20-يناير-2019

تنتشر صناعة الفحم في عديد المناطق في تونس (Getty)

 

على بعد بضع أمتار من منطقة سكنية بعين دراهم بولاية جندوبة، تلحظ أعمدة الدخان المتصاعد من "مرادم" الفحم المنتشرة هناك، وما إن تقترب من المكان أكثر حتى تشاهد أغصان الأشجار المتراكمة على جنبات الطريق، بعضها رصف بطريقة منتظمة، والبعض الآخر كوّم بطريقة عشوائية، كما تلحظ بعض العمال وهم يختارون تلك الأغصان حسب حجمها ونوعها لوضعها في "المردومة".

"المردومة"، كما تسمى في تونس، هي مكان يجمع فيه الحطب من بقايا الأشجار التي يتخلّص منها الفلاحون، خاصة أغصان أشجار الزيتون بعد موسم الجني، ليتولى عمّال صناعة الفحم تجميعها وتقطيعها لتخزينها أو تركها تحت أشعة الشمس حتى تجفّ لفترة تفوق الشهر حسب نوع الغصن والشجر.

تنتشر صناعة الفحم (المردومة) في عديد المناطق في تونس بالخصوص المناطق الفلاحية

ثم توضع هذه الأغصان في حفرة في شكل كومة مرتّبة، مع وضع طبقات من القش أو التبن ثمّ الرماد والقليل من التربة، لتأخذ شكل التلة الصغيرة، ويصنعون فتحات للتهوية داخلها حتى لا تنطفئ النيران، ليقع في مرحلة أخيرة إشعال النار لكن ببطء حتى لا تحترق الأغصان وتتحوّل إلى رماد.

اقرأ/ي أيضًا: قصص الزيتون في تونس.. قدم التاريخ وبركة الجغرافيا

وتتواصل مدّة الاشتعال لأيام أو حتى أسابيع حسب حجم "المردومة" وعدة عوامل منها العوامل المناخية وخاصة الريح التي تعطّل تحول الحطب إلى فحم. ليقوم فيما بعد العاملون بعد التأكد من تحوّل كافة الأغصان إلى فحم برشّ الماء وتبريده، ثمّ ترك "المردومة" مدّة أربعة أيام قبل إخراج الفحم وبيعه.

تلكّ مراحل صنع الفحم بطرق تقليدية ولا يزال يحافظ عليها الآلاف من الأشخاص ممن يسترزقون من إنتاج الفحم في عدّة مناطق خاصة في ولايات جندوبة والقصرين وصفاقس ومنوبة والعديد من المناطق الأخرى خاصة الفلاحية منها.

مردومة في عين دراهم  (مريم الناصري/ ألترا تونس)

يقطع الفلاحون أغصان أشجار الزيتون في إطار "الزبيرة"، أي القصّ الموسمي الذي يلحق موسم جني الزيتون، لكن أحيانًا يقع قصّ أغصان الأشجار بطرق عشوائية من الغابات لبيعها لبعض صانعي الفحم. وغالبًا ما يضبط حراس الغابات مواطنين في مناطق فلاحية أو جبلية وهم بصدد قص أغصان أشجار الصنوبر أو الفلين أو الكلتوس أو غيرها من الأشجار المثمرة كالزيتون واللوز لبيعها.

وتوفّر صناعة الفحم الآلاف من فرص العمل، وهي تعد تجارة مربحة في العديد من المناطق، خاصة وأنّ العائلات البسيطة التي لا تملك إمكانيات لشراء وسائل التدفئة تقبل غالبًا على شراء الفحم، فيما يقبل عليه آخرون لتمسكهم بوسائل التدفئة التقليدية.

وإضافة إلى أنّ العمل في "المردومة" متعب ويتطلب صبرًا طويلًا ناهيك عن الأمراض التي يسببها، غالبًا ما يواجه "أصحاب أفران الموت البطيء" خلافات مع سكان المناطق المتاخمة لـ"مرادمهم"، بسبب الدخان المنبعث منها الذي يتواصل عادة لأيام عديدة. مما جعلها تتحوّل إلى كابوس مزعج وكارثة تهدّد صحة آلاف المواطنين، إذ يسبب انبعاث ثاني أكسيد الكربون التهابات تنفسية حادة.

يواجه أصحاب المرادم خلافات مع سكان المناطق المتاخمة لـ"مرادمهم" بسبب الدخان المنبعث منها الذي يتواصل عادة لأيام عديدة

من داخل تلك الكتل السوداء، تظهر "مرادم" الفحم بعمّالها الذين يشتكون أيضًا من صعوبة العمل وخطورته، فعبد الكريم (41 سنة) يعمل في صناعة الفحم منذ قرابة 10 سنوات، وطيلة السنة حتى صيفًا. يخبرنا أنه يعاني من مشكلة في رئتيه بسبب الدخان، لكن "ما باليد حيلة فإنتاج الفحم هو الأمر الوحيد الذي أستطيع عمله" كما يقول.

اقرأ/ي أيضًا: النسيج اليدوي.. يوفى مال اليد وتبقى صنعة الجد

ويضيف عبد الكريم في حديثه لـ"الترا تونس" أنّه بات يواجه اليوم تشكيات بعض المتساكنين و"لكن ليس ذنبي أنا، فأرضي هنا، وأغلب الأراضي المجاورة لي كانت أراضي فلاحية وأصبحت سكنية، وانتشرت المساكن هنا في هذه المنطقة خلال السنوات الأخيرة. ولا أملك أي حلّ بديل"، هكذا يحدثنا.

يشير، من جهته، فتحي عبيد (39 سنة)، وهو أحد منتجي الفحم بصفاقس، أنّ الجهة تشتهر كثيرا بهذا العمل، وهي من بين المناطق الأولى في انتاج الفحم بتونس. ويؤكد بدوره أنّه نتيجة للتوسع العمراني، باتت أغلب المساكن قريبة من الأراضي الفلاحية أو المناطق التي تنتشر فيها "المردومة"، وهو ما يثير انزعاج العديد من المواطنين بسبب الدخان الذي غالبًا ما تكون رائحته كريهة نتيجة احتراق التبن أو بعض الفضلات المستعملة.

فتحي عبيد (منتج فحم): أغلب أصحاب "المرادم" يعملون في أراضيهم ولا يملكون أماكن بديلة لإنتاج الفحم لتفادي تضرر المواطنين من الدخان

ويتأسف فتحي أنّ ذلك الفحم الذي يدخل الدفء إلى بيوت بعض البسطاء في الشتاء أو يكون بهجة على رؤوس نرجيلات المقاهي وفق تعبيره، أصبح اليوم يثير سخط العديد من المواطنين رغم حاجتهم له. ويشدّد محدثنا بدوره أنه لا يوجد حل آخر لأغلب منتجي الفحم، فأغلبهم يعملون في أراضيهم ولا يملكون أماكن بديلة لإنتاج الفحم، وفق تأكيده.

يُشار أنّه في ديسمبر/كانون الأول 2018، احتج أهالي منطقة سيدي منصور بصفاقس بسبب الدخان والغازات الخانقة المنبعثة من "مرادم" الفحم، مطالبين السلط الجهوية بالتدخل لمنع صنع الفحم بالمنطقة. فيما هددت قرابة 150 عائلة في منطقة الحوض من معتمدية جبنيانة في أكتوبر/تشرين الثاني 2015، بهجرة جماعية من أرضهم وممتلكاتهم لنفس السبب الذي أضرّ بالبيئة وبالتربة في منطقتهم، بعد أن قدموا عديد التشكيات إلى السلط الجهوية لمنع إنتاج الفحم قرب مجمعاتهم السكنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النقش على النحاس: تاريخ محفور بالمسامير يواجه الاندثار

السخاب.. عبق الماضي في قلادة