوته: "القايد الله والرسول الله.. القايد الله ورسول الله" وذلك كعلامة للهيبة وإيذانًا منه بمروره رفقة "الصبايحية" وهم عسسه وجنوده، وترى موكبه في هالة من البهرج والهيبة أمام أنظار أهل السوق".

كان يمرّ  القايد من السوق حين توجهه إلى دار الباي وكان ينادي المنادي عند مروره "القايد الله والرسول الله.. القايد الله ورسول الله"

وخلال جولتنا في النهج باحثين عن مكامن حفظ الذاكرة الجماعية، طرقنا باب أحد محلات الحلاقة القديمة فبادرنا العربي الخضراوي (72 سنة)، وهو من أكبر أهل السوق سنًا ممّن لا يزالون يزاولون مهنتهم بالدكان، فحدثنا قائلًا: "أذكر أواسط الأربعينيات والخمسينيات أصحاب المهن والحرف بالسوق، فهنا قريبًا كان دكان الهادي زعيّم لصنع سروج الخيل والبردعة والكوشنطي بالتبن (حزام يوضع على صدر الدابة) و"حوية" الجمال (ما يوضع على ظهر الجمل)، وهناك كان دكان أحمد غديرة الملقب "بالبي" يصنع الدربوكة والدف وأقفاصًا من اللوح لتجفيف الثياب، وآخر النهج نجد دكان المنوبي التونسي لبيع الخردة والأقفال القديمة والسلاسل والمعدات الفلاحية المستعملة، ولا ننسى دكان الجيلاني السوسي لبيع العطورات المستخلصة من النباتات وكذلك دكان محمود الدوكاني لصنع البردعة".

لم يبق اليوم لكبار السوق إلا استذكار الماضي والحنين إليه (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

يضيف العربي الخضراوي مستعرضًا لـ"الترا تونس" الدكاكين المشهورة قديمًا في السوق قائلًا: "نجد في أعلى السوق من مدخل باب الغربي محلات الحدادة للمكني والفوراتي ولم تكن مقهى القصبة حاليًا إلا "دار ضو" وهي من الدور المنفتحة على السوق والقريبة من "الربط". ويجاور هؤلاء دكان "صالح الوصيف" لصنع السطل والكانون وأواني الحلويات من بقلاوة وغيرها، أما وكالة حمدان فيؤمها النازلون من كافة أنحاء البلاد للإقامة وهي تتوسط السوق". ويشير في حديثه معنا إلى أن عدد الحلاقين في السوق كان يتجاوز عددهم الخمسة وهم الحلاق ولد حمدان، والحطاب، وبك الطيب، والبشير البكوش، وأحمد الإمام. ويختم العربي الخضراوي حديثه بأن هذه الدكاكين والأسماء قد عايشها إلى حدود ستينيات القرن الماضي.

وخلال جولتنا لاحظنا توسط مسجدين لسوق القايد وهما "مسجد الأخوات" و"مسجد زمنطر" في حين لا نرى زوايا تفتح على السوق. ولم تكن هيئة السوق الحالية شبيهة للسوق في القرون الماضية، فحينما نتجول اليوم نلاحظ تغيرًا في الشكل العمراني والألوان والبلاطات، ونلاحظ أيضًا جدّة في تهيئة البنية التحتية إذ باتت شبيهة بسيدي بوسعيد التونسية أو بمدينة شفشاون المغربية.

اقرأ/ي أيضًا: من منسيات تونس.. قبر الجندي المجهول

سوق القايد اليوم.. تهيئة جديدة وكساد تجاري

اتصلنا بالناشط في المجتمع المدني فيصل عبيد الذي أشرف بصفته رئيسًا لجمعية "سوسة غدًا" على تهيئة سوق القايد بين سنتي 2012 و2015 ضمن مشروع لتهيئة أزقة المدينة العتيقة، وذلك بالتنسيق بين وكالة التهذيب العمراني (حكومية) وبلدية سوسة وبتمويل من الوكالة الفرنسية للتنمية.

وأفادنا أن كلفة هذا المشروع بلغت حوالي 3.7 مليون دينار، وقد شملت تهيئة البنية التحتية من قنوات الماء ومياه الصرف الصحي وإمدادات الكهرباء والاتصالات، كما تضمن المشروع تبليط الدرج بالحجارة البيضاء المنقوشة، وتغيير الأبواب والنوافذ بالحفاظ على وحدة الشكل والأنموذج ومع إزالة الأسترة الحديدية المشوهة لجمالية السوق.

"سوق القايد" من قبالة مسجد زمنطر (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

كما أشار عبيد إلى أنه تم الحفاظ على الشكل العمراني للمسجدين القائمين، والأعمدة الرخامية في زوايا الأنهج المتفرعة عن السوق، ولكن علق بخصوص نشاط تجار سوق القايد اليوم قائلًا: "أعتبر أن الأنشطة التجارية الحالية ليست في مستوى الانتظارات وذلك لكساده بسبب الأزمة الاقتصادية ما أدى لغلق أغلب دكاكين قطاع الحرف والمهن الصغرى مع انعدام الدعم لتجار السوق".

ونلاحظ خلال جولتنا في "سوق القايد" اليوم، تحول بعض الدكاكين إلى محلات لبيع بعض التحف الفنية اليدوية ذات الطابع التقليدي، كما نلاحظ أنشطة ثقافية وفنية بفضاء "الوكالة" التي اعتبرته نجاة النابلي، وهي باعثة مشروع لاحتضان التظاهرات الثقافية والفنون، أن إنشاءه بالمدينة العتيقة يمثل "مساهمة في إحياء الحركة الثقافية والإبداعية في مدينة سوسة والمدن المجاورة لها لجعل المدينة مركز إشعاع لمختلف التجارب في الحرف الفنية والمساهمة في إيجاد مقاربات جديدة للتعاطي مع الموروث الثقافي".

وأضافت النابلي في حديثها لـ"الترا تونس" أن "المدينة العتيقة هي القلب الحقيقي لمدينة سوسة، وأن تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي يجبرنا على التعاطي بكل جدية مع هذا الملف خلال تعاطينا أي نشاط كان وخاصة الشأن الجمالي منه مع الحرص على التمسك بأولوية المدينة العتيقة في التمويلات الحكومية للتنمية".

فيصل عبيد (رئيس جمعية "سوسة غدًا"): الأنشطة التجارية الحالية في "سوق القايد" دون مستوى الانتظارات بسبب الكساد ما أدى لإغلاق أغلب دكاكين قطاع الحرف والمهن الصغرى

هكذا كانت جولتنا في "سوق القايد" إحدى الأسواق المختصة في المهن والحرف بالساحل التونسي والتي كانت مشعة على تونس على مر العهود. ورغم الجمالية التي عليها السوق اليوم، فهو بحاجة إلى تجديد المسلك السياحي لإنعاش التجارة من جديد وإعادته إلى سالف عهده. كما قد يساهم إحياء العادات الاحتفالية في المناسبات الدينية والثقافية في استرجاع السوق لموقعه كمصدر إشعاع وذلك حتى يعود من جديد جوهرة المدينة العتيقة في سوسة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

متاحف الجيش التونسي: صون للذاكرة والتاريخ وذود آخر عن الوطن

توبربو ماجوس.. مدينة شامخة تحدت الزمن وعانت الهجر