25-أبريل-2023
شجرة زيتون ماهر

زياتين "باب الزاوية" بمدينة سيدي عامر من ولاية المنستير إحدى معجزات الصراع من أجل البقاء (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

مذهل أن تسير بين الزياتين العملاقة، تتلمس جذوعًا وإعجازًا لم يذهب بها الريح ولا الحرّ ولا القرّ لأكثر من ألف سنة، انقعرت الأصول ولكن لم يتحتحت من أغصانها الورق ولم تنقطع عن ولادة حبّ الزيتون، هي الحبلى عبر العصور فلا تعقر أبدًا.

تجولت في مساحة صغيرة لا تتجاوز الهكتار والنصف بين الزياتين المعمّرة فرأيت فيها الوقار، وقد تثيرك عظمتها فتزرع في كيانك الخوف لما ترى الجذوع منشطرة والأغصان منحنية وترى عرضها الواسع وطولها الفارع.

زياتين "باب الزاوية" بمدينة سيدي عامر بولاية المنستير إحدى معجزات الصراع من أجل البقاء، إذ صمدت لمئات السنين وقد تداولت الروايات أنها غرست في العهد الروماني وقيل إن حنبعل قد أمر بزراعتها

زياتين "باب الزاوية" بمدينة سيدي عامر الساحلية من ولاية المنستير إحدى معجزات الصراع من أجل البقاء، أشجار صمدت لمئات السنين. وقد تداولت الروايات أنها غرست في العهد الروماني وقيل إن حنبعل قد أمر بزراعتها، وللمؤرخين قول فصل في هذه الآراء.

 

صورة
زاوية الولي الصالح "سيدي عامر المزوغي"

 

ما بقي من أصول الزيتون المذكورة لا يتجاوز العشرات، حاصرتها البنايات والطرقات وطوقتها من كافة الجهات وكأن حرب مئات السنين أوشكت أن تضع أوزارها فاستنجدت العجائز بأنصارها من أحفاد حنبعل.

الأستاذ نجيب الشوق، وهو ناشط مدني وفوتوغرافي مهووس بالتاريخ وعاشق للتراث والأصالة، مرّ من هناك يومًا فأطلق صيحة فزع ليلفت الأنظار إليها، فدوّن  على صفحته بفيسبوك: "سيدي عامر كنز وسط المدينة" فأدار الرقاب إلى "50 شجرة زيتون معمرة استثنائية " وطالب المؤرخين والباحثين للفصل في تاريخية هذه الغراسات. وأشار إلى حجمها ومظهرها مرفقًا ذلك بصور رقمية.

الناشط المدني نجيب الشوق: يجب صيانة سلسلة من أشجار الزيتون المحفوظة بأعجوبة والتي يبلغ عمرها ألف عام ولإنقاذ هذا الكنز خاصة وأن بعض أشجار الزيتون المعمّرة معروضة للبيع ومآلها الاقتلاع لإفساح المجال أمام المباني القاتلة

وقال في تدوينته: "يجب أن ننتهز هذه الفرصة لصيانة سلسلة من أشجار الزيتون المحفوظة بأعجوبة والتي يبلغ عمرها ألف عام ولإنقاذ هذا الكنز من خلال معركة إدارية"، مطالبًا بـ"عرض ملف هذه الزياتين على مسؤولي وكالة تنمية التراث والترويج الثقافي والمجلس البلدي للمدينة من أجل قيادة  هذا الكفاح"، وفق تعبيره.

 

 

واعتبر أن "الحلم يتمثل في السيطرة على هذا التراث من خلال مرسوم من الجهات الرسمية بتصنيف الأرض وأشجار الزيتون الخاصة بها كتراث وطني على غرار المواقع القديمة (التاريخية)".

وأشار نجيب الشوق إلى أن "بعض أشجار الزيتون المعمّرة معروضة للبيع ومآلها الاقتلاع لإفساح المجال أمام المباني القاتلة"، داعيًا إلى "حماية  هذه الأشجار التي تمثل ذاكرتنا الجماعية وتجسد عنصرًا من هويتنا الثقافية، والعمل على عرض صور لها وتنظيم ندوة فكرية".

 

صورة
شجرة زيتون معمرة بزاوية سيدي عامر (الناشط نجيب الشوق/ فيسبوك)

 

كان هذا النداء منطلاقًا لحملة مناصرة من أجل استمرارية هذه الزياتين التاريخية. وفي هذا الإطار أكد أحد أصيلي المدينة (فضّل عدم ذكر اسمه) لـ"الترا تونس" أن "هذه الزياتين ليست من الأملاك الموقوفة على الولي الصالح سيدي عامر وإنما هي أرض لمالكيها من الخواص، غير أنها غير مستغلّة فيكتفون لجمع المحصول فحسب".

المحامي نصر بن عامر: هذه الزياتين قديمة جدًا وأنا أدعم أي مبادرة لحماية هذا الكنز ودمجه ضمن مسلك سياحي

وفي إحدى تدوينات المحامي نصر بن عامر (أصيل البلدة) تعقيبًا على تدوينة نجيب الشوق يقول: "هذه الزياتين قديمة جدًا وكان قد زارني أحد الخبراء المختصين في مركز النهوض بالزياتين بصفاقس في منزلي بسيدي عامر وأبدى إعجابه بها، وقال إن الزياتين المعمرة توجد في الجنوب التونسي وخاصّة في جهة جرجيس".

كما أكد الأستاذ بن عامر أن "زياتين باب الزاوية ملكية خاصّة وليست ضمن قائمة أملاك الوقف (حبوس)".

وأبدى الأستاذ نصر بن عامر دعمه لأي مبادرة لحماية هذا الكنز ودمجه ضمن مسلك سياحي.

 

صورة
تعتبر زياتين زاوية سيدي عامر أشجارًا تاريخية نظرًا لتواجدها منذ مئات السنين (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

كما أبدى العديد من المواطنين دعمهم لمبادرة الحفاظ على هذه الزياتين من أجل الذاكرة الوطنية ودفع مخابر البحث الأكاديمية لتنفيذ دراسات جادة مشفوعة ببيانات وصور تثري العمق التاريخي والحضاري للمنطقة.

وفي أحد تعليقات الباحث والمؤرخ عادل بن يوسف حول هذه المسألة يقول: "فعلًا زيتون سيدي عامر ضارب في القدم ويعود للفترتين الرومانية والبيزنطية حسب المعاينات التي أجراها المختصون الفرنسيون والتونسيون في الآثار والتراث، كما تدل عليه الخرائط الطبوغرافية التي أنجزها الفرنسيون تباعًا في سنتي 1882 و1885 إذ نجد أمام ما يعرف لدى العامة بموقع "هنشير الوحيشي" ثم "باب الزاوية" لاحقًا استخدام حرفي "R R"، أي معالم رومانية، ولي نسخة من كلتيْ الخريطتين. وهو ما يثبت أنّ الموقع يعود إلى الفترة الرومانية حيث توجد إلى حد الآن بقايا آثار وأدوات قديمة لا تحصى ولا تعد من حجارة وأعمدة وتيجان ونقائش تؤرخ لهذه الفترة". 

المؤرخ عادل بن يوسف: زياتين سيدي عامر ضاربة في القدم وتعود للفترتين الرومانية والبيزنطية لكن للأسف تم اقتلاع أغلبها بسبب التوسع العمراني للقرية

وذكّر في ذات الصدد بأنّ "الهضبة المطلة على هذا الموقع (حوالي 35 مترًا من الارتفاع على مستوى سطح البحر، شاطئ الدخيلة بالساحلين) قد اتخذه الولي الصالح عامر بن سالم بن نصر الشارف (أصيل قرية مزوغة بمنطقة الريف بالمغرب الأقصى) ليختلي بنفسه بعيدًا عن مسكن جده سيد نصر (مقامه اليوم ملاصق لمركز الشرطة بالساحلين) على يسار الطريق المؤدية إلى سوسة، حيث ولد حوالي سنة 920هـ الموافق لسنة 1514م بعد أن توفي والده سالم وترك زوجته حاملًا، فنشأ في كفالة خاله علي".

 

صورة
ما بقي من أصول الزيتون لا يتجاوز العشرات حاصرتها البنايات والطرقات (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

ويذكر الدكتور بن يوسف أنه "للأسف تم اقتلاع غالبية هذه الزياتين الموجودة في مدخل المدينة بسبب التوسع العمراني للقرية. كانت لنا ثمانية أصول زيتون من مجموع 16 تركها جدي عبد الوهاب بن يوسف بهذا الموقع، قمنا ببيعها منذ سنوات وقام الشاري باقتلاعها لإقامة بيت له مكانها. يمكن العمل على إنجاز ملف لحفظ هذه الزياتين وذلك بإدراجها في قائمة التراث الطبيعي الوطني والإذن بنقلها من الملك الخاص إلى ساحة المدينة اليوم".

الأديب عامر البري: زياتين باب الزاوية هي بمثابة جيش حنبعل أول مغارسي عرفه التاريخ التونسي يحرس القرية ولن يزول مادام ذكر حنبعل لا يزال قائمًا في أذهان الناس

العمق التاريخي والحضاري لزياتين باب الزاوية بسيدي عامر وجد صداه في الأدب والكتابات ولا أدلّ على ذلك ممّا ورد في رواية "ساليناس.. ندهة الضوء للماء والملح" للشاعر والأديب التونسي عامر البرّي الذي يذكر فيها ما يلي: "أطلق على هذا الموضع باب الزاوية إذ لم يكن ممكنًا صياغة باب مفرد للمدينة التي أراد تأسيسها الولي غير هاته الزياتين العملاقة، فهي لوحدها كفيلة بجعل القرية منفتحة على الآخرين ومحروسة.. زياتين باب الزاوية هي بمثابة جيش حنبعل أول مغارسي عرفه التاريخ التونسي يحرس القرية ولن يزول مادام ذكر حنبعل لا يزال قائمًا في أذهان الناس. القشاش هو الآخر كان بإمكانه الخلود مثل زياتين باب الزاوية وكان بإمكان طريقته أن تعيش أكثر بهذا الساحل لولا تطبيعه مع العثمانيين". 

الزياتين المعمرة في المشرق والمغرب كانت ولا تزال رمزًا للهوية الحضارية ومادة لاستحضار روح الأولين ومصدرًا للقوة والعراقة وترسيخًا للأصول وثباتًا على سيرة الأولين من السلف والأجداد. وقد تغنّى الشاعر الفلسطيني محمود درويش بالزياتين فكتب:

شَجَرَة الزَّيتون لَا تَبكي وَلَا تَضحَك 
هيَ سَيّدَة السّفوح المحتَشمَة بظلّهَا تغَطّي
سَاقَهَا، وَلَا تَخلَع أَورَاقَهَا أَمَامَ عَاصفَة
تَقف كأَنَّهَا جَالسَةٌ، وَتَجلس كَأَنَّهَا وَاقفَة"

صمدت زياتين باب الزاوية لأكثر من ألف سنة فشهدت الحرب والسلم وشقّت عباب التاريخ من القائد "حنبعل" وصولًا إلى الولي الصالح "سيدي عامر" وأحبابه وذويه، والأمل متواصل في أن تخلد هذه الثروة الثقافية وتتم حمايتها من هول أهل هذا الزمن.