17-سبتمبر-2018

تحتاج البلاد إلى إصلاح تربوي عميق (صورة أرشيفية/ فتحي بلعيد/ أ ف ب)

يقول المفكّر وعالم الفيزياء ألبرت أينشتاين إن "التعليم ليس تعلّم الحقائق إنما هو تدريب العقل على التفكير". التمحّص في هذه العبارة التي تُنسب إلى أحد أهم العباقرة في تاريخ البشرية من شأنه أن يحلينا على أولوية قصوى في سلّم أولويات بلد يعيش مخاضًا عسيرًا لتجربة انتقال ديمقراطي ترافقه أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويعجز قادته عن تحديد بوصلة واضحة تضعه في مساره الصحيح من خلال غياب فجّ لرؤى وبرامج تشمل مختلف الأصعدة.

لأن الإصلاح يجب أن ينطلق فعليًا من مكان ما فقد تكون المنظومة التربوية أولى المسائل التي تحتاج إلى معالجة تمسّ من جوهرها

اقرأ/ي أيضًا: العودة المدرسية.. كابوس بعض الأمهات العازبات

نحن هنا لا نتحدث عن الأزمة الاقتصادية الحادة وعجز المالية العمومية، أو عن الظواهر الاجتماعية التي طفت على السطح خلال السنوات الأخيرة بصورة مفزعة لعلّ أبرزها ارتفاع منسوب جرائم الاغتصاب – خصوصًا ضدّ المرأة والأطفال – والتحرّش الجنسي وعمليات النهب والسرقة والاعتداءات المتكرّرة على الغير، فضلًا عن تسارع وتيرة عمليات الهجرة غير النظامية التي أودت بحياة العشرات من الشباب التونسي الباحث عن جنة أوروبية، أو الانضمام لتنظيمات إرهابية على غرار تنظيم "داعش".

ولئن كانت هذه الظواهر نتيجة لتفاعل عوامل متنوعة ومختلفة، يطول شرحها وتحتاج إلى مختصّين، وتتطلّب استراتيجية تشمل عديد المستويات لمواجهتها والحدّ منها، فلا يمكن لأحد أن ينكر دور عامل التربية والتعليم والمؤسسات التربوية في هذا المجال.

وبغضّ النظر عن الأسباب المتنوعة لبروز هكذا ظواهر وتنامي وتيرتها، تبقى عقلية المجتمع التونسي التي تكرّسها العائلة أولًا ومن ثمّ المدرسة هي أحد أبرز العوامل التي أدت ومازالت تؤدي إلى ظهور ممارسات اجتماعية خطيرة تقود البلاد بخطى حثيثة نحو اللبننة ومجتمع تسود فيه شريعة الغاب والبقاء فيه للأقوى.

ولأن الإصلاح يجب أن ينطلق فعليًا من مكان ما، فقد تكون المنظومة التربوية أول المسائل التي تحتاج إلى معالجة تمسّ من جوهرها. وإصلاح المنظومة التربوية هو دون أدنى شك اللبنة الأولى للشروع في تغيير عقلية المجتمع التونسي الذي بدأ تغرق نفسه بنفسه في قاع معتقداته وأفكاره المتكلّسة.

وبعيدًا عن العودة المدرسية التي يصاحبها منذ سنوات جدل تغيير الزمن المدرسي والروزنامة ومنظومة العطل وكيفية تقسيم السنة الدراسية، يحتاج تعليمنا اليوم بشدة إلى إصلاح عميق وجوهري يطال مضامينه ومحتواه ويخلق مجالًا للأطفال للتفكير والخلق والإبداع، عوض الإبقاء على منظومة أثبتت فشلها وخرّجت نسخًا تكاد تكون متطابقة من الشباب التونسي – مع وجود استثناءات – الذي يعيش صراعًا هوويًا داخليًا هائلًا يشعر معه بضياع نفسه ويفقد كلّ قدرة على الخلق والتفكير خارج مربّع ضيق ترسم حدوده العائلة والمدرّسون وضوابط المجتمع ونواميسه.

اقرأ/ي أيضًا: السنة الدراسية 2018 - 2019: تغييرات في تدريس اللغتين الفرنسية والأنقليزية

اليوم نحن بحاجة ماسة إلى إدراج مواد على غاية من الأهمية في خلق وعي مجتمعي لدى الناشئة يمكنهم من الاضطلاع ببناء دولة ديمقراطية مدنية حقيقية

لن نغوص هنا في بعض الإصلاحات المقترحة أو التي تمّ تنفيذها، والتي تتعلّق جلّها بمعالجات لمسائل تبقى، رغم أهميتها، سطحية ولا تطال ما يحتاج فعلًا إلى الإصلاح وهي محتوى المواد التي يقع تدريسها وطريقة التدريس وتقديم المعلومات للتلميذ.

فاليوم نحن بحاجة ماسة إلى إدراج مواد على غاية من الأهمية في خلق وعي مجتمعي لدى الناشئة يمكنهم من الاضطلاع ببناء دولة ديمقراطية مدنية حقيقية، على غرار مواد الفلسفة والأديان المقارنة، فضلًا عن إيلاء اللغات الأجنبية الأهمية اللازمة، وذلك لبناء جيل يؤمن بحق الاختلاف ويحترم الآخر ويتبنى قيم الحقوق والحريات الكونية.

وتعدّ كذلك مادة التربية الجنسية من المواد التي تحتاج إلى عناية وإدراج في المنظومة التربوية من أجل تمكين الطفل/ة من أن يكون متسامحًا/ة مع جسمه وقادرًا على إدراك التغيرات التي ستطرأ عليه وتنمية وعيه الجنسي وعلاقته مع الجنس الآخر.

هذا إلى جانب مواد أخرى عديدة لتنشئته على مبادئ المواطنة. كما لا يمكن أن ننسى ضرورة تعديل طريقة التدريس للابتعاد عن خلق أجيال تتلقى ما يقدّم المدرّس دون تفكّر أو نقد بل كي نبني أجيالًا لها من القدرة على الإبداع والخلق والتجديد بما يمكّنها من النهوض بالبلاد والمساهمة الفعالة في بنائها عوض البحث عن سبل للهروب إلى الجنة الأوروبية أو "دولة الخلافة الإسلامية".

 

اقرأ/ي أيضًا:

العودة المدرسية: مدارس منهارة.. ووزارة التربية تخيّر الصمت

صيانة المؤسسات التربوية في تونس: انتفاضة المجتمع المدني وجدل التطوع والمصلحة