مقال رأي
تقريبًا الخبر الوحيد الذي غطى على أخبار الكورونا نهاية الأسبوع هو الخبر المتعلق بمبادرة تشريعية للنائب مبروك كورشيد وأمضى عليها أكثر من أربعين نائبًا حول مقترح قانون مقّدم للبرلمان خلال شهر مارس لتحوير الفصلين 245 و247 من المجلة الجزائية بادعاء "أخلقة الحياة السياسية والاجتماعية". وبموجب هذه المبادرة التشريعية، يعاقب مرتكب القذف الإلكتروني بالسجن مدة عامين وبخطية مالية تتراوح بين 10 آلاف و20 ألف دينار ويرفع العقاب إلى الضعف إذا كان القذف واقعًا أثناء عملية انتخابية أو في الستة أشهر السابقة لوقوع الانتخابات. كما يضاعف العقاب إذا تم القذف من شخصيات مستترة أو متنكرة تحت أي مسمى مع مضاعفة العقاب دائمًا في حالة العود.
استهدف مقترح القانون مواقع التواصل الاجتماعي، وفيها تحديدًا انطلقت حملة تنديد واسعة من قبل مستعمليها ضد هذا المقترح
استهدف مقترح القانون مواقع التواصل الاجتماعي، وفيها تحديدًا انطلقت حملة تنديد واسعة من قبل مستعمليها ضد هذا المقترح، والتهديد بأنه سيتم ممارسة القذف الإلكتروني على النواب تحديدًا، متهمين إياهم وخاصة الممضين على العريضة وعلى رأسهم المبادر بها مبروك كورشيد بأنهم منغمسون في هواجسهم السياسية على حساب ما تواجهه البلاد في أزمة الكورونا.
اقرأ/ي أيضًا: أزارقة الإعلام أو التكفيريون الجدد
خارج مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا، صدرت بيانات من قبل المجتمع المدني مثل هيئة المحامين ونقابة الصحفيين تنديدًا بالقانون. وفي ظرف 24 ساعة، شاهدنا سلسلة من التراجعات و"سحب الإمضاءات" من قبل الممضين (رغم أن النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب لا يتيح "سحب الإمضاء") على أساس أنه تم تضليلهم واطلعوا فقط على وثيقة "شرح الأسباب".
ولأنه بقي تقريبًا وحيدًا، تراجع النائب كورشيد في نهاية الأمر معتبرًا أن "حملة غير عقلانية" تسببت في سوء فهم المبادرة وأنه بادر به قبل أزمة الكورونا وأعلن سحبه إياها في انتظار ظروف أخرى.
لماذا يصبح هذا الموضوع أولويًا بهذه الدرجة خاصة في سياق هيمنة أخبار الكورونا على البلاد؟
ما حدث ملفت جدًا للانتباه ويظهر القوة الرهيبة لمواقع التواصل الاجتماعي التي استهدفها مقترح القانون. اذ استطاعت هذه المواقع وفي ظرف لا يتجاوز 24 ساعة تسليط ضغط مكثف "افتراضي" انتهى إلى أن يقبر واقعيًا وفعليًا مقترح هذا القانون وإنهاء كل الإجراءات القانونية التي تتيح مناقشته في أعلى سلطة تشريعية في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة "كورونا" ومستقبل الصحافة والميديا التونسية
لماذا يصبح هذا الموضوع أولويًا بهذه الدرجة خاصة في سياق هيمنة أخبار الكورونا على البلاد؟ ولماذا هناك معاداة بهذه الدرجة لمقترح قانون يستهدف في عنوانه "نشر الأخبار الكاذبة" في الوقت الذي يوجد فيه تعاطف شعبي واسع مع التعامل الصارم للحكومة ضد محاولات لنشر الاشاعات في زمن مواجهة الكورونا؟
يمكن أن نقول إن هذا مؤشر آخر لا غير على أن البرلمان أصيب بالكورونا منذ فترة طويلة في أعين الناس، وأصبح يُنظر اليه كمصدر للأوبئة والمشاكل. للأسف، عديد النواب المجتهدين والناشطين من أجل القيام بدورهم الرقابي والتشريعي ظُلموا في هذا الخضم. لكن نحن ازاء واقع لا غبار عليه: البرلمان فقد مصداقيته بشكل أصبح يهدد دوره المحوري وأهميته والاحترام الشعبي الواجب له. وهذا ما يفسر جزءًا من شعبية الرئيس قيس سعيّد الذي برز في خضم تراجع الثقة في البرلمان، وهو غيره من الشخصيات التي بنت هويتها السياسية أساسًا على "استعداء النخبة"، وأصبحت النخبة عمليًا مجسمة منذ سنوات في مشهد مداولات المجلس التي يتم بثها على التلفاز للعموم.
لا شك أن صورة البرلمان قبل الكورونا لم تكن جيدة، لكن البرلمان في زمن الكورونا ليس بصدد إصلاح هذه الصورة بقدر ما هو بصدد مزيد تشويهها
لولا هذه الصورة السلبية لأمكن نقاش مقترح القانون بشكل عقلاني. ففي الفترة الأخيرة، كان هناك تعاطف شعبي حقيقي مع إيقاف أي طرف ينشر إشاعات ضد الحكومة أو القيادات الأمنية مثلما حصل عندما تم نشر إشاعة استقالة آمر الحرس الوطني وتم لاحقًا إيقاف المتسبب فيها. ومما لا شك فيه أن "الاخبار الكاذبة" (fake news) أصبحت تشكل المشهد السياسي في أكثر من بلد، حيث يتم الاستثمار في حرية الرأي لتشويه الآخر، وفي النهاية السياسة هي صورة الأفعال وليس الأفعال كما هي فعلًا.
هذه الصورة لن تتحسن قريبًا. إذ إن تردد عديد النواب خاصة كتلة حركة النهضة التي تشارك في الحكومة بسبعة وزراء في منحها تفويضًا على أساس الفصل 70 من الدستور بسبب قلة الثقة فيها، مثال آخر على ترتيب الأولويات بما يرسخ صورة المؤسسة التي لا تعمل كما يجب ولا تترك الحكومة تعمل.
لا شك أن صورة البرلمان قبل الكورونا لم تكن جيدة، لكن البرلمان في زمن الكورونا ليس بصدد إصلاح هذه الصورة بقدر ما هو بصدد مزيد تشويهها.
اقرأ/ي أيضًا: