31-أغسطس-2022
التعليم في تونس القايدي

الإصلاح التربوي في تونس بات ضرورة ملحة دون أن تلقى المشاريع المعدة في الغرض طريقها نحو التنفيذ وظلت معطلة (ياسين القايدي/ الأناضول)

 

في بداية كل سنة دراسية وفي مراحلها المتوترة وعند كل أزمة تمرّ بها هذه المؤسسة التربوية أو تلك، تسري على الألسن ضروب من التذمّر والشكوى والاتهام، فترى السهام ترمي المعلمين والأساتذة من هذه الكتيبة الفيسبوكية وتصيب المديرين والقيمين والمتفقدين من تلك الجهة وتصوّب في اتجاه التلاميذ والأولياء والمسؤولين من جبهة ثالثة.

لم يسلم طرف من تهمة التسبب في انحدار المدرسة التونسية نحو الفاجعة المعرفية والمادية والسلوكية. هذه الوضعية تؤكدها أرقام مفزعة حول العنف والفوضى والانقطاع المدرسي. وما يزيد الأمر تعقيدًا تتويج كلّ سنة بنجاحات وشهادات تبدو في الغالب الأعمّ خالية من الرصيد العلمي المتين، أصحابها يفتقرون إلى القدرة على توظيف ما حفظوه من برامج ومحتويات وتوجيهات في عالم مهني وتواصلي وإبداعي وتكنولوجي متحوّل متطوّر متقلّب.

هذه المعطيات الانطباعية التي تدعمها بعض الدراسات المعمقة جعلت أهل الاختصاص وسلطة الإشراف وطيفًا واسعًا من المجتمع المدني يُجمعون على أنّ الإصلاح التربوي ينبغي أن يكفّ عن منحى الترقيع والارتجال فينزع نزعة علمية شاملة عميقة دقيقة.

  • بين 58 و91 من "التَّونسة" إلى العقلنة

تونس في طريقها إلى إصلاح تربوي جديد شامل و"ثوري" إن لزم الأمر، هل يعني ذلك أنّ الإصلاحات السابقة كانت متهافتة سطحية، إجابة عن هذا السؤال أكدت هدى الكافي المتفقدة العامة في مادة الفلسفة وصاحبة مشروع الفلسفة الموجهة إلى الطفل أنّ التحولات الكبرى التي مرّت بها المدرسة التونسية كانت لها مبرراتها الموضوعية، فبعد سنتين من دحر الاستعمار الفرنسي صدر القانون التوجيهي عدد 118 المؤرخ في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 وكان الرهان في فترة بناء الدولة المستقلة قائمًا على تَونسة التعليم وتعميمه ونشره في كامل تراب الجمهورية بالتعويل على الإمكانيات المتاحة آنذاك ماديًّا وبشريًّا، وما يُحسب لهذه المرحلة من تاريخ المدرسة التونسية، وفق الكافي، أن التعليم كان يمثّل مصعدًا اجتماعيًّا.

هدى الكافي (المتفقدة العامة في مادة الفلسفة): بعد دحر الاستعمار كان الرهان قائمًا على تَونسة التعليم وتعميمه ونشره في كامل تراب الجمهورية بالتعويل على الإمكانيات المتاحة آنذاك ماديًّا وبشريًّا

الإصلاح الثاني سنة 1991 خيّم عليه، حسب رأي الكافي، الصراع بين بن علي والإسلاميين، وقد تمّت نسبته إلى الوزير محمّد الشرفي الذي حاول عقلنة البرامج والمضامين حتّى ينأى بها عن التوظيف الإيديولوجي من هذا الطرف أو ذاك.

ومن خصوصيات هذه التجربة، وفق تقدير أحمد الملولي الكاتب العام السابق لمتفقدي التعليم الثانويّ ومنسق اللجنة الوطنية للمنهاج العام، الإعراض عن المنحى التلقيني والدفع نحو الطريقة التفاعلية وفق مقاربة بيداغوجية نشيطة.

صورة
المتفقدة العامة في مادة الفلسفة وصاحبة مشروع الفلسفة الموجهة إلى الطفل هدى الكافي

 

  • إصلاح 2002 والسقوط في ثقافة الكم والرضوخ إلى سلطة السوق المُعولم

المحطة الأخيرة للإصلاح التربوي في مطلع القرن الحادي والعشرين لم يكن المقصد فيها علميًّا أو عقلانيًّا أو تأسيسيًا أو وطنيًّا بقدر ما كان خاضعًا إلى ما يمكن نعته بالإكراهات الخارجية فالقانون التوجيهي عدد 80 المؤرخ في 23 جويلية/يوليو 2002 أملته على حدّ تعبير الكافي "جملة من التحولات الدولية ودخول تونس ضمن مسار العولمة التي فرضت على جميع الدول مراجعة أنظمتها التربوية بهدف تطويع المدرسة لمتطلبات السوق المُعولم وذلك بإدخال مجموعة من الاعتبارات الكمية في قيس مردود المدرسة".

هدى الكافي: المحطة الأخيرة للإصلاح التربوي في مطلع القرن 21 ارتبطت بجملة من التحولات الدولية ودخول تونس ضمن مسار العولمة التي فرضت على جميع الدول مراجعة أنظمتها التربوية بهدف تطويع المدرسة لمتطلبات السوق المُعولم

ما يؤكّد افتقار معايير الإصلاح التربوي سنة 2002 إلى التوازن والانسجام، وفق المتفقدة العامة لمادة الفلسفة "لجوء نظام بن علي إلى حلول ترقيعية مثل احتساب 25% من معدل التلميذ السنوي في معدل النجاح في البكالوريا، وهو إجراء كان الغرض منه تضخيم نسب النجاح على حساب معيار جودة المستوى. لذلك تمّ التخلي عنه نهائيًا سنة 2017".

من الطبيعي أن تتعالى الأصوات منادية بتغيير شامل بعد عقدين من العجز والتردّد مما جعل الصعوبات التي تواجهها المنظومة التربوية تزداد تعقيدًا من سنة إلى أخرى، وهي صعوبات تقتضي حسب الكافي "أن تساير المدرسة التحولات المعرفية والتكنولوجية التي يشهدها العالم ولا سبيل إلى ذلك إلا بتحقيق الجودة العلمية والبيداغوجية التي طالبنا بها منذ سنوات لكن دون جدوى".

  • تفكك وافتقار إلى الانفتاح والجدوى

من المقاصد الكبرى التي ينبغي التمسّك بها في الإصلاح التربوي المزمع إنجازه جعل المدرسة، على حدّ تعبير الكافي "رافعة من رافعات التنمية والخروج بتونس من هذه المنزلة التي انتهت إليها بعد سنوات من عدم الاستقرار السياسي إضافة إلى الأزمة الاقتصادية في تونس والتي أثرت تأثيرًا سلبيًا على جميع المرافق الحيوية في البلاد بما في ذلك المدرسة والمدّرسين".

في نفس السياق، يقول أحمد الملولي إن "مسار الإصلاح التربوي بات أكثر إلحاحًا من ذي قبل فلقد ضعف، وفق تقديره، أداء المدرسة حين اختزلت أدوارها في التلقين ومراكمة المعارف غير المجدية واستحالت أزمة المدرسة بوجه عام في أزمة المعنى حيث لا يدرك المتعلمون كنه التعلّمات ودلالاتها ووظائفها".

أحمد الملولي (الكاتب العام السابق لمتفقدي التعليم الثانوي): مسار الإصلاح التربوي بات أكثر إلحاحًا من ذي قبل فقد ضعف أداء المدرسة حين اختزلت أدوارها في التلقين ومراكمة المعارف غير المجدية

الأخطر من ذلك، في رأي الملولي، أنّ النظام التربوي الحالي قد كشف عن تفكك بين مكوناته، تفكك بين المراحل التعليمية وتفكك بين المواد التعليمية وتفكك في مستوى نفس المادة بحسب المستويات التعليمية وغياب التفاعل والتعالق المطلوب بين التعلّمات، وقد أفضى ذلك حسب الملولي إلى التركيز على المضامين والمعارف الشكليّة على حساب القيم المواطنية والإنسانية المكوّنة لشخصيّة المتعلم ومختلف أنواع ذكائه العرفاني والاجتماعي والمنهجي والتواصلي والجمالي والإيتيقي.

ومن اليسير على حدّ تعبير الملولي التفطن إلى بعد العديد من المواد المُدرّسة عن إشكالات الواقع وعالم الشغل والمستجدات العلمية والتقنية.

صورة
أحمد الملولي الكاتب العام السابق لمتفقدي التعليم الثانوي

 

  • التجاذب الإيديولوجي وتعطّل مبادرات الإصلاح

فصّل أحمد الملولي لـ"الترا تونس" القول في بعض مبادرات الإصلاح التي ظهرت بعد ثورة 2011 قائلًا: "شهدت أروقة وزارة التربية التونسية حركية أثمرت عديد المشاريع التي لم تكتمل بداية من الندوة الوطنية حول منهجية الإصلاح سنة 2012 ووصولًا إلى الخطة الاستراتيجية للإصلاح التي انطلقت سنة 2015 وأفرزت تشكيل لجان إصلاح تشاركية ضمت الوزارة والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان ممثلًا لمنظمات المجتمع المدني وتقدمت معها اللجان أشواطًا في إنتاج الوثائق والسندات الخاصة بالإصلاح ولكن تعطلت أعمالها مع إقالة الوزير ناجي جلول ثم تشكلت لجنة وطنية أنتجت المنهاج العام التونسي سنة 2017 وظل هذا الإنجاز معطلًا ومحل صراع وتجاذب".

أحمد الملولي: بعد الثورة شهدت أروقة وزارة التربية عديد مشاريع الإصلاح التي لم تكتمل بدءًا بالندوة الوطنية حول منهجية الإصلاح سنة 2012 وصولًا إلى تشكيل لجنة وطنية أنتجت المنهاج العام التونسي سنة 2017 الذي ظل معطلًا ومحل صراع وتجاذب

تمّ أخيرًا الاتفاق بين سلطة الإشراف ونقابات التعليم حول وثيقة مرجعية سميت الإطار المرجعي للتعلمات، رغم ذلك لم تُخف هدى الكافي حسرتها بسبب ما تمّ إهداره من جهد ومال ووقت من أجل الوصول إلى وثيقة رغم أهميتها لا يمكن اعتبارها أفضل مما أنجز في المشروع السابق سنة 2017.

وأكدت الكافي أنها قد ثمنت وثيقة المنهاج الدراسي التونسي العام وأكدت في عديد المناسبات حملها لتصور شامل لبنية المدرسة التي نطمح إليها، مستدركة: "للأسف تم التخلي عن هذه الوثيقة ووقع حذف عناصر عديدة هامة من هذا التصّور لم تدرج ضمن الوثيقة الجديدة التي ستطرح على الاستشارة منها تغييب التنصيص على أهمية الإعلامية كما وقع التخلي عن مشروع التربية على وسائل الإعلام والتربية على الصحة الشاملة وغيرها من أنواع التربية التي اشتغلت عليها الوزارة في مشاريع متعددة خلال السنوات الأخيرة".

  • من تشتت المواد المدرسية إلى التكامل والانسجام

يهدف الإصلاح، حسب تعبير أحمد الملولي، إلى تجاوز البراديغم التحليلي الذي يُقطّع المعارف ويجزئ المكتسبات ويفصل بين المكونات مقابل التوجه نحو براديغم منظومي يصل المعارف بالكفايات ضمن تصوّر تتقاطع فيه المواد وتتصل فيه المعارف بالمهارات وهو ما يُؤمّن تجاوز أزمة المدرسة وأزمة المعنى في علاقة بتعلماتها. هذا البراديغم المنظومي كفيل، وفق الملولي، بتحقيق نتائج عملية هامة منها ربط المدرسة بالحياة ووصل التكوين بالتربية وربط المعرفة بالفعل وتنمية مهارات الحياة، إجرائيًا يقتضي هذا المقصد، حسب الملولي، تخصيص أزمنة تتقاطع في خضمّها المواد وتتنافذ وتُدرج فيها "التربيات" على المواطنة وحقوق الإنسان والصحة وتُدمج فيها كذلك مهارات الحياة كالتفكير النقدي وحلّ المشكلات والتشاركية والإبداع والاستقلالية.

أحمد الملولي: مشروع الإصلاح وفق المقاربة المنظومية يتجسّد من خلال تجاوز البرنامج القائم على المواد إلى اعتماد منهاج عام يحدد مجالات التعلم التي تحدّد جملة المعارف والكفايات التي ينبغي اكتسابها

ويرى الملول أن مشروع الإصلاح وفق المقاربة المنظومية يتجسّد من خلال تجاوز البرنامج القائم على المواد/عائلات المواد إلى اعتماد منهاج عام يحدد مجالات التعلم التي تعكس رؤية شاملة لغايات المنظومة التربوية وأهدافها وتحدّد جملة المعارف والكفايات التي ينبغي اكتسابها، وتعدّ المجالات وفق هذه الرؤية أساسًا جديدًا للمدرسة والتعلمات، إذ لا يعبّر المجال عن استحداث تعلمات أو مواد جديدة بل يعبّر عن إطار مرجعي موحد وناظم لمختلف مراحل التعليم في تونس بحيث تساهم كل مادة من المواد في كل المجالات وتستمد المواد من تلك المجالات المختلفة معناها لتهبها أفقًا مشتركًا وأهدافًا موحدة مثال مجال اللغات والتواصل، ومجال تكوين الشخص والمواطن، ومجال الثقافة ورؤى العالم، ومجال المناهج والتقنيات والروح العلمي.

  • تجاذبات ومعيقات

رغم تفاؤله بمشروع الإصلاح التربوي الحالي، يعترف أحمد الملوي بوجود معطلات لخّصها في جملة من النقاط منها واقع التجاذب السياسي باعتبار أنّ كلّ طرف يريد التحكم في مخرجات المدرسة وغياب المجلس الأعلى للتربية بما هو هيكل مستقل وضعف الموارد المالية المخصصة لوزارة التربية.

هذه المعطلات تنضاف إليها جملة من العوائق الذاتية منها غياب الانسجام في الرؤية بين الفاعلين التربويين والطابع المحافظ للمتدخلين في الشأن التربوي وضعف الجرأة وروح المبادرة.

وينهي الملولي تدخله قائلًا "لا معنى لإصلاح لا يتحرك ضمن رؤية منظومية تؤمّن التجديد وتجعل من المدرسة فضاء جاذبًا أخشى أن يفرز هذا المخاض إصلاح شكلانيًا لا علاقة له بمقتضيات المرحلة".