يتمتع التلميذ في تونس بعطلة صيفية تمتد من نهاية شهر جوان/يونيو إلى منتصف شهر سبتمبر/أيلول أي شهرين ونصف بالنسبة لتلاميذ الابتدائي وحوالي 3 أشهر بالنسبة لتلاميذ الإعدادي والثانوي الذين يتمون العام الدراسي غالبًا منذ منتصف شهر ماي/أيار.
هذه العطلة المطولة التي يحدد موعدها في فصل الصيف تشترك فيها جميع دول العالم، ما عدا اليابان، مع تباين كبير في تاريخ العودة لمقاعد الدراسة. ففي كندا والولايات المتحدة تستأنف الدروس منتصف شهر أوت/أغسطس وفي بلجيكا وفرنسا تحدد العودة المدرسية غرة سبتمبر/أيلول فيما تشترك تونس وتركيا وإيطاليا في موعد العودة الذي يكون منتصف شهر سبتمبر/أيلول، وبالتالي فالعطلة الصيفية في تونس تعد من بين أطول العطل في العالم ناهيك عن كثافة العطل الرسمية خلال السنة الدراسية.
عدد أيام العطل بالنسبة للتلميذ التونسي يطرح أكثر من تساؤل حول حاجته لعطلة بهذا الطول خاصة في ظل التعثرات التي تشهدها السنوات الدراسية الأخيرة بسبب التجاذبات ما قد يؤثر على مكتسبات التلميذ العلمية والمعرفية
عدد أيام العطل بالنسبة للتلميذ التونسي يطرح أكثر من تساؤل حول حاجته لعطلة بهذا الطول خاصة في ظل التعثرات التي تشهدها السنوات الدراسية الأخيرة وما نتج عنها من انقطاعات متواترة عن الدراسة بسبب التجاذبات بين نقابات التعليم ووزارة التربية، الأمر الذي يمكن أن يؤثر على مكتسبات التلميذ العلمية والمعرفية.
والملاحظ أن العطلة الصيفية فقدت الأهداف التي بعثت من أجلها والمتمثلة في انخراط التلاميذ في أنشطة ترفيهية تختلف عن المناهج العلمية واكتسابهم مهارات جديدة في شتى المجالات فقد دأب الأولياء في السنوات الأخيرة على تسجيل أبنائهم في الدروس الخصوصية لتحسين مستواهم المعرفي وتهيئتهم للسنة الدراسية المقبلة منذ منتصف شهر جويلية/يوليو أو غرة أوت/أغسطس في ظل تراجع مكتسباتهم العلمية بسبب كثرة الإضرابات التي تعيق عملية إكمال البرنامج التعليمي والتسريع فيه أحيانًا بما لا يتيح للتلميذ الوقت الكافي لفهم الدروس التي يتلقاها.
علاوة على ذلك فإن غياب التكافؤ والمساواة يلاحق التلاميذ حتى خلال العطل الصيفية ففي الوقت الذي يقضي فيه التلميذ المنتمي لعائلة ميسورة الحال العطلة الصيفية في التنزه والاستمتاع بالبحر يسيطر الملل على تلاميذ آخرين يقضون الأشهر الثلاث في المنزل أو في العمل لكسب قوت يومهم وتوفير مصاريف السنة الدراسية التي ما فتئت ترتفع سنة بعد سنة.
- "طول العطلة الصيفية يؤدي لهدر في التعلم"
ويرى الخبير الدولي والباحث في الشأن التربوي عماد بن عبد الله السديري أنه لا يمكن نفي حاجة التلاميذ والمدرسين إلى العطلة الصيفية لأنها تمثل استراحة مهمة بعد سنة دراسية طويلة تبذل فيها الأسرة التربوية بجميع مكوناتها جهودًا كبرى لتحقيق النجاح والتميز، مضيفًا أنه بالمقارنة بين طول العطلة الصيفية في تونس كما هو معلن عنه في الوثائق الرسمية وباقي دول العالم نكتشف أن تونس لا تختلف كثيرًا عن بعض التجارب العالمية مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو بعض الدول الأوروبية حيث تتجاوز فيها العطلة الصيفية الشهرين.
كما لفت محدث "الترا تونس" إلى أن "دراسات كثيرة تؤكد أن طول العطل الصيفية قد يؤدي إلى حدوث هدر في التعلّم وخاصة نسيان بعض المعارف والمهارات التي تم اكتسابها خلال العام الدراسي إلا أن هذه الدراسات تؤكد وجود تفاوتات كبيرة في حجم هذا الهدر وذلك بحسب التوزيع الجغرافي للتلاميذ أو خلفياتهم الاقتصادية والاجتماعية.
الباحث في الشأن التربوي عماد السديري لـ"الترا تونس": دراسات كثيرة تؤكد أن طول العطل الصيفية قد يؤدي إلى حدوث هدر في التعلّم وخاصة نسيان بعض المعارف والمهارات التي تم اكتسابها خلال العام الدراسي
وللحد من مثل هذه التأثيرات السلبية، لفت السديري إلى أنّ بعض الدول تطبق حلولًا استباقية متنوعة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا يتم حث الأولياء على توفير فرص مناسبة لأبنائهم وبناتهم ليدرسوا في الصيف وذلك من خلال مدّهم بقائمات لكتب وقصص تناسب مستوى التلاميذ وتوجيههم إلى اقتنائها علاوة على أن بعض المدارس والجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني تنظم مخيمات صيفية للدراسة، إلى جانب بعض الأنشطة الترفيهية الأخرى.
وأشار السديري إلى أن بعض الدول الأخرى قلّصت في مدة العطلة الصيفية لاحتواء بعض آثارها السلبية مثل إنجلترا أو اليابان، معتبرًا أن تقصير أو تمديد العطلة الصيفية مسألة تربوية تحتاج إلى البحث فيها بأسلوب علمي دقيق يراعي الكثير من المتغيرات مثل الطقس والبنية التحتية في المؤسسات التربوية والبرامج الدراسية والموارد البشرية والمالية، لافتًا إلى غياب دراسات بحثية تتناول هذه المسألة بشكل دقيق في تونس، وعليه لا يمكن لا الدعوة إلى تقصيرها أو تمديدها ما لم تتوفر هذه البيانات العلمية اللازمة.
ويقول الخبير في الشأن التربوي إن الانقطاع عن التعلّم مهما كانت أسبابه يؤدي إلى نتائج سلبية وإن دراسات علمية عديدة تؤكد أن توقّف التلاميذ عن التعلم لمدة متوسطة أو طويلة يتسبب في خسائر تربوية كبرى وهي حقائق قد أثبتتها جائحة كورونا، حيث أدى تعليق الدراسة في دول العالم إلى تراجع كبير في أداء التلاميذ وقد تناولت تقارير دولية كثيرة هذه المسألة وحاولت تقدير الخسائر المالية والتنموية المنجرة عن هذا التراجع الموثق في أداء التلاميذ، وفقه.
ولفت إلى أن هذه الخسائر تصل إلى تريليونات الدولارات بحسب مجموعة البنك الدولي ومنظمة اليونسكو إلا أنه من المهم تبيين أن الأزمة التربوية التي تتخبط فيها تونس منذ عقود ترتبط على نحو خاص برداءة السياسات التربوية التي تعتمدها وزارة التربية التونسية مثل البرامج الرسمية والسياسات اللغوية والكتب المدرسية، كما ترتبط بالتفاوت المسجل في المؤشرات التنموية بين الجهات والتنوع في الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية للتلاميذ.
الباحث في الشأن التربوي عماد السديري لـ"الترا تونس": تفشي ظاهرة الدروس الخصوصية في تونس يعكس في جوهره فشل المنظومة التربوية التونسية في تكريس مبدأ الإنصاف وفي تنفيذ المهام الموكلة إليها
وتعليقًا على حرص بعض الأولياء على تدارك مكتسبات أبنائهم عبر الدروس الخصوصية، يعتبر عماد بن عبد الله السديري أن الإنصاف مبدأً أساسي في عمل أي منظومة تربوية ناجحة والحال أن الدروس الخصوصية تضرب مبدأ الإنصاف هذا، إذ إن التلميذ الميسور فقط هو الذي يستطيع أن يستفيد من مثل هذه الخدمة أما التلميذ ذا الخلفية الاقتصادية والاجتماعية الضعيفة فإنه لا يجد من يساعده ويقف معه رغم حاجته المؤكدة إلى دعم تربوي سريع ومكثف.
كما اعتبر أن المشكلة تنشأ عندما تتأكد حاجة التلميذ التونسي إلى دعم إضافي وعلاج فوري حتى لا تتفاقم مشاكله التربوية، مضيفًا: "للأسف الشديد الأولياء والمدرسون يدركون أن المؤسسات التربوية التونسية لا تمتلك الخطط والموارد والآليات اللازمة لتوفير الدعم والعلاج اللازمين وهو ما يدفع الكثير من الأسر التونسية إلى البحث عن دروس خصوصية توفر الدعم اللازم لأبنائها وبناتها".
وتابع قائلًا في ذات الصدد: "هنا من المهم أن ندرك أنه من المستحيل أن نحد من ظاهرة الدروس الخصوصية إذا لم تلتزم وزارة التربية التونسية بتحسين السياسات التي تعتمدها، إذ من المؤكد أن هذه الظاهرة ستختفي كليًا إن انتفت حاجة التلميذ التونسي إلى الدعم الإضافي خارج المدرسة"، معقبًا: "باختصار شديد تفشي ظاهرة الدروس الخصوصية في تونس يعكس في جوهره فشل المنظومة التربوية التونسية في تكريس مبدأ الإنصاف وفي تنفيذ المهام الموكلة إليها".
- "مقارنة بدول أخرى.. التلميذ التونسي يدرس عدد أسابيع أقل وساعات أكثر"
منذ فجر الاستقلال، راهنت البلاد التونسية على المدرسة العمومية ورصدت حوالي ثلث ميزانيتها لتطوير القطاع العلمي في تونس بغية الاستثمار في أبنائها التلاميذ فيما كانت العائلات التونسية تعتبر أن التعليم هو المصعد الاجتماعي الوحيد الذي يمكن أن ينهض اجتماعيًا بالعائلة ويحارب الفقر والاحتياج، لكن مكانة التعليم ما فتئت تتدهور بتدهور منظومة التعليم برمتها مما تسبب في ضعف التحصيل العلمي للتلاميذ وهو ما تؤكده إحصائيات سابقة لوزارة التربية التي تؤكد أن 75% من تلاميذ السنة السادسة ابتدائي و83% من تلاميذ التاسعة أساسي في حالة شبه أمية.
انحدار التعليم في تونس عمقته الإضرابات المتتالية في القطاع، وهو ما دفع ببعض الأولياء إلى التوجه نحو التعليم الخاص الذي يشكو بدوره العديد من الهنات، وفيما تحاول الحكومات المتعاقبة جاهدة النهوض بقطاع التعليم وإيلائه الأهمية اللازمة يظل هذا الملف عالقًا في انتظار حلول جذرية تعيد له مكانته.
انحدار التعليم في تونس عمقته الإضرابات المتتالية في القطاع، وهو ما دفع ببعض الأولياء إلى التوجه نحو التعليم الخاص الذي يشكو بدوره العديد من الهنات
وقد اعتبر رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ رضا الزهروني أن العطلة الصيفية تمثل هدنة تعليم لكنها تعدّ مطوّلة بالنسبة لكامل السنة الدراسية على اعتبار أنها غير منعزلة عن العطل التي يتمتع بها التلميذ أثناء السنة الدراسية، لافتًا إلى أن السنة الدراسية في تونس تمتد على حوالي 33 أسبوعًا فيما تكون في بلدان أخرى ممتدة على 40 أسبوعًا، أي أن التلميذ التونسي يدرس عدد أسابيع أقل لكنه في المقابل يدرس عدد ساعات أكثر من بقية البلدان ويشكو من ضغط أسبوعي وسنوي.
ولفت الزهروني، في حديثه لـ"الترا تونس"، إلى أن قضاء العطلة الصيفية يختلف من تلميذ لآخر فهي مناسبة لأبناء العائلات الميسورة للترفيه عن النفس فيما تمثل فقط انقطاعًا عن الذهاب للمدرسة بالنسبة لتلاميذ آخرين. علاوة على أن العديد من التلاميذ يتلقون دروسًا خصوصية أثناء العطلة، وبالتالي أصبح من غير الممكن الحديث عن العطلة في مفهومها العام بل أصبحت إعدادًا للسنة الدراسية المقبلة وهو ما يحرم التلميذ من الراحة ومن الانخراط في أنشطة متنوعة.
رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ رضا الزهروني: الحل يكمن في إصلاح المنظومة التربوية وتدارك الوضع الخطير الذي انعكس سلبًا على النتائج الدراسية في الامتحانات الوطنية التي لا يمكن وصفها إلا بالكارثية
واعتبر المتحدث أن تفكير بعض الأولياء منطقي لأنهم بصدد تدارك النقص في مستوى التحصيل المعرفي للتلاميذ الناتج عن عدم الاستقرار والأزمات التي تتعرض لها المنظومة التربوية، لكن التلميذ يظل الخاسر الأكبر لأنه يعيش ضغطًا متواصلًا خلال السنة الدراسية وفي العطلة وهو ما من شأنه أن يؤثر على استقراره النفسي.
ويرى محدث "الترا تونس" أن الحل يكمن في إصلاح المنظومة التربوية وتدارك الوضع الخطير الذي انعكس سلبًا على النتائج الدراسية في الامتحانات الوطنية التي لا يمكن وصفها إلا بالكارثية، بالتالي من الضروري مراعاة مصلحة التلميذ القصوى من الناحية التعليمية والتربوية وذلك عبر التمديد في عدد أيام الدراسة مع التقليص في ساعات التدريس الأسبوعية لتخفيف الضغط على مستوى الزمن الدراسي للتلميذ وللأستاذ.
كما بين أن هذا الحل يستوجب تفهمًا من الأساتذة الذين سيستفيدون على مستوى الراحة اليومية، مبينًا أن العطلة الصيفية المطولة هي عادة مكتسبة لكن الأساتذة في الأصل موظفون لدى الدولة التونسية والموظف عادة يتمتع فقط بشهر راحة في السنة.
جدير بالذكر أن عدد المنقطعين عن الدراسة في سن مبكرة بصدد الارتفاع سنويًا وقد تم إحصاء 69 ألف انقطاع سنة 2021 أي بمعدل 300 مغادرة لمقاعد الدراسة يوميًا، وهي معضلة أخرى تستوجب حلولًا مستعجلة.