13-يوليو-2022
الدستور التونسي

دستور قروسطي شكلًا ومضمونًا، سياقًا وصياغة""

مقال رأي

 

يذكر الصغيّر الصالحي في كتابه "الاستعمار الداخلي" مديحًا من الشاعر والشيخ الزيتوني محمود قابادو لدستور 1861، يقول فيه: 

"لما رأت مصباح شرع محمد * بتلاعب الأهواء في خفقان 

جعلت له القانون شبه زجاجة * لتقيه هبّ عواصف الطغيان". 

أما بعد إلغاء العمل بالدستور بنحو سنتين، يعود الشاعر نفسه للقول: 

"لن يستوي الحكم إلا لفارد * قد استنجد الآراء وهو عميدها [1]". 

في السياق ذاته، أتى صاحب الإتحاف على ذكر أحد أسباب دستور 1861 فيقول: "وصار بعض المتزلفين (...) يحمد الله عند ملاقاة الباي، على هذا اليوم الذي رأيناك فيه على كرسيك [2]".


أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى الأولى لاغتيال الديمقراطية الناشئة، والمفترض أن تقام عندها استصدار شهادة وفاتها، من خلال الاستفتاء المزمع حول مشروع الدستور الصادر بالرائد الرسمي لما تبقّى من الجمهورية يوم 30 جوان/ يونيو الفارط. دستور قروسطي شكلًا ومضمونًا، سياقًا وصياغة، صادر عن رئيس بصلاحيات إمبراطورية لا محدودة وفق الأمر 117، وما مشروع الدستور المعلن إلا دسترة صريحة لهذا الأمر.

توطئة إنشائية موغلة في الذاتية:

من المعلوم لمتابعي الشأن السياسي بصفة عامة والمختصين في النصوص القانونية والتشريعات، أن المفهوم الأساسي للتوطئة هو سلطتها المتكاملة "the integrative power". فبالإضافة إلى كونها تمثّل فكر كاتبي الدستور والمناخ العام الذي صيغ خلاله، يفترض أن تكون محل إجماع سياسي قدر الإمكان. من ضمن ملاحظات الباحث في العلوم السياسية خير الدين باشا، هو الذاتية المفرطة التي تميزت بها مسودة الدستور. يقول: "لذلك يفترض فيها أن تكون محلّ أقصى قدر ممكن من الإجماع السياسي وأن تظلّ قادرة على الصمود لأطول مدى ممكن، لا أن تُهجر بشكل سريع أو أن تكون قائمة على التصحيح السياسي وردّ الفعل. في حين أنّ الصياغة المعتمدة، وعلى عكس ذلك، تعبّر تمامًا عن الصياغة المنفردة للنص [3]".

المفروض في الدساتير أن تقرأ ككل متكامل وألا تتناقض فصولها مع بعضها البعض، لكن الحال غير الحال في مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء

كما تطرح التوطئة نقاط استنكار توحي بالتصلّب والإنكار والنهج الانفرادي، كالهوس المفضوح بتزييف التاريخ عند اختصار تاريخ الثورة في 17 ديسمبر/ كانون الأول، وعدم ذكر دساتير ما بعد الاستقلال، فإن أكثر مشروع الدستور يتضمن أكثر من صورة كاريكاتورية، كعبارة "تصحيح مسار التاريخ" (نعم هكذا!). ومسار التاريخ هذا مختزل من أيام "الزمام الأحمر" لصاحبه عثمان داي وعهد الأمان 1857، ثم يتوقف التاريخ حتى يوم 25 جويلية/ يوليو 2021، فلا حركة وطنية ولا دستوري 1959 و2014 ـ رغم أنه تم نسخ شبه كلي للباب الثاني منه- فقط عثمان باي والسلطان السعيد. 

هوس بالتفرد يقول عنه الصحفي زياد كريشان، في مقال صادر عنه بجريدة المغرب بتاريخ 2 جويلية/ يوليو 2022: "نحن إزاء قراءة اختزالية لا تؤمن بالتراكم ولا تؤمن بالتاريخ والحداثة ما دامت تضع وثيقة كتبت في بداية القرن السابع عشر أي قبل كل المفاهيم الحديثة للدولة وللمؤسسات وللديمقراطية، فوق دستوري 1959 و2014 اللذين تريد إزالتهما من التاريخ الحديث لتونس".

حقوق وحريات مكبلة بأصفاد مفخخة:

تضمّن مشروع الدستور كل الباب الثاني تقريبًا المتعلّق بالحقوق والحريات من دستور 2014 مع إعادة صياغة في شكل Plagiat لبعض الفصول. المفروض في الدساتير أن تقرأ ككل متكامل وألا تتناقض فصولها مع بعضها البعض، لكن الحال غير الحال في المسودة المعروضة. مثلًا عبارة "الحفاظ على النفس" المطروحة في الفصل الخامس من مشروع الدستور يمكن أن تفتح أبوابًا للتأويل تقود إلى حرمة النفس، وبالتالي منع الإجهاض.

عبارة "الحفاظ على النفس" المطروحة في الفصل الخامس من مشروع الدستور يمكن أن تفتح أبوابًا للتأويل تقود إلى حرمة النفس، وبالتالي منع الإجهاض

 

 

من بين مآخذات اتحاد الشغل على مشروع الدستور في قراءته النقدية الصادرة يوم 8 جويلية/ يوليو 2022، التخلي عن الفصول 17، 18 و19، التي تنص على احتكار الدولة إنشاء القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي، وعلى حيادها التام وجمهوريتها. في المقابل، نجد عبارة واردة بالتوطئة، لافتة للانتباه وقابلة للتأويل الموسع: "إنّنا نؤسس إلى تركيز نظام دستوري جديد يقوم لا فقط على دولة القانون، بل على مجتمع القانون حتّى تكون القواعد القانونية تعبيرًا صادقًا أمينًا عن إرادة الشعب، فيـستبطنها ويحرص بنفسه على إنفاذها ويتصدّى لكل من يتجاوزها أو يحاول الاعتداء عليها"، وكأننا إزاء نص تأسيسي لغستابو [4] تونس. 

فعبر أي آليات يفترض أن ينفذ "الشعب" القواعد القانونية التي سيستبطنها؟ وما هي الحدود بين الدولة والمجتمع التي عند انصهارها يتحول المجتمع إلى مجتمع القانون، ما يوحي ربما بحالة تعميم للعنف الشرعي وتنازل الدولة عن احتكاره! أم أنها مأسسة لروابط شعبية لتطبيق القانون؟

تجدر الإشارة إلى تعدد حالات الإحالة على القانون وإغفال مبدأ التناسب، ما يفضي إلى تقييد دستوري غير معلن للحقوق والحريات

قبل الختام، تجدر الإشارة إلى تعدد حالات الإحالة على القانون وإغفال مبدأ التناسب، ما يفضي إلى تقييد دستوري غير معلن للحقوق والحريات.

"يطول الكلام على محتوى الدستور إلا أنّه عفّن علاقة الإسلام بالدولة وأسس لنظام رئاسوي يجعل من الرئيس دكتاتورًا بموجب الدستور". هكذا علّق حمادي الرديسي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة تونس، على مشروع الدستور في حوار له على منصة الجمهورية. 

بالنظر إلى الانتهاكات الدستورية، القانونية والحقوقية المتعددة منذ 25 جويلية 2021 حتى الآن، لا شك أن تونس مقبلة على دكتاتورية مقيتة أقبح من تلك التي أزاحتها يوم 14 جانفي 2011

بالنظر إلى الانتهاكات الدستورية، القانونية والحقوقية المتعددة والمضاعفة منذ 25 جويلية/ يوليو حتى الآن، لا شك أن تونس مقبلة على دكتاتورية مقيتة أقبح من تلك التي أزاحتها يوم 14 جانفي/ يناير 2011.

 


[1] الاستعمار الداخلي والتنمية غير المتكافئة. الطبعة الثانية. ص186.

[2] الإتحاف. الباب الثامن. ص163

[3] ملاحظات على هامش توطئة مشروع الدستور. المفكرة القانونية. تاريخ الاطلاع: 12/07/2022.

[4] البوليس السري النازي.

 

  •   المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"