12-يناير-2021

في محيط مدرسة نهج الإدريسي (تصوير: رمزي العياري)

 

أنشأت المجتمعات "المدرسة" بغرض صناعة الإنسان فراكمت حولها تاريخًا من المفاهيم الفكرية والحضارية التي تؤمّن استمراريتها ونجاعتها في تجديد القيم المجتمعية وتأمينها على مرّ الحقب الزمنية، فالمدرسة كانت ولا تزال هي عنصر قوّة المجتمع وجواز تحضّره. 

وتونس كان خيارها ورهانها منذ بدايات استقلالها عن فرنسا هو "المدرسة" كيافطة سياسية واجتماعية فكان التخلي عن النظام التعليمي التقليدي (الزيتوني) وإرساء نظام تعليمي عصري عمومي وإلزامي تم تضمينه في دستور الجمهورية الأولى لسنة 1959 ورُفع بين الناس شعار مفاده "ما تقراش المستقبل ما ثماش"، كما ارتبط التغير الاجتماعي  في تونس بالدراسة والتعليم، فتم إنشاء أكثر من ألفي مؤسسة تعليمية في وقت قياسي أمّنت التربية القيمية والمعارف والعلوم لأجيال تونسية هي الآن من يقود بناء الجمهورية الثانية بعد الثورة.

لم تعد المدرسة في تونس بالجاذبية والقداسة التي كانت عليها في البدايات بل وتجرأ عليها أفراد المجتمع ومارسوا داخلها وحولها جميع أشكال العنف

إن ما أقدمت عليه تونس في إطار مشروعها الحضاري بعد الاستقلال من تأسيس لسياسة تعليمية أعلت من مكانة العلم والمعرفة، صنع صورة أيقونية مبهرة "للمدرسة" جعلت أفراد المجتمع يتعلّقون بالمدرسة وينظرون إليها كمصعد اجتماعي مغيّر لحياتهم كأفراد ومجموعات وفضاء مقدسًا يجيب على أسئلتهم الحارقة. 

لكن، على ما يبدو، أن ثورة التعليم وتأسيس المدارس على الربى التي عاشتها تونس لما يفوق النصف قرن من الزمن وكانت بمثابة الرصيد المعنوي لمختلف فئات الشعب التونسي، يبدو أنها شاخت وترهلت وتغيرت ملامحها وألوانها وذلك جرّاء عدة عوامل أهمها ما تعلق بالثورة الرقمية والاتصالية... فأصبحت "للمدرسة" مهمة وحيدة وهي التدريس وتقديم ما تيسر من العلوم والمعارف، ولم تعد بالجاذبية والقداسة التي كانت عليها في البدايات بل وتجرأ عليها أفراد المجتمع ومارسوا داخلها وحولها جميع أشكال العنف.

اقرأ/ي أيضًا:  العودة المدرسية في تونس.. طلب العلم تحت رصاص العدو

المدرسة العمومية الآن باتت محفوفة بمخاطر متعددة الأشكال سواء داخلها أو خارجها ومن ذلك مثلاً الاعتداء على حرمتها ومحيطها الخارجي، ففي ظل غياب تطبيق القانون واستغلال ضعف الدولة في السنوات التي تلت الثورة تحولت أرصفة المدارس إلى أسواق تجارية و"أكشاك" لبيع السجائر المهربة والمنتجات الغذائية المعروضة في ظروف غير صحية بالمرة كما استغل بعض الأفراد المدارس القريبة من الأسواق البلدية ففرشوا بسطاتهم و"نصبهم" مستغلين محيطها وحرمة مداخلها فيما يشبه الاحتلال التام. الأمر الذي عطّل دور المؤسسة التعليمية ومنع المتعلمين من ممارسة حقهم في التعلّم والحلم داخل مدارسهم وخاصة تلك التي يتردد داخلها أصوات الباعة المنتشرين في المحيط.

المدرسة العمومية الآن باتت محفوفة بمخاطر متعددة الأشكال ومن ذلك مثلاً أن تحولت أرصفة المدارس إلى أسواق تجارية و"أكشاك" لبيع السجائر المهربة والمنتجات الغذائية   

هذه الفوضى التي شهدتها محيطات المدارس في كامل البلاد تنبئ بمتغير مجتمعي واضح المعالم وهو أن المواطن التونسي لم يعد يقدس المدرسة كما كان في السابق ولم يعد على يقين في دورها بنفس الدرجة التي يقنت فيها أجيال ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ولم يعد يعنيه مظهرها الجمالي أو محيطها أو حدائقها أو أناقة أسوارها. لقد تحولت محيطات المدارس بالمدن الكبرى إلى ملحقات للمتاجر وفضاءات للبيع والاتجار. "الترا تونس" تطرّق إلى هذا الموضوع وكانت هذه النتيجة "المجتمع مستاء والمعتدون على محيط المدرسة في تكاثر مستغلين ضعف الدولة". 

واجهة مدرسة نهج مجاز الباب (تصوير: رمزي العياري) 

 

كنت أقطع سوق سيدي البحري بباب الخضراء بالعاصمة وكان باعة الرصيف يمارسون ضجرهم وعبثهم اليومي فينادون على السلع المعروضة على قارعة الطريق أحيانًا ويركنون إلى سجائرهم وقهوتهم أحيانًا أخرى. كان الصباح يتهجى الوجوه والمارة برفق الأيام، وقفت وسط نهج مجاز الباب قبالة المدرسة الإعدادية التي بالكاد تتعرف إليها، لقد كانت واجهة هذه المدرسة والبوابة التي يدخل منها التلاميذ محاصرة بأكشاك بيع الملابس المستعملة (الفريب) بعضهم كان ينادي بأعلى صوته على سلعته ومن المؤكد أن صوته كان يتناهى إلى الفصول فيقطع الدروس على التلاميذ. 

كان حارس المدرسة يقف بالباب. سألته عن "الأكشاك" فابتسم وعدل من وقفته وقال إنها "نبتت بعد الثورة وهي موجودة منذ سنوات وأن الأمر تجاوز المؤسسة التربوية التي حاولت في البداية التصدي لهذا الاحتلال لكنها عجزت ودومًا، وفق قول الحارس، فإن إدارة المدرسة حاورت المعتدين على حرمة المدرسة ونبهتهم إلى أن العملية التربوية تعطلت بوجود هذه الأكشاك وأن أبناء المدرسة لم تعد ظروف تعلمهم طيبة وعادية لكنهم كانوا لا يبالون"، وأضاف أن "المندوبية الجهوية للتربية بتونس حاولت من جهتها عن طريق المجلس البلدي وعن طريق المؤسسة الأمنية لكن الوضعية لم تتغير وبات تطبيق القانون أمرًا مستحيلاً في البلد".

التقيت صاحب الكشك المجاور للإعدادية، الذي أوضح أنه من حقه العمل في ذاك المكان الذي تملكه الدولة وأزاح بعض الملابس المعلقة ليشير أن كشكه من حديد ويمكن إزالته في أي وقت إن اقتضى الأمر ذلك، وعلل البائع وجوده في تلك الأمتار القليلة قرب مدخل التلاميذ قائلاً لـ"الترا تونس": "نحب نعيش وناكل خبز كي الناس.."، مضيفًا أن ما يبيعه ليس فيه إضرار بالمدرسة وتلامذتها، وقبل الانهماك في التفاوض مع أحد الزبائن قال بهدوء: "الدولة وقبل أن تزيحني من هنا يجب أن تجد لي حلاً..".

صاحب كشك مجاور لإعدادية بتونس العاصمة لـ"الترا تونس": "الدولة وقبل أن تزيحني من هنا يجب أن تجد لي حلاً.."

واصلت طريقي داخل سوق البحري، حيث لم يعد للرصيف وجود من فرط تلاصق البسطات وكثرة النصب الصغيرة التي تمنع المارة من المرور من رصيف إلى اخر وهي تعرض كل أنواع البضائع القديمة والجديدة. توقفت مرة أخرى قرب مدرسة نهج الإدريسي، التي احتلت تمامًا من قبل الباعة و"النّصابة" حتى أن بعضهم زحف إلى واجهة المدخل الإداري ليحوّل شبابيكه إلى معاليق لعرض بضاعته من "الفريب".

اقرأ/ي أيضًا: إفراغ البرامج المدرسية من النزعة الحداثية.. حقيقة أم فزاعة إيديولوجية؟

دخلت المؤسسة مستفسرًا فحدثتني إحدى السيدات العاملات بالمكان أن أمرهم قديم ويمتد إلى ما قبل الثورة لكنه تنامى واستفحل في السنوات الأخيرة، موضحة أن هؤلاء الباعة يفدون من رحم السوق البلدي المجاور ومن الأحياء والأنهج الفقيرة التي تملأ العاصمة، وأضافت محدثتنا أن الدولة لم تعد تلتفت لهذه التفاصيل  فحرمة المؤسسة التربوية لم تعد تعني شيئًا للتونسي وبالنسبة للإدارة والوزارة المهم أن تعمل المؤسسة "وفي أقصى الحالات تقلّك اكتبلي تقرير..". وبيّنت العاملة أن المدرسة كيفت نفسها مع هذا الوضع فغيّرت من صبغة المكاتب والأقسام والسكن الوظيفي للمدرسة وذلك حتى تخفف مما يحدث وفيما يتعلق بإقدام أصحاب النصب على ربط شرائط وحبال بالشبابيك ودق معاليق في الحيطان والعبث بالطلاء، فقد أوضحت العاملة أن الأمر يتجاوزهم لأن المدرسة لا تملك إلا حارسًا لا يستطيع التدخل خارج الأسوار، وفق تعبيرها.

وبعد أن نصحتني السيدة العاملة بأن لا أتحدث مع أولئك "النصابة" الذين يحتلون محيط المدرسة، توجهت إلى أحد المحلات المقابل لمدرسة نهج الإدريسي فحدثني صاحبه قائلاً: "أنا قديم في السوق واللي شفتو في السنين الأخيرة ما شفتوش عمري الكل.."، مشيرًا إلى أن المعتدين على محيط المدرسة ليسوا تجارًا بل هم من الطارئين على التجارة، موضحًا أنهم من "باندية السنوات الأخيرة"، وفق تعبيره، الذين استغلوا ضعف الدولة والفساد الإداري بالبلديات والمحاباة التي يقوم بها بعض الأمنيين. وذكر صاحب المحل أن "تجار السوق دوّنوا عريضة في الغرض وطالبوا فيها مصلحة التراتيب بالبلدية أن تعيد تنظيم السوق وتحرر الأرصفة بما في ذلك محيطات المؤسسات التربوية والإدارات العمومية لكن لا حياة لمن تنادي فكل الآذان صماء" وفق قوله. 

عاملة بمدرسة نهج الإدريسي بالعاصمة لـ"الترا تونس": المدرسة كيفت نفسها مع هذا الوضع فغيّرت من صبغة المكاتب والأقسام والسكن الوظيفي للمدرسة وذلك حتى تخفف مما يحدث

قرب مدرسة نهج مجاز الباب (تصوير: رمزي العياري) 

 

قادنا التحقيق إلى محيط المدرسة الإعدادية الهادي شاكر بشارع الهادي شاكر أو شارع بلوّر السيارات كما يحلو للتونسيين تسميته، يبدو المرور من هنا صعبًا من فرط زحمة السيارات والورشات الخاصة بتغيير بلور السيارات وكثرة الباحثين عن قطع الغيار وأولى التساؤلات التي قد تتبادر إلى الذهن هو "أين توجد هذه المدرسة وكيف يستطيع التلاميذ الوصول إلى مدرستهم وسط هذه الأمواج العاتية من الميكانيك". 

يبدو محيط المدرسة محتلاً بالكامل فهذه سيارات مركونة على طول السور الغربي للإعدادية أما المدخل الرئيسي المطل على شارع الهادي شاكر فقد تحوّل بالكامل إلى ورشات لتغيير بلور السيارات زد على ذلك أن أغلب المحلات تلقي بفضلات البلور في محيط المدرسة. 

تقدمت من الباب وقت خروج التلاميذ وهناك التقيت أحد الأولياء وهو يعمل بإحدى المؤسسات الصحية المجاورة، فأكد أن "المدرسة تعيش معاناة يومية جراء الاعتداءات اليومية على محيطها"، مضيفًا أن أغلب الأولياء منزعجين مما يحدث وسط صمت وزارة التربية والجمعيات والنقابات، وأوضح الولي أن الحلول تكمن بالأساس في وعي المواطن بأن المدرسة لابد لها من إمكانات العمل ومن ذلك المحيط السليم والخالي من العنف والازعاج والاعتداء". 

وبخصوص ما يحدث من اعتداءات على محيط المؤسسات التربوية، التقينا بالأستاذ رشيد القنوني، كاتب عام النقابة الأساسية للتعليم الثانوي بالزهور بتونس العاصمة، الذي أوضح منذ البداية أن "الجمهورية التونسية يوجد بها وإلى حدود السنة الدراسية الجارية  6115 مؤسسة تربوية من بينها 4585 مدرسة ابتدائية و1530 مدرسة إعدادية ومعهد".

كاتب عام النقابة الأساسية للتعليم الثانوي بالزهور لـ"الترا تونس": حادثة "كشك باردو" في أكتوبر 2020 والتي تورطت فيها بلدية المكان كان يمكن أن تكون منطلقًا لنقاش مجتمعي حول محيط المدارس وماذا يحدث فيه

وأضاف خلال حديثه لـ"الترا تونس" أن جل النقابات التربوية وعلى وجه الخصوص نقابة التعليم الثانوي تسجل يوميًا أرقامًا مخيفة تتعلق بالتجاوزات الحاصلة بمحيط المؤسسات التربوية العمومية وخاصة بالمدن الكبرى. وأكد القنوني أن "هناك تهاونًا ما في إنفاذ القانون على المخالفين"، مشددًا أن حرمة المدرسة هي من حرمة المواطن التونسي لأن المدرسة هي فضاء عمومي بالمعنى الرمزي والمادي للكلمة وبالتالي فإن المسؤولية هنا مشتركة.

وأوضح محدثنا أن حادثة "كشك باردو" في أكتوبر/ تشرين الأول 2020 وتورطت فيها بلدية المكان كانت منطلقًا لنقاش مجتمعي حول محيط المدارس وماذا يحدث فيه لكن يبدو أن وزارة التربية وباقي المتدخلين الرسميين لا تعنيهم أرصفة المدارس التي تحوّلت إلى أمكنة لتعنيف التلاميذ والاعتداء عليهم وابتزازهم وترويعهم من قبل "الباندية" وبيع المأكولات في ظروف غير صحية وخارج رقابة سلطة الصحة العمومية.

كما أشار كاتب عام النقابة الأساسية للتعليم الثانوي إلى أن وزارة التربية لا تملك إحصائيات واضحة حول ما يحدث في محيط مدارسها من اعتداءات وبالتالي فإن البحث عن حلول يتطلب جهدًا إضافيًا.

وختم الأستاذ رشيد القنوني بأن "نقابة الثانوي تصدت بالعرائض والاحتجاجات وإيقاف الدروس في أكثر من مكان تربوي من أجل حماية المدرسة من كل اعتداء وخاصة المعتدين على الرصيف قرب الأسواق". وقدم القنوني أمثلة حية عن تضامن نقابي حصل مع نقابة التعليم الأساسي أمام مدارس عديدة بالضاحية الغربية للعاصمة تونس تم الاستيلاء على أرصفتها واستغلالها تجاريًا بجهات الزهور والزهروني والملاسين وسيدي حسين. 

إن ما يحدث في بعض محيطات المؤسسات التربوية التونسية من استغلال واعتداء على المجال الحيوي للمدرسة من شأنه أن يربك العملية التربوية كاملة فتكون هناك انعكاسات سلبية على الحياة المدرسية برمتها وبالتالي لابد من تشخيص الوضع تشخيصًا دقيقًا يوفر الإحصائيات والمؤشرات الواضحة التي تكون منطلقاً للإصلاح والتعديل.  

"مدارس تونسية محتلة".. فيديو: رمزي العياري

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مدارس سوسة تحت وطأة كورونا

مدرّسات واجهن كورونا بمفردهن.. عندما تختلط مشاعر اليأس والتنكّر والخذلان